نواف الربيع:مناورة الفكرة السياسية في مسرح الطفل في الكويت.
نواف جمال الربيع★
رسولة تمسك بِسَلَّتِها، وتمضي ناحية كوخ جَدَّتِها في أطراف الغابة، وبخفة رقصها بين الأشجار، كانت تُصِرُّعلى حضورها في ذهني، بعد مضي أكثر من عشرين عاماً؛ لمشاهدتي إياها في أشرطة الفيديو، وكلما عَبَّرت عن خوفها من طول الطريق، أو غواية الذئب، وخبثه الراغب في افتراسها، أذكر “ليلى”.. أو “هدى حسين”.
لقد مَرّ أكثر من ثلاثين عاماَّ على عمل “ليلى والذئب”، وأكثر من عشرين عاماً على ذاكرة طفل صغير، يتابع مشوار ليلى في الغابة، أو قلق والدتها والقرية إثر غيابها.. لقد مَرَّت كل هذه السنين، لكننا لم نفكر في “ليلى” كرسولة تنذر بشؤم سياسي قادم، ولم نقرأ عواء الذئب ضمن نسق سياسي تاريخي عربي.. بل كنا نقر سلامة مسرح الطفل، ونقاوته بعيداً عن السياسة، ومناورتها الأيدولوجية، وهذا مأزقنا، مأزق المسرح وتلقيه، ففي الحين، الذي يُصِرُّ فيه البعض، على مباشرة النص المسرحي عامة، ونص مسرح الطفل خاصة، تأتي الأعمال المسرحية منذ الثمانينيات؛ لتبثت قدرتها على احتمالية تأويلاتها، واتساع مساحاتها للبحث والدراسة، لكننا – ومنذ أكثر من ثلاثين عاماً- ما نزال نمارس الفعل المتوارث في الاحتفاء، والتغني بإرثنا المسرحي والفني، بمعزل عن القراءة الثانية، والقراءة الثالثة، ونقد النقد، وما نزال نرمم ذاكرتنا ببعض مشاهد، وأغنيات دون أن ننتبه إلى شيطان بضرسين يمد لسانه لنا طوال هذه السنين.. يدعى سياسة!
ظلت الكتابات حول مسرح الطفل مقتصرة على التأريخ، ودراسات بعضها في الأداء، والإخراج المسرحي، والسنوغرافيا، وغيرها، إلا أنها هُمِّشَت – إلا ما ندر- النص المسرحي، ودراسة حالته وأفكاره؛ ليظل الأخير قليل الحضور في بعض المقالات والكتب؛ التي يصعب إيجادها، وربما تعاني الأخيرة من ركاكة كتابية، وقصور نقدي، فرغم تميُّز الحركة المسرحية في الكويت، منذ زكي طليمات إلى اليوم، إلا أن الأقلام النقدية ما تزال متأخرة في تعاطيها مع هذا الجنس الأدبي، ولا تزال مناهجنا الدراسية في المرحلة المتوسطة والثانوية، بل وحتى الجامعية المتخصصة بالأدب، خالية من النصوص المسرحية ودراستها، كأنها في حالة من خجل ونفور للنص المسرحي ودراسته، ولا يعنى به سوى طلاب المعهد العالي للفنون المسرحية، ولا يعني ذلك سوى خلل وعي المسؤول، ونظرته السطحية للمسرح باعتباره هامش فتات يأتي بغرض التسلية لا غير، ولا ينبغي علينا سوى الممارسة الأولى والأكثر بدائية.. الفرجة! أما عن المناهج التربوية، والنص المسرحي؛ فتلك وشاية أحب التهكم بها عن الرؤيا التقليدية، التي غزت منهج اللغة العربية في كل المراحل التعليمية؛ حتى أنها تحاشت إدراج النص المسرحي في الخطة المنهجية.. وأخشى من استمرار ذلك!
