د.محمد حسين حبيب: ” كيف نسامحنا”..التجليات الفكرية والجمالية في مسرح المقاومة.
د. محمد حسين حبيب★
هيمن ( مسرح المقاومة ) وعبر الترحيلات التاريخية المسرحية ، الاجنبية منها والعربية، على فضاءات المدونات النصية والمشهدية ، التي تفاعلت مع فكرة ( المقاومة ) شانها شأن الفضاءات الأدبية والفنية الأخرى : كالشعر والرواية والسينما واللوحة التشكيلية ، ويجزم غالي شكري في كتابه ( أدب المقاومة ) بقوله : ” ليس هناك عمل أدبي جاد في تاريخ الإنسان القديم والحديث يمكنه أن يخلو من هذه السمة البارزة ، وهي المقاومة ، لأن هذا العمل يفقد عنصراً خطيراً من مكونات وجوده ، إذا خلا – من أحد وجوهه – من فكرة الصراع بين الإنسان والكون ، سواء تمثل هذا الكون في الوجود الطبيعي أو النسيج البشري” ويتوقف عند الأمثلة العديدة من نصوص المقاومة بالنقد والتحليل مثل المسرحيات : ( القديسة جون لبرنادشو وتحديداً عند شخصية جان دارك ، ومسرحية (ثمن الحرية) لعمانؤيل روبلس، ومسرحية (سيأتي الوقت) لرومان رولان ، ومسرحية المحراث والنجوم لشون اوكيزي ، ومسرحية (ليالي الغضب) لأرمان سالاكرو ، ثم يختم بمسرحيتين لجان بول سارتر هما : (الذباب وموتى بلا قبور )
أما إذا ذهبنا إلى الأمثلة من النصوص المسرحية العربية التي بصمت المقاومة سلطتها الفكرية والحكائية عليها فهي كثيرة جداً ، ذلك أن المسرح المقاوم فرض فكره وشكله على خطاب المسرح العربي بوصفه نوعاً مسرحياً حديثاً وحداثوياً، على وفق الحاجة المجتمعية والثقافية والسياسية العربية ، المتورمة بالأزمات المتلاحقة والمستندة على المقاومة كأنها الركيزة المحورية لتطلعاتها الإنسانية الحالية والمستقبلية .
أولاً: النص
لماذا تموت الأمهات ؟ .. جملة استفهامية ارتكز عليها نص المؤلف إسماعيل عبد الله(كيف نسامحنا – أولئك أصحاب الجحيم ) ، فللوهلة الأولى يبدو أنه تساؤل تقليدي ، إذ ليس فقط الأمهات تموت ، بل جميع الكائنات الحية نهايتها الموت فهذه سنة الحياة لاستمراريتها وفقاً لثنائية الولادة الجديدة والموت ، لكن إذا ما ربطنا هذه الجملة الاستفهامية ، أو هذا التساؤل ، بالمتن الحكائي لنص المؤلف هنا ، نجدها تأخذ مديات ومعان وجودية فلسفية احتجاجية مقاومة ، لأن الموت وبحسب هذه المدونة النصية ليس تقليدياً ، بل هو ذلك الموت القسري والقهري المعنف تحت سلطة التعسف ، ودستوبيا الواجهات المزيفة والشعارات المتناقضة بين قولها وفعلها ، هذا كله وغيره ما تصدت له المرأة الملفوفة رقبتها بحبل الإعدام وهي تنتظر مصيرها بالشنق موتاً ، إلا أن القدر أجل مصيرها ساعة واحدة او أقل وهي المنحة الحياتية التي قدمها لها عزرائيل بحسب ما جاء في السرد الحواري للنص .
