سينما

رشا كمال: ” العودة”..نظرة مغايرة لـعودة أوديسيوس.

رشا كمال

تحمل العودة في طياتها مضامين كثيرة، قد تكون عودة تتوق إليها النفس بعد البعاد، عودة مُكَلَّلة بفرحة بعد طول انتظار، وقد تجُرُّ العودة أذيال الخيبة، عقب آمال طويلة، لكن ماذا لو كانت العودة رداء عار، وخيبة أمل، وفرحة لم يَعُدْ لها مذاق تستسيغه الأنفس، هكذا يُصَوِّر المخرج إيطالي الأصل “أوبيرتو پازوليني”، رحلة عودة البطل “أوديسيوس” لوطنه “إيثاكا” بعد خروجه للحرب في طروادة، وطالت رحاها  لعشر سنوات، ومثلهم في رحلة شاقة للعودة إلى مملكته، ليجدها قد اصبحت خراباً، يترصد الخُطَّاب لاقتناص زوجته “بينلوبي”  ومملكته، قد أتوا إليها من كل حدب وصوب.
تُمَثِّل عودة “أوديسيوس” الفصل الأخير في أسطورة “الأوديسة”، التي خطَّها الشاعر الإغريقي “هوميروس”، واضعاً بها أسس الملاحم الشعرية القديمة، لكن العودة، التي رسمها الشاعر لم تكن بمثل المرارة والخزي، الذي صَوَّره الفيلم.
أراد المخرج مثلما ذكر في أحد حواراته أنه يود من معالجته هذه للأسطورة الشهيرة، أن يأخذ منها ما يعكس الحاضر، ويتماشى معه، جاعلاً “هوميروس” على حسب وصفه، يأتي إلى حاضرنا، ونحن نعود إليه.
أضاف النص أبعاداً إنسانية ذات وطأة ثقيلة على الشخصيات الرئيسية، أولهم “أوديسيوس” المحارب العظيم، المعروف بفطنته وذكائه، وسعة حيلته، ها هو في الفيلم يعود إلى مملكته عارياً مثلما ولدته أمه، كأن البحر قد لفظه في ولادة جديدة، يحبو من التعب والإنهاك بعد رحلته الشاقة؛ ليعثر عليه أحد خُدَّام قصره، دون أن يتعرَّف عليه.


أصبح شيخاً مسناً، بجسد هزيل، بعدما خرج شاباً يطرق أبواب الحرب، تاركاً وراءه زوجة، وطفلاً صغيراً، أصبحت هذه الزوجة مطمعاً للأوباش، وهي التي نذرت الإخلاص لزوجها، فما كان عليها إلا أن أتت بحيلة لصد مطامعهم، غزل كفن والد زوجها، وبمجرد انتهائها منه ستختار من بينهم، أما الطفل الصغير “تليماخوس” فقد أصبح شاباً يحمل هو أيضاً الخزي على أكتافه من طول غياب والده، والجد الأكبر الذي ذهب عقله حزناً على طول فراق ولده “أوديسيوس”.
العودة كما درسها، وكتب عنها الكاتب الأمريكي “چوزيف كامپل” في كتابه “البطل ذو الألف وجه”، تمثل المرحلة الأخيرة من رحلة البطل، وهي مرحلة محورية تعكس اكتمال الرحلة، ودمج الخبرات المكتسبة خلال المغامرة مع الواقع اليومي، وفقاً لكامبل، تتجلَّى العودة في عدة أبعاد رمزية ونفسية.
الحكمة التي يكتسبها البطل في رحلته، تتجلَّى في أول جملة ينطق بها “أوديسيوس”، ويخرج بها عن صمته أمام خادمه الذي يأويه، وشباب مملكته، كل واحد منهم يعبر عن وجهة نظرمختلفة للمغزى من وراء رحلة “أوديسيوس” العظيم، واحد منهم يروي أساطير الحرب، التي تتردَّد على مسامعه، معبِّراً بذلك عن حماسة الشباب للقتال، والسعي وراء المكانة العالية للمنتصر، أما الآخر فهو يرى مأساة الواقع، أحوال النساء دون رجالهم، ومصاب البلاد دون حاميها.
لذلك ينطق “أوديسيوس” كل هذه أقاصيص، التي تتناقلها الألسنة، لكن ما من أحد يعرف حقيقة الحرب، إلا من اختار خوض رحاها”
ويبدأ في سرد ما حدث في طروادة، ليس بنبرة فخر واعتزاز، بل نرى المأساة في عيونه، التي لا تجفل من هول ما كابده.
يبدو أن الجميع على معرفة بهوية الغريب، الذي لفظه البحر على شواطئهم، لكنهم في انتظار أن يخلع عنه أثمال الخيبة، ويتصدى بشجاعة لمن يحتل أرضه، ويهدد باغتصاب عرضه، لكنه متردِّد، وهذا التردُّد ينبع من إدراكه أن العالم العادي لم يَعُدْ كما كان بالنسبة له، وأنه قد تغيَّر عميقاً بسبب تجاربه.