لأجل هذا، أحاول في مساحة كهذه، خوض مناورة نقدية أخرى في النص المسرحي، أحاول – كما في مقالات سابقة- زيادة شرعية الناقد الأدبي، الولوج في نقد النص المسرحي، لكون المسرح فرعاً أدبياً أساسياً، كأن أرفع النقد المسرحي من برك انطباعيته إلى مساحات تسمح له أن يكون حالة ثقافية جدلية، توازي ما يفعله الجنس الروائي والشعري مثلاً، ولأن ثمة مناورات عدة بدأها النص المسرحي، تستحق المراجعة والقراءة الثانية – أو ربما الأولى- ولإيماني بأننا نُهَمِّشُ دائمًا النص المسرحي ومؤلفيه، بل نتمادى في التهميش لدرجة الاختزال والاختصارالركيك، فلا نعنى بالمسرح إلا بالخبر الصحفي الإعلاني العاجل، ونفشل دائماً في الترويج عن إرثنا الثقافي الأهم حسب ظني، ونفشل في تصديره خارج حدودنا الضيقة لحدود أرحب.
“لي يانا وياكم خير لفانا وتعداكم”: قفص الدجاج.. شعوبنا المستعمَرة
مشاهد من مسرحية قفص الدجاج
يعلن القط عنتر للدجاج مفاجأته الصادمة: “وأنا لن أرحل عنكم أبداً أبداً.. أبداً!” حينها، يبدأ دجاج أم صابر بالصراخ والانتفاض، جَرَّاء خيانة القط عنتر، ونكثه وعده، إذ اتفق الدجاج مع القط جميل المظهر – عنتر- بتخليصهم من الفأر، الذي أزعجهم، إلا أنه تآمر مع الفأر، وخذل الدجاج، باستمرار وجوده بالقفص، وتعاونه مع الفأر في أكل الدجاج المغلوب على أمره متى شاءا.
جاءت مسرحية “قفص الدجاج” ١٩٨٢ لمؤلفها “محمد السعيد”، ضمن بواكير مسرح الطفل في الكويت، فكانت ضمن الأعمال العشرة الأولى، وهي – حسب اعتقادي- أكثر النصوص المسرحية أصالة وجِدِّيَة في موضوعها، إذ لم تستثمر التراث كما في مسرحيات سابقة، مثل مسرحية “السندباد البحري”، و”البساط السحري”، إنما جاءت بقالب جديد مباشر، ومسلٍ للأطفال، لكنها كانت تفضح الكثير من أفكار مؤلفها السياسية، إذ عبّر النص المسرحي عن فكرة الاستعمار، والشعوب المستعمرة، ودورها في رفض معاناتهم، معتمداً بذلك على الرمز ودلالته، فلم يكن “دجاج أم صابر” الساذج إلا رمزاً للشعوب المستعمرة والصابرة على استعمارها، أما الفأر والقط عنتر، فلم يكونا إلا إشارة للقوى الاستعمارية، التي تتنافس في سلب الثروات بدافع استحقاقي، لا يشوبه الشك، أو يوقفه الضمير، وهذا ما كان يفعله الفأر والقط عنتر، اللذان يعتقدان بأن أكل الدجاج ماهو إلا استحقاقٌ لهم، وشرفٌ ما كان يحلم به الدجاج.
يعالج النص المسرحي بدءًا من عنوانه، إشكالية الاستعمار، التي أبتليت بها بعض الدول العربية في فترة ما، محاولاً التقاط تفاصيلها الدقيقة عبر وجود دجاج ثائر مناضل، يرفض الاستعمار، ويسعى للخلاص منه، مقابل دجاج عميل خائن، يرسخ الاستعمار، ويكون أداة له لمصالحه الشخصية.
قد يبدو النص المسرحي تخطَّى المتلقي الطفل إلى متلقٍ أكبر عمراً، وقد صرَّح المؤلف “السعيد” بذلك في عمله المسرحي على لسان إحدى شخوص العمل الفنانة “سحر حسين” حيث قالت: ها يا كبار، عرفتوا منو الي يتحكم فينا؟!