كيف نسامحنا ؟ نص مسرحي يفترض المكان والزمان والاشياء ، مثلما افترض الروائي مجيد طوبيا في روايته ( الهؤلاء ) افترض مدينةأيبوط التي يتحكم بها زعيمها ( الديجم ) بكل جبروته وقساوته الدموية لناسها البسطاء والطيبين ، فافترض عبد الله هنا ( البناية ) متعددة الشقق السكنية يسكنها رجالات التجارة والفساد والتسلط الجائر ، وهم يسعون التخلص من هذه المرأة التي تسكن في سرداب العمارة السفلي ، وهي تشكل لهم مصدر قلق وتخوف على بقائهم في جرهم وجريرهم الغاشم والظالم ، لكن الفشل في النهاية كان مصيرهم ، فعبر التحولات الدرامية وتنقلات أحداثها من شقة لأخرى ومن مشهد لآخر ، كشف النص عن تعبيرية مرمزة في منهج الكتابة ، فعبر فرضيته المكانية والزمانية المطلقة وأسماء شخصياته بـ ( الرجل 1 / والرجل 2 … إلخ من الشخصيات ) باستثناء شخصية ( عامل التنظيف ) الذي عبر عنه النص بوصفه الشاهد على العصر ، والذي نراه نحن بوصفه صوت المؤلف في النص ، أو هو ذلك الراوي العليم المتخفي في السرد الروائي ، أو هو الخبير في التجربة الحياتية المنفعلة دائماً ، وهو أيضاً فيلسوف النص الذي اختاره المؤلف من شريحة الفقراء تحديداً ، ليبث لنا الاسئلة الوجودية المتلاحقة : ” من نحن ؟ من أين أتينا ؟ وإلى أين نحن ذاهبون ؟ ماذا تعني الحياة ؟ ما هو الزمن ؟ وكيف السبيل إلى الخلود ؟ ” وفي هذا التساؤل الاخير إحالة مباشرة إلى جلجامش في الملحمة البابلية القديمة الذي سعى إلى الخلود لكنه فشل واكتشف أن الخلود بالأعمال والآثار الصالحة لبني البشر .
لماذا يلجأ كاتب النص إلى عدد من الاقتباسات الشعرية أو النثرية ويضعها في نصه المسرحي ؟ هل هو عاجز عن التعبير مثلاً ؟ أو ثمة عجز أو قصور منه للتعبير عن الحالات الشعورية في بعض المواقف الدرامية لشخصياته ؟ .. فلقد كشف عبد الله هنا عن اقتباساته الشعرية من كبار الشعراء العرب وجلهم يصنفون من شعراء المقاومة ، أمثال : ( محمود درويش و سميح القاسم و توفيق زياد ومظفر النواب و دعبل الخزاعي وإسماعيل عبد الله ) إلى جانب إفادته من مدونات : ( زياد خداش ومريم قوش وعيسى فراقع و نضال الفقعاوي ) .. برغم أن النص كان حافلاً بجمل حوارية ذات طاقة شعرية وشاعرية مثل :المرأة : عدالة السماء حصنت ونفثت فيها أنفاس الخلود ، خيولكم مثقلة بآثامكم ، عاجزة عن مطاردة براق روحي المحلق لمعانقة قلب السماء ، اسراؤكم صاغر خائر عن اللحاق بمعراجي.
الرجل 3 : معراج إلى الهاوية التي تنتظرك .
المرأة : لا يهوي من يحلق بجناحين من نور ونار ص 5 –النص.
وأيضاً في مكان آخر من النص :
الرجل 4 : ان نجوت بمجدافيك ، تنتظرك على الشاطئ فوهات من سعير ستجتث جذورك من هذا البيت ، وستقتلعة آثارك وذكرياتك من أرضها وسترحلين في الفراغ .
وأيضاً :عامل التنظيف : تفقد من تحب ، تفقدهم قلباً قلباً ، تأمل وجوههم ، احفظ ملامحهم جيداً ، اختزلهم في روحك كما تختزل كتاباً ، املأ رئتيك من أريج أصواتهم ، قل لهم أحبكم مثل الزيتون وأكثر ، فالأرض كالزيتون لا تنسى ) ص 20 –النص
وكثيرة هي الأمثلة التي غُلفت بجمل حوارية وصياغات تأليفية كثيرة حلقت بالمتن الحواري بطاقة شعرية واضحة ، إذ لم يكن المؤلف هنا قاصراً عن تعبيراته ، ولم يكن عاجزاً عن تصوير مكامن الألم النفسي أو الجسدي أو الفكري لشخصياته ، بل إنه بحث عن شعرية ذات طاقة موغلة في الخيال ، تغرز في مخيالها سبر اغوار التأثير ، لا تلك التي تتبنى معنى الشعور المعجمي أو القاموسي لمفردة الشعر بمعن( شعر بالشيء) ، أو ذاك المقترن بأسلوبية الانزياح اللفظي أو الدلالي ، بل نجد أن هذه الاقتباسات جاءت من أجل الوظيفة الشعرية المراد منها قوة التأثير الذي تهيمن على السامع عبر كلام يسمعه فيتحرك في داخله شيء يهز كيانه هزاً عاطفياً ووجدانياً ، ولأن المواقف الدرامية المتمردة والاحتجاجية في هذا النص تحتاج لهذه البلاغات الشعرية المقاومة في اسمى مستوياتها الفكرية والجمالية ، من هنا جاءت خيارات المؤلف لهذا العدد من كبريات القصائد الشعرية لزجها أو تضمينها عبر انتقالات نصه المتلاحقة .
