جواد عامر:الرواية العربية، وأنساق ما بعد الحداثة.
جواد عامر ★
شكَّل الوعي النقدي، الذي أصَّلَّت له، وبنت أسسه الإبستمولوجية “النظريات النقدية الحديثة في الغرب” ؛ ليتخذ أبنية متعددة، حركتها رؤى وإيديولوجيات مختلفة، أطرّت تشكيلة هذا الوعي، الذي سيعمل على توجيه العملية الإبداعية لدى الروائيين، الذين استوعبوا وتشرَّبوا الأسس النظرية، واستلهموا الأدوات المنهجية، التي وظَّفتها النظريات النقدية الحديثة في تعاملها مع الظاهرة الأدبية، خاصة الجنس الروائي، منذ الشكلانية والبنيوية، اِنطلاقاً مما سيقدمه “ميخائيل باختين” في شعرية دوستويفسكي، وفي تحليل الخطاب الروائي من تنظيرات جديدة للرواية لم يسبق إليها، فاتحاً بذلك الباب على مصراعيه للبنيويين، والتفكيكيين، واللسانيين، والسيميائيين، والانتربولوجيين لمحاورة النص في بعده الأدبي، والتأويلي، واللغوي والعلائقي، والاجتماعي، والتاريخي ..، فتعددت المقاربات، التي تتناول الخطاب بحسب انتماءات وتخصصات الدارسين، فكان النص الروائي من أكثر الأجناس، التي حظيت خلال القرن العشرين، باهتمام نقدي كبير باعتبارها نتاجاً أدبياً ماز هذه الفترة من التاريخ والخطاب الأكثر قدرة على إدماج أنواع من الأدب في معمارها اللغوي، ولعل سيرورة التحول، التي شهدتها الرواية العربية عبر عقود متلاحقة، بدأت فيها الرواية محاكية للرافد الغربي، غير قادرة على إخفاء تأثرها بواقعية بلزاك، وزولا، وهوجو، فاحتذت نفس النسق، بل أعادت إنتاج النص الغربي في بيئة عربية، وجدت فيها نوعاً من التماثل الواقعي، الذي مازته الهشاشة، والرداءة الاجتماعية، والاقتصادية، فاستطاعت الرواية العربية أن تعكس روح الواقع العربي، ونبض الشارع، مثلما عكست صور المعاناة، وأشكال المقاومة زمن الاحتلال، فكانت الهوية، والوطن، والمقاومة، هي التيمات الغالبة على روايات عربية كثيرة؛ لتتجاوز الرواية العربية، الأنساق التقليدية القائمة على الخطية والأحادية في اتجاه تعددية الأصوات، التي يحكمها الإطار البوليفوني، فاستطاع الروائي العربي أن يخترق حدود الأنساق المألوفة في الصناعة الروائية، مستلهماً الأدوات الإجرائية، والطروحات النظرية، التي جاءت بها النظريات النقدية الحديثة.
وكان للحداثة دورها الكبير بما جَدَّ في حمولتها الثقافية في تأسيس مشروع حداثي جديد، شمل مختلف مناحي الحياة، وكان لابد للأدب شعره ونثره من أن ينال نصيبه هو الآخر من هذا التحديث؛ لتجد الرواية العربية نفسها في سياق تاريخي جديد، سيحتم عليها تحديث أنساقها، وأبنيتها وأنسجتها الداخلية، وموضوعاتها، مما جعل الرواية تستدعي الأسس والجذور الفلسفية للحداثة، ومفاهيمها، التي أسست لبنيانها في إعلان صريح عن مقاطعة التقليدي والتراثي، من أجل خلق نص روائي حداثي بامتياز، يعلن القطيعة الكلية مع رواية الماضي بكل مكوناتها ، فالروائي العربي، وهو يعيش واقعاً هشاً متكسراً ، مشحوناً بالقيم السلبية، واقعاً تسمه الفوضى، والشتات، والتمزق، والارتباك ، واقعاً أعلن عليه التمرد والرفض، واستجدى نشوء واقع جديد مغاير، يحمل كل قيم الإنسان من حرية، وعدالة، وكرامة، وديمقراطيات حقيقية ، سيكتب نصه، اِنطلاقاً من هذه السمات المتشظية، وسيشد معماره الروائي بشكل يستجيب لخصوصية التاريخ، باعتباره جزءاً منه لا كائناً خارجه، كما يفعل المؤرخ مع الوقائع، إنه كائن مختلف يلتقط الصغيرة والكبيرة؛ ليتنفسها النص، ويتجشأ ما يكون غير مرغوب فيه ، مما جعل الرواية العربية تتخذ أنساقاً جديدة، غلب عليها التمزق، والتشظي، وملمح الغموض والبياض، فتشكلت في كثير من النصوص لوحات سديمية، تكتبها لغة شاعرية، تفجر من دواخلها أحاسيس عدم الرضى والتمرد، على الواقع السياسي، والاقتصادي، والثقافي، والاجتماعي.