يحيلني نص مسرحية (قفص الدجاج) لـ”السعيد” بترميزه السياسي إلى رواية (مزرعة الحيوان) لـ “جورج أورويل” مع اختلاف في القضية المعالجة؛ حيث يلجأ مؤلفا العملين إلى رمزية الحيوان، حيث يُعَمِّقان من الحالة السياسية، ويجعلان الرمز حيلة تضمن تفادي المضايقات المحتملة، إلا أن الفارق يكمن في التصنيف؛ حيث الإعلان عن (قفص الدجاج) باعتبارها مسرحية للأطفال، تؤدي بطولتها الفنانة “هدى حسين”، يطرح سؤالاً مستحقاً إذا ما كانت الرقابة المسرحية آنذاك تعرقل من تناول قضية الاستعمار في المسرح، قد يبدو ذلك منطقياً بغياب الأعمال المسرحية، التي تناولت تلك القضية في السبعينيات والثمانينيات، بل حتى الوقت الراهن، مما يعني لجوء النص، ومؤلفه إلى التحايل والمرواغة على الجهاز الرقابي ضرورة مستحقة؛ إلا أن الإشكالية تكمن في تصنيف العمل بوصفه عملاً موجهاً للأطفال، لا الكبار، فهل قصد المؤلف “السعيد” مناورة الفكرة السياسية؛ ليسجل بها أول حضور في مسرح الطفل؟
فدوة لك وسندس.. الأرض تغزل حريتها:
مشاهد من مسرحية فدوة لك
لم يكن النص المسرحي (فدوة لك)، التي قُدِّمَت في يناير 1985 لمؤلفها “صلاح الساير”، إلا مناورة سياسية أخرى في مسرح الطفل؛ حيث يتناول النص المسرحي حكاية أطفال يسرق بيتهم لصوصٌ ” نهاب وسلاب” بنية طردهم والاستيطان فيه، لكن صديقة تسعى لمساعدتهم للتلخص من الأغراب.
قد يبدو النص حكاية عادية، إلا أن وضعه في سياق الأرض العربية المغتصبة من اللصوص، يحيل إلى فلسطين بشكل أو بآخر، وقد أشار النص الغنائي المسرحي إلى أن الأرض “أرض عربية مغتصبة”، وعلى أهل هذا البيت المسروق، مواجهة اللصوص، وفداء الأرض بالدم والروح.
تبدو فكرة الأرض والدفاع عنها، فكرة فطرية أبعد عنها سياسية، إلا أنني أظنها سياسية بالدرجة الأولى، خاصة إذا ما فتح النص المسرحي رموزه، ومآلاته للمتلقي.
المندوب في مسرحية سندس
قد يتضح ذلك بشكل أدق في مسرحية (سندس) التي قُدِّمَت في أغسطس 1985، وهي من تأليف المؤلف المصري “سيد حافظ”، وإعداد” أمل عبدالله”، وبطولة هدى حسين، محمد السريع، سحر حسين، زهرة الخرجي، وآخرون. تُعْتَبَرُ مسرحية “سندس” أول مسرحية كويتية خليجية للأطفال والكبار، تتناول القضية الفلسطينية برموز واضحة؛ حيث يستوطن بيت “سندس” سارة وأم سارة المنتميتان إلى مجموعة من الأغراب المشردين، وكانوا قد فعلوا ذلك لتعبهم من التشرد، ولإيمانهم بمزاعم جَدِّهم المكتوبة بملكيتهم، وأحقيتهم بهذه الأرض، تحاول “سندس”- الفتاة المزارعة – استرداد بيتها، لكنها تكتشف أن المندوب الغريب هو وراء كل ما يحدث، خاصة وأنه ماطل في القضية، وساند الغرباء، وأحدث الفتن بين أهل القرية؛ حتى لا ينصر أحدٌ منهم الآخر، وهكذا تضيع قضية “سندس” بين المندوب، واللجان الدولية، ومحكمة العدل الدولية، في ظل تواطؤ المندوب الغريب مع الغرباء؛ حيث سهَّل لهم استيطان غابة الصنوبر والزيتون، وتشريد أهلها.. بوجود والٍ، وحكومة مشغولة بِعَدِّ الأموال، وتصديق وعود المندوب الغربي حول الإعمار والحماية.
كان المؤلف “سيد حافظ”، ومعدة النص المسرحي “أمل عبدالله” ، قد كثَّفا في نصهما المسرحي دلالات القضية الفلسطينية، بَدءًا من مسمى غابة الصنوبر والزيتون إلى فكرة الاستيطان، بدعم مندوب سياسي غربي، يتولى زمام السلطة، ويغيب من حضور الوالي، وصولاً إلى خذلان أهل الغابة لبعضهم الآخر، وانشغالهم بفتنهم وحروبهم الجانبية، بينما يتمادى الغرباء في سرقة البلاد، ونهب الأرض وخيراتها.