ومن المهم الإشارة هنا ، إلى أن نص ( كيف نسامحنا ؟ ) جاء عبارة عن سيناريو مسرحي منضبط في نصه الثانوي أي (ملاحظات المؤلف) وإرشاداته في تحريك مشاهد النص وانتقالاته الزمكانية وتداخلاتها المشهدية ، فضلاً عن خياراته حتى في نوع المؤثرات الصوتية ، بل وحتى في إظلام هذه الشقة وإنارة الشقة الأخرى ، وجد أن هذا النص يصلح تماماً لسيناريو سينمائي مع إجراء بعض التعديلات السينمائية الطفيفة عليه .. ترى .. كيف تعامل معه المخرج ( محمد العامري) كإخراج مسرحي؟
ثانياً العرض
مثلما ذهب المؤلف في الإعلان التعبيري المرمز عن فرضيته المكانية لفضاء نصه ، عمد المخرج ( العامري ) هنا إلى فرضيته الاخراجية بتقسيم فضائه المسرحي إلى اربعة مستويات مشهدية ، ثلاثة منها أمامية مختلفة الارتفاعات ، باستخدامات متعددة لوظيفة كل مستوى من هذه المرتفعات ، بوصفها الشقق المتعددة للبناية مرة ، وتوظيفها كدهاليز لإبرام الدسيسة وحياكة المؤامرات ضد بطلة العرض ، المرأة المقاومة ، التي نشهدها بدءاً من فرجة مسرحية وهي تتسيد ساحة الاعدام وسط سردابها السكني نفسه باستثماره إخراجيًا بتعدد وظيفته الصورية ودلالاتها الفكرية والجمالية ، أما المستوى الرابع فكانت المرآة الكبيرة العاكسة كأنها الصورة السينمائية التي تقبع عين كاميرتها خلف الممثلين ، لتبث لنا مباشرة تحركاتهم لكن من وجهة معاكسة لنظر المشاهدين ، سواء مشهد الإعدام او المشاهد الأخرى للسرداب السكني للمرأة .. هذا التعاكس المشهدي كانت له مسوغاته الفكرية والجمالية ، ولم يكن مجرد ابتكار تصويري مباشر ، فمن الناحية الفكرية أننا نرى الاشياء من وجهات نظر مختلفة وذلك ما يحرك جدلية الملاقحة العقلية وإظهار ما خفي من بواطن الاشياء واسرارها ، ومن الوجهة الجمالية أن هذا الابتكار التصويري أضفى شكلاً مغايراً ، لا متوقعاً للتلقي من شأنه الكشف عما يحدث في الشوارع الخلفية ، فهناك دائماً نجد ما هو مسكوت عنه ، الامر الذي يرتبط بإحدى الركائز المحورية لخطاب العرض هنا ، وهي الإشهار عن كل ما هو مسكوت عنه ، وتعرية الدستوبيا المدنية المعاصرة وإدانتها درامياً ، حتى أولئك الذين يتعمدون في ادارة ظهورهم عن هذه الفواجع ستظهر لهم من جهة اخرى لتقلق مضاجعهم حتى لو كانوا في بروجهم المثقلة بفسقهم وفجورهم .
ظل الإخراج أميناً ومجسداً لسيناريو النص المسرحي ، إذ حقق بزعمنا 50% من إرشادات المؤلف في رسم المشاهد وتحولاتها الزمكانية ، حفاظاً على تراتبية الأحداث بدءاً من المشهد الاستهلالي ( منصة الاعدام ) مروراً بجميع المشاهد ووصولاً إلى المشهد الأخير في نهاية العرض الذي شكل لنا ثورة سينوغرافيا بارعة في مستوياتها الخمس لغرف الفاسدين والمارقين في البناية وكيف تمت الإطاحة بهم وقذفهم إلى الحضيض حيث الأعماق السفلى / إلى الجحيم ، في النهاية بوصفهم ( أولئك اصحاب الجحيم ) بحسب العنوان الثاني للنص ، لينتهي به العرض المسرحي ، هذه الامانة الاخراجية في تجسيد عدد غير قليل من مشاهد النص الأصل ، ليست سبة دائماً ، بل للضرورة أحكامها كما يقال ، لأن المخرج وجد نفسه امام تراتبية درامية مشهدية منضبطة ، فانتمى اليها لإيمانه بانها ستحقق له رؤيته وفرضيته الإخراجية فكرياً وجمالياً ، هذا إذا تتبعنا العديد من الملامح الإخراجية بلغة إخراجية بالغة القيمة في مشاهد متفرقة من العرض نشير إلى بعض منها :
أولاً: ثنائية الصورة المشهدية المتعاكسة كما بينا ، رؤية الاشياء من وجهتين تعزز التصورات والتخيلات الفكرية والجمالية عند التلقي .