وهذا أضاف إلى الشخصية بعداً نفسياً، يعكس صراعاً داخلياً شديد الوطأة، كان على “أوديسيوس” مواجهة ذنب العودة بمفرده، وضياع رجاله، الذين خرجوا معه للحرب، وعليه مواجهة خيبة الامل – فقد أصبح مجرد ظل للبطل الأسطوري، الذي كان عليه يوماً ما – قبل مواجهة زوجته، وولده،وشعبه، ومَنِ احتلوا مملكته.
يُحْدِث نص الفيلم تغييرات في طبيعة الحوار بين “أوديسيوس” وزوجته “پينلوبي”، وولده “تليماخوس”  مضيفاً حواراً بينه وبين نفسه أمام جسد والده المُتَوَفَّى، يعترف بالخيبة، التي تعتمر في صدره، فكانت أشبه بالمناجاة في التراجيديات.
كان الحوار قاسياً، صادقاً نابعاً من قلب أنهكه الخزي، كلمات زوجته “پينلوبي” كانت مثل السهام، التي لا تخطيء هدفها، ولا يمتلك حق صَدِّها عنه، وهي تتساءل لماذا الحرب، لماذا يخرج الرجال لحروب خارج أرضهم، ويغتصبون النساء، ويحرقون الأرض
وتسأله وهي على يقين أن الكهل الماثل أمامها، مطأطئ الرأس هو من كان يوماً زوجها المحارب العظيم، “هل اغتصب زوجي أحداً، هل قتل، هل دَمَّر وحرق”؟!
وتسأله، وسؤالها يؤكد أنها خَبِرَتْهُ جيداً، هل يجب أن أتزوج واحداً من خُطَّابي، هل أقبل أي واحد منهم مكان “أوديسيوس”؟!
كلمات كانت “پينلوبي” تحاول من خلالها أن تُخْرِج زوجها عن صمته وخوفه، لكن الخادمة وحدها هي التي تعرَّفت عليه، وفهمت خوفه وتردُّده، رغم يقينها بقدرته على دحر أعدائه.
عند مشاهدة هذا الفيلم، سيتردَّد لذاكرة محبي السينما المعالجات الاستثنائية للأساطير، التي قدَّمها “پيير پاولو بازوليني”، في نقله لأسطورة “ميديا وأديب ملكاً”، عندما جرَّد الأسطورة من ملامح الفانتازيا، وأزاح قدرة الآلهة وتلاعبهم منها، وقدَّم حكايات جافَّة، قاسية بقسوة ملامح التراجيديا، في بيئات قاحلة، تخلو من بزخ الصورة الرومانسية للحضارات القديمة، التي صَوَّرَتها السينما، ووضع الأبطال التراچيديين في بيئة مجردة، تعكس قسوة الصراعات الخارجية، التي حَمَّلها بمضامين سياسية متواترة في السينما الخاصة به .
أزاح “أوبيرتو بازوليني” أيضاً الألهة عن مشهد عودة “أوديسيوس”، فجعل بذلك الأسطورة تنزل بمأساويتها، وتلامس الواقع المرير تعليقاً منه على آثار الحرب على همة وعزة الرجال، نتيجة سعيهم الزائف وراء نصر لا يعنيهم، وكذلك تمكن بلمسة الواقعية الجافة، التي صبغت العودة أن يتناول مواضيع تسعى السرديات الحديثة في السينما إلى إلقاء الضوء عليها، وهي النماذج الأبوية السلبية، لكن ما يميِّز هذه المعالجة حقاً، هو عدم انجرافها وراء إدانة نموذج الأب، وتبجيل نموذج الأم،  واستطاع أن يمسك العصا من المنتصف، ويقدم نموذجاً لأب تعتبر عودته بمثابة مسيرة خزي، في كل مشهد كان يواجه “أوديسيوس” عاره قبل عري جسده.
أما نموذج الأم، فهي التي صانت نفسها إخلاصاً، ويقيناً منها بعودة زوجها، لكنه في نفس الوقت جعلها امرأة تهفو لآخر، تجوب ليلاً في أروقة قصرها، تسترق السمع للحظات حميمية تحدث تحت سقف بيتها، وتفتقدها كامراة؛ لتعكس بذلك الأثر السلبي المتمثل في غياب الزوج.
ليس الحوار أو المعالجة وحدهما هما من أضافا مصداقية للأسطورة، كذلك القرارات الإبداعية الأخرى، التي ساهمت في بلورة رؤية المخرج لموضوع العودة، مثل قراره بتصوير أحداث الفيلم في اليونان، زاد من ألق الحكاية، بعودة الأسطورة الي منبعها.
وكذلك قراره بالابتعاد عن زخرفة القصور وبهرجتها، واختياره لبيئة جرداء، جافة خارج القصر وداخله، بيئة بدائية تختلف تماماً عن الصورة الخيالية للأساطير.
ومصداقية العالم تنبع من مصداقية تفاصيله، مثل الالتزام بتصميم ملابس النساء، ذات الطابع الإغريقي، رداء الخيتون الدوري، وعباءة الهيماتيون المثبتة على الأكتاف، أما الرجال فاكتفى بالخيتون من الكتان، وصدورهم العارية، تعزيزاً للصورة البدائية لطبيعة المكان والزمان.