وخلاف السردية البنيوية الثابتة في انتصار الخير والحق في نصوص مسرح الطفل، وخلاف مسرحية “فدوة لك”، التي انتهت بهزيمة اللصوص وطردهم، كانت مسرحية “سندس” قد انتهت بصراخ “سندس”:
خلاص.. العدل ضاع وسط الكلام
خذوا بيتي وأرضي، والمندوب ضيع البيت بالحجي..
تهاوشنا على الأرض والماي والأسعار
وتركنا كل شيء..
الديرة تغيرت، كل واحد صار بطريج، كنت أتمنى لو اتحدنا، لو حطينا إيدنا بإيدين بعض.. جان على الأقل
حررنا البيت.. بيتي أنا، بيتي..
ما وقفنا مع بعض، لكن الأمل فيكم، فيكم انتو”
ومثلما خرجت النهاية عن إطار النهايات السعيدة بخير منتصر على الشر، كاسرة النمط البنيوي لنصوص مسرح الطفل، كان النص يمثل انقلاباً واضحاً حسب رأيي على كل النصوص المسرحية المعروضة آنذاك؛ حيث حضرت قضية فلسطين، القضية القومية الأولى بجدية لم يسبق تقديمها وكتابتها بهذا الشكل الصريح من قبل، بل حتى أنها لم تحضر ضمن سياق النصوص المسرحية السياسية في ذلك الوقت، عدا مسرحية (باي باي يا عرب) لمؤلفها “نبيل بدران” ومعدها عبدالحسين عبدالرضا، التي تناولت قضية فلسطين بشكل عابر، وأقرب للتهكم من حال الأمة والشعوب العربية.
رسولتنا ليلى.. نذيرة شؤمنا الأخير
قد يبدو استحضار الحكاية العالمية “ليلى والذئب” ، أو “ذات الرداء الأحمر” لمؤلفها الأول “شارل بيرو”، ومنقحيها “الأخوان غريم” فيما بعد في نص مسرحي للأطفال، أمر لا يثير الاستغراب باعتبارها حكاية تتضمن القيم التعليمية للأطفال، إلا أنني أدرج هذا النص المسرحي المقدم على خشبة المسرح عام ١٩88 لمؤلفه “عبداللطيف البناي” ضمن المناورات السياسية؛ لأن ثمة حَدْس يحتم علَيَّ ذلك، وربما تكون دوافعي مبنية على النصوص الغنائية للمسرحية، فحين يفتح الستار معلناً عن سلام القرية، ثم تداهمها الذئاب؛ لينقسم أهل القرية المجاورة بين رأيين، يدعو الأول للمساعدة، بينما يدعو الآخر للتجاهل، وعيش الأمان؛ حتى تداهم تلك الذئاب قريتهم، ويحدث ما يحدث لـ “ليلى”.
في فاتحة النص المسرحي، تُجري شخوص العمل حالة من الحوار والتحذير ومجابهة التحذيرات بتفسير؛ حيث تقول الطبيعة والأشجار:
“صوت الطبيعة يقول:
يابن آدم المجهول
اِصحى وميز جدامك،
صعب الطريج
اصحى وميز..
منهو العدو، ومنهو الرفيج
الحذر يا أهل القرية، الحذر ثم الحذر..
بينما يرد أهل القرية:
الصوت ما يهمنا بعيد
ما دام احنا بصحة وخير
ما يهمنا هموم الغير
ما نشغل فكرنا بالأيام
خلونا نتلذذ بالأحلام،
نبي نلبس، نبي ناكل.. نبي ننام”
بينما يعود صوت الذئاب، يفسر أهل القرية أسبابهم:
“ليش ندخل في صراع، ونزدحم في وسط الضياع؟”
يجعل النص الغنائي المتلقي في حالة أشبه بالتيه بين ما يقوله النص، وبين ما يرغب المؤلف في قوله، خاصة إذا ما وُضع النص المسرحي في السياق السياسي الراهن في الثمانينيات، من نهاية حرب عراقية إيرانية، اِشتعلت ثمانية أعوام، وهزائم العرب، وتطبيع بعض الدول العريية مع الكيان الصهيوني المحتل، مما يعني إكساب الذئب دلالات سياسية، تخرج من بنية السردية المسرحية؛ لتدخل في سياق سياسي يمكن تأويله، والتنبؤ به ضمن حكاية “ليلى والذئب”، ويمكن لـ “ليلى”، الفتاة التي تضيع الطريق ومن فرط سذاجتها وثقتها بالذئب، يمكن لها أن تكون نحن، أو تكون رسولتنا بحالة أفضل، رسولة تنذر بشؤمنا القادم، من حرب ودمار، من فقدان الثقة بالصديق المجاور، ووعوده الدائمة، التي تستقر في جهة الغدر والخيانة.. كانت “ليلى” رسولتنا؛ وكانت مسرحية” ليلى والذئب” مناورة السياسة الأبرز.. هكذا أظن وأحب أن أظن.
وهنا أوضح بأن محاولتي لا تقحم النصوص المسرحية المصنفة للأطفال ضمن سياق سياسي، إنما يجبر الرمز ودلالاته على ذلك، إضافة إلى دور المسرح التعليمي – خاصة مسرح الطفل- يجعل تناول مثل تلك الموضوعات ذات الإسقاطات السياسية، ضرورة تراعي اختلافات الأطفال العمرية والإطلاعية.
بين مسرح الكبار والأطفال.. ماذا لو غيَّرت الأعمال الإبداعية مؤلفيها؟
شهدت الساحة المسرحية في الثمانينيات، طفرة مسرحية واضحة، ولعل أبرزها بالنسبة لي نشوء المسرح السياسي الذي قدَّمه “عبدالأمير التركي” و”سعد الفرج” و”عبدالحسين عبدالرضا”، إضافة لتبلور مسرح الطفل، ونضجه بشكل ملموس، ولعل مزامنة النصوص المسرحية السياسية في الثمانينيات، مع نصوص مسرح الطفل ذات الأيدولوجيا السياسية البسيطة، أمر تفسره الأسباب السياسية آنذاك، مما يفسر الحاجة إلى وجود قالب مسرحي يسمح بقول ما يُمنع، أو ما لا يقال، لكن السؤال الأهم : كيف علينا أن نصدق تلك الإسقطات السياسية في مسرح الطفل، إذا ما رأينا قصور رموزها، وضعف دلالاتها السياسية؟
يطرح “بيير بايارد” في كتابه (ماذا لو غيَّرت الأعمال الروائية مؤلفيها)، اِشتغال يعمل على تغيير مؤلفي بعض الكتب جزئياً أو كلياً، وتجريب التلقي المختلف، إذ أن كل مؤلف يضيف بشخصيته، واسمه الكثير من الانطباعات المسبقة على النص، وقد أظن بأنها حيلة تكشف الكثير عن النصوص، لو أننا فعلاً استبدلنا أسماء مؤلفيها؛ حيث يُعَبِّر “بيير بايارد”: إن عادة تغيير المؤلف، تدفع إلى التفكير في حضورنا الذاتي ضمن الأعمال التي نلتقيها، وبالتالي، ماذا لو كتب “عبدالأمير التركي” – المؤلف المسرحي السياسي- النص الغنائي لمسرحية “ليلى والذئب” أو النص المسرحي “قفص الدجاج”؟ هل سنظل نتلقى تلك الأعمال بتلك البراءة الأولى، أم أننا سنُحَمِّلُها أكثر مما ينبغي؟ ولا أظن في تلك المحاولة إلا فتح المزيد من المآلات النقدية الدلالية، التي تُعَمِّق من النص المسرحي، وتزيد من أصالته.
هل في ذلك ضرورة؟ لا أظن بأن حيلة نقدية مثلها قادرة على تغيير العمل، لكنها تجعلنا نُؤَمِّن حتمية قراءة تلك النصوص المسرحية من جديد، دون افتراضات مسبقة تهمشها، إنما تمنحها فرصة المساءلة النقدية التي تستحق.