ثانياً : ماكيت البناية الذي يحمله عامل التنظيف ، كانت لغة مسرحية عالية الترميز والتعبير الدلالي المكثف ، عامل التنظيف وهو يلمع وينظف هذه البناية وكما يسميها هي ( مقبرة الأحياء الجماعية ) .
ثالثاً : مشهد الشاب وهو يضرب بيده وبقوة تلك القضبان الحديدية تعبيراً عن غضبه وثوريته وإعلان تحديه إزاء الفاسدين.
رابعاً : مشهد لعب القمار الذي هيمن فكرياً وجمالياً على فضاء العرض وسينوغرافيته ، كأنهم يلعبون القمار فوق سطح البناية ، أنهم يقامرون فوق رؤوس الفقراء والمعوزين ، فوق رؤوس البسطاء من الناس ، يقامرون حين الخسارة بطائراتهم الشخصية وحتى بزوجاتهم إذا اقتضت الخسارات المخجلة ، لتسقط مائدة القمار على رأس المرأة الثائرة / الرمز .. المبتلية بهم وبنجاستهم .. وفوق هذا وذاك ، أنهم يبحثون عن الشرف .
خامساً : جثة الشاب القتيل وهي واقفة كما الأشجار التي تموت واقفة . دلالة بالغة التأويل .
سادساً : عامل التنظيف وهو يقبل قدمي المرأة ، وهذا ما أكده الإخراج في تفجير طبيعة العلاقة بين الاثنين ، فالعامل هنا هو المتفاعل والمتعاطف والغائص في انتمائه للقضية وللسؤال ، يقبل قدميها لأنه صوت العقل ، صوت القلب ، يناجيها حزناً ومرارة فيقول ” لن نغفر لنا .. لن نسامحنا ” ولكن الأمر في النهاية لا حيلة له فيه ، وليس بيده .
سابعاً : التأكيد الإخراجي وعبر الاداءات المتنوعة والجريئة ، على السخرية اللاذعة من بعض رجال الدين ممن اتخذوا من الدين غطاء لفسادهم وخستهم وشذوذهم ودناءتهم .
ثامناً : استخدام السبيكر من قبل المرأة ، دلالة اشهارية اعلامية بوصف ان الاعدام شنقا يحدث في ساحة عامة / فرجة مسرحية ، وعلى الجميع الانضمام لهذا الاحتفال .
مما تقدم نرى ، وعبر هذه اللمحات الإخراجية التي تفرض نفسها كلغة مسرحية فاعلة ومؤثرة ، إلا أنها كانت بحاجة إلى التنبيه لما يسمى بسر إخفاء الصنعة المسرحية ، وهو إخفاء هذه الصنعة والتحايل عبرها بهدف تعزيز الإيهام ، فليس مرغوبا فيه هنا الكشف عن الممثل وهو يخفي نفسه عبر فتحة خروجه بعد نهاية المشهد وإظلام المكان أو دخوله بداية المشهد للمكان المراد انارته ، يبدو أن الأشكال هنا في التصميم المنظري ، الذي لم يحسب حسابه لتجاوز مثل هذه الهنات ، وان كانت بائنة للعيان ، إلا انها لم تؤثر على التحولات المشهدية كثيرا ، لكن كان يستحسن عدم وجودها بضبط سر اختفاء الصنعة المسرحية . ويجدر التنويه والتساؤل أيضاً إلى ظهور الفتى حاملاً الكلاشنكوف وهو يقاوم سكنة البناية دفاعاً عن سيدته وراح يطلق الرصاص في الهواء ومن ثم يظهر قتيلاً، من أين حصل على السلاح ؟ وهو رمز للفتيان المغلوب على أمرهم المحسوب على العوائل الفقيرة في البناية / الوطن ، أعتقد أن هذا المشهد جاء عاجلاً لا يحمل مدلولاته وبواعثها كما يتحتم درامياً.
التمثيل :
أقول بداهة ، إن الممثل هو العنصر الأساسي لتفجير طاقة العرض ، ذلك الممثل المستند في أدائه على : ( الفاعلية و الخبرة الاحترافية ) .. فيبدو أن المخرج استند إلى أداءً تمثيلياً محترفاً ، فنجد جميع الممثلين هنا يتنافسون بمشروعية ، من أجل ابراز طاقتهم الأدائية الملفتة للنظر ، ولكنني أنحاز هنا مباشرة إلى أداء المرأة أولا ً.. الفتاة أماني بلعج ، حضوراً مسرحياً ( كاريزما الشخصية ) ، وطبقة صوتها المؤثرة ( تنغيما وتنويعا وقوة ) وفعلها النفسي التقمص بامتياز ، هذه الصفات التي جاءت متطابقة تماماً مع الشخصية التي أوردها المؤلف في النص ، وحسناً فعل المخرج في اختياره لهذه الممثلة العملاقة ، إذ لا أتصور لمثل هذا العرض أن يستند إلى وتد أدائي لغيرها من الممثلات ، قد أكون مبالغاً أو مثالياً في رأيي ، لكن هذه الحقيقة التي ينبغي على قولها بقناعتي النقدية المتواضعة .
كما أجد نفسي أيضاً منحازا إلى أداء الممثل الفنان أحمد العمري شخصية ( عامل التنظيف ) الذي تجاوز بحضوره وأدائه وصدقه وانتمائه الواضح لشخصيته المؤداة بقضها وقضيضها ، تجاوز حدود الشخصية المرسومة نصيا واخراجيا ، فقبض على فضاء العرض برمته في لحظات ظهوره ( راهباً / قديساً / صوفياً / عقلانياً / شاهداً لعصر الصمت ) الذي صنع تأثيره علينا ، وسدد كراته الأدائية إلى الهدف مباشرة ، فكان هو الوتد الثاني لخيمة العرض بامتياز ، فأثبت لنا أطروحة مفادها : ليس بالصوت وحده يحيا الممثل ، بل بكيفية استثمار هذا الصوت ، وسيولة تغلغله مع الإحساس الداخلي والأداء الجسماني ، والفعل الكوميدي كان حاضراً برغم الفاجع ، وهذا يحسب للعرض ، لكنه ليس فعلاً كوميدياًهامشياً عابراً، بل هو ذلك الفعل المتفلسف الهايدغري الضاحك المنضوي تحت يافطة فن السخرية الصعب ، والذي تمثل هنا في أداء شخصية أمام الجامع الفنان محمد بن معروف، جرأة نصية حوارية ، وشجاعة منبرية إخراجية . وتكامليةعناصر الاداء لكوميديا الموقف بحسب جون دوي ، وتحقق عناصر هذا الأداء ، بدءاً من الاسترخاء العالي ، ومروراً بتحولات الشخصية وتركيبة انسياب تناقضاتها بين الايمان والدجل ، ومديات التاثير المهيمنة على التلقي بقناعة تامة ، وإذا استعرنا مقول :أن لكل عرض فاكهته الذي يجب فكان أمام الجامع / الممثل فاكهة هذا العرض .
التقنيات :
لا أدري لماذا اعتدنا في خطابنا النقدي المسرحي ، أن نتوقف آخراً عند التقنيات المسرحية برغم أنها الأساس في تثوير جماليات العرض لنا ، سمعياً وبصرياً ، ومنذ لحظة انطلاقته حتى نهاية مشهده الأخير ؟ ولو أن المرور على الإخراج يعد مروراً على التقنيات أحياناً كثيرة .
عمد العنصر الضوئي الذي كان من تصميم الفنان ماجد المعيني وتنفيذ الفنان حميد العسيري، عمد هنا الى ملاحقة الامكنة المراد أنارتها بنجاح ، رغم عدد هذه الانتقالات المكانية بواقعيتها أحياناً وبترميزاتها ودلالاتها اللونية أحياناً كثيرة .. ورغم تعددية مشاهد الإظلام بسبب هذه الانتقالات وكان من المفضل تجاوز هذه ( الإظلامات) المتكررة بطريقة أخرى لتحقيق انسيابية المشاهد وتراتبيتها دون هذه القطوعات ، أقول رغم هذه التعددية فإن الإضاءة حققت إيقاعها البصري بنجاح .
الموسيقى سحر المسرح ، والمؤثر الصوتي مهما كان نوعه ، يعد بمثابة ذلك الجدار الضخم الذي يستند إليه العرض ، وهذا ما لمسناه هنا بانحياز تام .
كما حققت لنا الأزياء بنوعيها (المصمم والمختار) فاعلية معقولة وموضوعية جاءت متناغمة مع القصدية الإخراجية لفلسفة العرض ورؤياه الحداثوية الواضحة .
★ناقد وأكاديمي ـ العراق.