ومن هنا اعتبر كثيرون أن الحداثة قد قُدِّرَ لها الكمال والانتهاء، عبر هذا المشروع الفكري، الذي أرست دعائمه الفلسفات الحديثة ممثلة في مثالية هيجل، وجدلية ماركس، ووجودية هايدجر، غير أن ما شابها من تهشم وانحلال قيمي، دفع إلى ضرورة تخطي حاجز الحداثة إلى ما بعدها ؛ لتنطلق تجارب روائية جديدة في العالم العربي، تجترح فنياً وجماليا الأنساق التقليدية، التي دأبت عليها الإبداعية العربية منذ بدايات القرن العشرين، إلى حدود السبعينيات حين أخذ تأثير النظرية الغربية، يقوى أكثر فأكثر مع البنيوية والتفكيكية؛ لتشرع مشاريع روائية جديدة في الإعلان عن نفسها من وسط مخاض إبداعي عسير التقبل من الناحية الجمالية، لما ألفته الذائقة من نماذج تقليدية أحادية لا تخرج عن دائرة الخطية ، لذلك فإن رواية ما بعد الحداثة، وإن كان بينها وبين رواية الحداثة، تلك الصلة الزمانية، التي يصعب فصل خيوطها عن بعضها البعض، شكَّلت استمراراً لما أرسته الحداثة، وليس قطيعة بالمعنى الإبستمولوجي والتاريخي، لتظل نفس التشظيات واللوحات، التي تبدو غير متحدة، ولا منسجمة، معلنة عن التمزق والتشتت، مشكلة للمعمار الروائي الجديد، الذي بات أكثر هروباً من الواقع والتاريخ، غارقاً في متاهات الخيال والفنتازيا متجاوزاً حدود الزمان والمكان، ممتصاً لألوان أخرى من النصوص، ذات المرجعيات المختلفة مشكلاً نصاً روائياً منمنمناً بزخرفات وفسيفساء، جمالي جديد يستعصي ويتمنع على القارئ أحياناً، بسبب التداخلات الكثيرة للنصوص والانتقالات السريعة الخاطفة أحياناً للأحداث، التي تتخطى طابعها التعاقبي المعروف في الأدبيات التقليدية للكتابة الروائية .
لقد استطاعت رواية ما بعد الحداثة أن تكمل المشروع الروائي، الذي أرست دعائمة الحداثة، دون أن يكون بينهما انفصال تاريخي ، واتجهت إلى تجريب جديد يتواءم مع طبيعة الرؤية الفلسفية والوجودية للعالم، والتي تشكلت عند الروائي العربي بعد الحرب العالمية ، وأخذت في التبلور مع مرور العقود في إطار جدلي، أسهمت فيه التأثيرات النظرية الحديثة في العالم الغربي ، فكان لابد من خوض تجربة إبداعية تستلهم روح الفلسفة والتصوف والدين والخرافة وغيرها من الأنساق المعرفية، التي اغتنى بروافدها الروائي العربي، وظهرت جلية في تعامله مع النص من حيث موضوعه وبنيته السردية، التي أخذت في تشكيل نسق جديد مغاير للمألوف ، فتداخل العالم الواقعي بالخيالي، وغدا من المتعسر على الناقد أن يميز، أو يفصل بينهما، حتى المتلقي نفسه سيجد نفسه في مأزق التموقع بين واقعية الحدث، أو خياليته ، وهذا السيناريو الجديد، أخذه كُتَّاب ما بعد الحداثة على عاتقهم، كنمط جديد يظهر فيه الواقع مرتدياً عباءة الخيال، خلقاً للقلق الوجودي لدى القارئ ، وهو قلق تنشئه كذلك شخصيات الرواية، التي تتسم في رواية ما بعد الحداثة، بعدم الانسجام، وغياب التناسق صنعاً للاختلاف، ووجودها رهين باللغة نفسها، فهي التي تشكلها حسب السياقات؛ لذلك لا تتحدد أوصافها الجسمانية والنفسية .. كحال الشخصيات في الروايات الواقعية، التي يتحرَّى فيها السارد وصف الشخوص من زوايا متعددة؛ ليجعلها كائناً حياً يمتلك نفساً بشرية حقيقية، ولهذا نجد الشخصية في رواية ما بعد الحداثة، قد تناقض ذاتها، التي تشكَّلت من قبل، فقد تظهر الشخصية في فصل روائي بشكل مناقض، ومغاير لحالها في فصل آخر.
وبهذا تكون رواية ما بعد الحداثة، قد أسست لنفسها مشروعاً جديداً في سياق التحولات التاريخية، وما أفرزته هذه التحولات، من سياقات مختلفة المباني، كان العالم الروائي مجبراً فيها على بناء ذاته بناء مغايراً يستجيب فيه لسيرورة التاريخ، وفاء لطبيعة الأدب من حيث وظيفته في الحياة، وتماشياً مع المتغير الجديد، الذي يصنع الرؤية، ويُشكِّل الموقف من العالم والوجود.
★ناقد ـ المغرب.