وبخلاف المسرح السياسي في الثمانينيات، لم يتولَ عملية التأليف نصوص مسرح الطفل ذات الإسقاطات السياسية مؤلفٌ واحدٌ، بل تعددت الأسماء المؤلفة مثل: محمد السعيد، وصلاح الساير، وسيد حافظ ، وأمل عبدالله، وعبداللطيف البناي، متفقين على مخرجين محدودين، وممثلين وممثلات ثابتين، كالفنانتين “هدى، وسحر حسين”. أما حول القضايا، فكان مسرح الطفل ذا الإسقاطات السياسية، يحمل قضايا إنسانية كونية بعيدة عن المحلية، كفكرة الأرض وحمايتها، وفكرة الاستعمار والاحتلال، دون أن يُرَوِّج النص لأيديولوجيا معينة، إنما التأكيد على أهمية حضور الموقف الإنساني الداعم للإنسان المظلوم/ المقهور، وذلك بعيداً عن نصوص المسرح السياسي، التي تخلق حالة جدلية بين شخوص العمل؛ لتحاكي رأي الشارع العام، وأطياف المجتمع، وعبر الصراع الدرامي، تتجلى الإشكالية السياسية الاجتماعية المحاكية للمجتمع الكويتي، مبنية في لوحات غير مترابطة، بينما تفر نصوص مسرح الطفل من ذلك، وتنمو سرديتها ببنى تقليدية مكملة، وتصل ببعضها للذورة وما بعدها.
وقد ظلت تلك المناورات السياسية، تحيط ببعض نصوص مسرح الطفل؛ حتى بعد الثمانينيات، ومنها أذكر مسرحية “مدينة البطاريق” ٢٠١٢ لمؤلفها “جاسم الجلاهمة”، الذي اشتغل بفكرة الأرض، والآخر الدخيل، الذي يسعى لتدمير الأرض والاستيطان، ومسرحية “ساعة موريس” لمؤلفتها “هند البلوشي”، التي أظهرت مناورات سياسية أبعد؛ حيث تناولت إشكالية العلاقة بين الحاكم، والشعب، والثورات المحتملة، التي يخلقها التقصير، والبطانة الفاسدة في إطار فنتازي، إضافة لمسرحية “الأرانب” لمؤلفها “عثمان الشطي”، التي يعيد فيها طرح قضية الأرض المسلوبة، والدور المفترض القيام به للتعريف بالقضية ونصرتها، في إشارة إلى القضية الفلسطينية، وغيرها من الأعمال المسرحية، ولعل هذه الأعمال، أكثر ذكاءً من بواكير الثمانينيات من ناحية التصينف.
التصنيف.. بلاؤنا الأول
ذكرت المنتجة المسرحية “عواطف البدر” في برنامج (الحكم بعد المداولة) أن تلفزيون الكويت رفض تسجيل مسرحية “قفص الدجاج” أثناء عرضها؛ لسبب متعلق بالإسقاطات السياسية، التي يضمها العمل المسرحي، مما دفع شركة الإنتاج لتَحَمُّل تكاليف التصوير المادية، وتصف العمل المسرحي بأنه عمل وطني، لا سياسي أبدًا، بل تنبأ بالغزو العراقي.
لعل تصنيف النص المسرحي – أي نص مسرحي- بأنه نص مسرحي للطفل يورط صانعيه من جهتين، تتمثل الأولى برفض أي صبغة ،أو إسقاطات سياسية تتضمنه؛ حتى وإن كانت الإسقاطات أساسية في تكوين الطفل كما أعتقد من مثل النصوص المسرحية، التي سبق التطرُّق إليها أعلاه.
أما من الجهة الثانية، ضرورة التزام نص مسرح الطفل بالأطفال، وحدهم دون غيرهم، رغم أنه – في أحيان أخرى- يتجاوز النص المسرحي، الطفل قاصداً بذلك الفئة العمرية الأكبر سناً، كما ظهر في بعض مسرحيات الألفية، مثل مسرحية “مدينة البطاريق” ، و”ساعة موريس” ، و”الأرانب”، التي نجت من التصنيف لأسباب كثيرة.
أعتقد بأن التصنيف، سمة ورَّطت الاعمال الموجهة للأطفال، ولكن الأسوأ من ذلك، هو اقتصار السؤال النقدي الدارس – لمسرح الطفل، أو المسرحيات، التي تنجو من التصنيف – على آراء انطباعية تسجيلية حول النصوص/ العروض المسرحية وأبطالها وإضاءتها وأزيائها، دون دراسة حقيقية للنص المسرحي، وكشف دلالته وقيمته وذلك عبر تغيير/ تطوير آلية تلقي النصوص/العروض المسرحية؛ لأن النص المسرحي للطفل، أصبح نصاً مقصياً ومنبوذاً في بعض الأحيان عن المؤسسة الثقافية، التي ما تزال تنظر لمسرح الطفل، بأنه مسرح يحمل أفكاراً بدائية وآمنة، مما ساهم بقتل نقد نصوص مسرح الطفل ودفنها تحت التكرار والانطباع والتسطيح؛ لذا بات من الضروري تحميل النص المسرحي عامة، والطفل خاصة أكثر مما ينبغي مساءلةً وتأويلاً، ونقداً؛ لأجل إجلاء حالة “سطحية” التلقي، أما الإصرار على براءة النصوص المسرحية، مجاراة للرقابة، وتفادياً للمنع، باتت فخاخاً قيدَّت المسرح، وتمادى النقد المسرحي في التغييب؛ ليصبح في أوقات كثيرة شريكاً في مهادنة الرقابة، وصُنَّاع المسرح في آن واحد.
هدى حسين.. الثبات في ذاكرة متغيرة
كأنك ابن الأمس، ووجهه الأكثر غبرة، تذهب مع أطفالك إلى مسرحية للطفل، تمضي، تشدك الأشياء، المسرح ذاته، خشبة السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، تخبر نفسك مطمئناً؛ المسرح ذاته، والطفولة بنت الأمس.
أي غد سيقتات عليه أبناؤك، سيكون مثل غدك، أو أسمى؛ حتماً.
كل الاحتمالات يبعثها المسرح ذاته، أي طفولة عشت؛ لتملك رعشة المسرح هذه؟ أي ذاكرة تَرَبَّتْ روحك عليها؛ لتكون بهذا الترقب منذ كنت طفلاً إلى اليوم؟ المسرح ذاته، تلك التفاصيل، التي يبثها بك، طوابير شباك التذاكر، طوابير الانتظار؛ لأجل صورة تجمعك بفنانتك الأثيرة، الكلام الذي تود قوله، لو كان الوقت يسعفك، والجمهور لا يتدافع خلفك.. يبدأ العرض، فتسأل: هل الطفولة بنت الأمس حقاً؟ تعرف بأنك ذاهب لما ليس لك، وأطفالك ليسوا أنت، ينهرون ذاكرتك، كلما استفاضت بالتفاصيل، تذكر (سندريلا، شمس الشموس، صديقة، ليلى، سندس، القط عنتر، أليس..) تفيض الأسماء فيما تدخر أكثر فصولها دفئاً، وحميمية لتنجو.. تقول: الطفولة بنت الغد أيضاً.. تطمئن روحك، لقد كانت ثابتة؛ حتى قبل ولادتك، اِمرأة كذاكرة، فنانة تعرف كيف تُوَرِّط الأجيال، وتشدُّهم بحبل الحكاية الأجمل، تظهر “ليلى”.. تظهر “هدى حسين”، يتورط أبناؤك، وتشدُّك الذاكرة لكل تفاصيلها. الثبات سمة الذاكرة، والتغيير سمة التملك.
كانت “هدى حسين” الثبات الوحيد في ذاكرة مسرح الطفل الكويتية والخليجية، ظلت تحافظ على ألق الثبات، تخوض كل الدوائر منذ الحكايات الشعبية إلى حكايات أصيلة تفردت بها، تختار النص بعناية، وتعتني بالعمل المسرحي كما لو كان الأخير، هكذا ظلت “هدى حسين” في ذاكرتي، ورطة أكبر.. واحتمال للأسئلة تدفع لمقال كهذا.
إلى سيدة كهذه، أكتب هذا النص محاولاً فهم الأشياء، لتفسير ذاكرتي مثلما أراها.. إلى “هدى حسين”.. الثبات الوحيد في ذاكرتي، وحبل نجاة طفولتي، إليها تكون هذه المحاولة الكتابية.. والورطة بها تتسع.
★ حاصل على بكالوريوس الأدب والنقد قسم اللغة العربية ـ جامعة الكويت.