اِنصهر كل هذا في صورة الفيلم، التي اعتمدت على المصادر الطبيعية للإضاءة مراعاة للحقبة القديمة، كانت الشمس المصدر الأساسي للإضاءة بالنهار في المشاهد الخارجية، وداخل أروقة القصر، تُضْفِي إضاءة المشاعل رونقاً لا يسعنا وصفه بالدفء، لإن الظلال كانت تبث الخوف والرهبة، وإحساس التهديد، الذي يترصد “پينلوبي” وولدها “تليماخوس”، ويلف الظلام جو الفساد، الذي ينشره الخُطَّاب المقيمون تحت سقفها، كانت المشاهد الليلية تشبه في تباين النور والظلال فيها لوحات “كرافاجيو” و”رامبرانت” إلى حد كبير.
اِرتأيت ختام هذا المقال، بالعنصر الذي لولاه ما اكتملت ملامح المأساة، من خلال مَنْ جسدوها، وجعلوها حية.
اِكتسبت هذه المعالجة واقعيتها، من الأداء المتفرد لكل من “چولييت پينوش” في دور “پينلوبي”، و”رالف فاينس” في تجسيده لـ “أوديسيوس،، هذا التعاون الثالث بينهما بعد أفلام “مرتفعات ويذرنج”، و”المريض الإنجليزي”.
نفخ كل واحد منهما الحياة في شخصيته، “پينوش” التي زادها العمر تألقاً، كان صمتها والدموع في مآقيها خير ناطق بلسان حال مأساتها، وإن تحدتث كانت كلماتها تُعَبِّر عن كبرياء وإخلاص هذه المرأة النابِعَيْن من قلبها
أما “رالف فاينس” الذي يُعَدُّ هذا الفيلم ثانيَ تجربة استثنائية له في نفس العام مع فيلم “اِجتماع سري” ، وهو هنا دوره لا يقل تميزاً عن دوره في فيلم “اِجتماع سري”.
عَبَّرَ بصورة جسده الهزيل عن ضعف “أوديسيوس”، وشطر صورة البطل الأسطوري، بمظهره الضعيف، الكهل، الذي يغطيه بالأثمال، يجعله الخزي والذنب منكسر الرأس، محطم النفس.
هذا الجسد هو نفسه ما نراه يخلع عنه عباءة الهزال، ونرى ندوب الحرب على جسد لا تزال تقسيمات عضلاته تُظْهِر بقايا قوة لطالما تميَّز بها البطل الأسطوري، نراه ينحني فوق أرض مملكته، ويلتهم ترابها في نحيبه اشتياقاً وألماً بعد معرفته بما حَلَّ بها.
هناك مواجهة تمثيلية بينه وبين “بينوش” في أول مشهد يجمع الزوجين بعد فترة من الانقطاع.
يختبئ في الظلام مبتعداً عن عينيها، تتحدث “بينوش”، والدموع تكاد تغرق عينيها، مؤكدة أنها فهمت زوجها دون أن يتفوه بكلمة، عندما تسأله بدهشة عما إذا كان قد قَتَل، أو دَمَّر ، أو اغتصب أحداً في الحرب، يولي المخرج” رالف فاينس” اهتماماً خاصاً بلقطة ردِّ فعله؛ حيث يختفي في الظلام، مطأطئاً رأسه في شعور من الخضوع والذل، مغلقاً عينيه؛ ليجيبها بصمت دون أن ينطق بأي كلمة.
تجربة العودة، التي يقدمها المخرج أوبيرتو پازوليني”، ظلل عليها خبر شروع المخرج البريطاني “كريستوفر نولان” في تقديم رؤيته الخاصة لأسطورة “هوميروس” بطاقم ممثلين على رأسهم “مات ديمون”، و”توم هولاند” ،و”زانديا” و”آن هاثاواي”، وتكهَّن محبوه حول العالم برؤياه المحتملة لحكاية البطل الأسطوري.
لكن “أوبيرتو پازوليني” قدَّم معالجة تستحق الإشادة بها لواقعيتها، وصداها في حاضرنا، عن حروب تجذب رجال قد لا تكون حروبهم من الأساس، ولأن “أوديسيوس” شخصية يتهافت عليها الفنانون نهلاً من أسطورته، يفعل بالمثل “بازوليني” لتقديم نموذج أبوي يتعلم من أخطاء ماضيه، ولم يزهو به، بل أدرك بالنهاية عاقبة غروره، التي جعله القدر يراها ماثلة أمام عينيه.


★ناقدة ـ مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى