إذاعة وتليفزيونرأيسينما

ضحى السلاب :  نبيل الحلفاوي.. الحكيم صاحب القبعة.

ضحى محمد السلاب

يمتلك ” حي السيدة زينب” سحراً خاصاً، وهوية ثقافية مميزة، وروحاً مصرية شعبية أصيلة؛ تفوح منها رائحة الأحياء القديمة، والموالد وحلقات الذكر، ومحلات العطارة، والأجواء الفولكلورية المميزة،  وسحراً دائماً للحكايات بين جدرانها؛ ذلك السحر الذي تسَرَّب داخل سكان هذه المنطقة،  فجعلنا نشاهد  ” الروح المصرية الأصيلة” ، وندرك معنى ” الحكمة  القديمة التي لا تموت “
وتحديداً داخل  الفنان القدير الراحل ” نبيل الحلفاوي” أحد أبناء المنطقة، الذي ولد في ٢٢ أبريل عام ١٩٤٧، عرف بحبه الشديد للتمثيل؛ لذا التحق بالمعهد العالي للفنون المسرحية، عقب تخرُّجه من كلية التجارة،  وتخرَّج منه عام 1970.
كان لنبيل الحلفاوي نظرة مختلفة إلى فن التمثيل، جعلته  يتمتع بالكثير من الثقافة والحكمة، التي مكَّنته  فى رأيي  من تطبيق نظرية ” القبعات الست ” للعالم إدرود دي بونو” فى أدواره، وهى نظرية تقسم تفكير الإنسان إلى ستة أنماط، واعتبار كل نمط قبعة يلسبها الإنسان، أو يخلعها حسب طريقة تفكيره.

وصلت براعته إلى الدرجة، التي مكَّنته من تطبيق هذه النظرية، والانتقال بين هذه القبعات، بمنتهى البساطة والسلاسة والاستمتاع.
فمثلاً،  تمكَّنَ من ارتداء” القبعة البيضاء” التي ترمز إلى الحيادية والتجرد من العواطف ” فى الفيلم التلفزيوني “الطريق إلى إيلات” عام 1994، عندما أدّى دور العقيد محمود، قائد التدريب في فيلم “الطريق إلى إيلات”، والذي كان ملقباً فيه باسم “القبطان” ، وهو اللقب الذي لازمه فيما بعد بين الجمهور.

وفي “الطريق إلى إيلات” ، يروي ملحمة الضفادع  المصرية فى ميناء إيلات، فى فترة حرب الاستنزاف ، وتنفيذ  العملية الشهيرة “إغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات” يوم 21 أكتوبر  (1967) بواسطة 4 صواريخ بحرية .

وكذلك فى  مسلسل «غوايش» عام 1986، الذي أدى فيه دور «معلا قانون»، الرجل الصعيدي، ذو الطباع الحادة ، ومع تعلُّق كثيرين من الجمهور بهذا العمل الفني، راح بعضهم يتساءل عن معنى اسم الشخصية، وهو ما أوضحه الفنان نبيل الحلفاوي، في منشور قديم له عبر حسابه الشخصي على منصة «إكس» (تويتر سابقاً).  قائلاً : هو اسمه معلا.. ولُقِّب بالقانون (جانون) لأن كلمته بمثابة قانون.. حاسمة ولا ترد، وتطبق التقاليد والعرف.

والذي تدور أحداثه حول (غوايش)  صفاء أبو السعود…فتاة بسيطة تعمل مع أبيها، وابن عمها فى الموالد، حيث تبيع الحلي النسائية المزركشة، يتنقلون بين الموالد ، حتى يصلوا إلى إحدى قرى الصعيد، التى تشهد صراعاً بين (معلا) نبيل الحلفاوي، العمدة الفعلي للقرية المتميز بقسوة القلب، وحب التعالي، وبين جانب من أهل القرية، وتتعرَّف على (حسانين) ” فاروق الفيشاوي”الشاب الهادي المتعلم، الذي لم يسمح له أخوه الكبير (معلا) باستكمال تعليمه، والذي يقع في حب (غوايش).

بينما ارتدى “القبعة الحمراء”، ثلاث مرات، مرتين  في مسرحية “عفريت لكل مواطن”، عام 1988، من تأليف لينين الرملي ، وإخراج محمد أبو داود، والتي تناقش فكرة  الأزمات النفسية، التي يتعرض لها الإنسان، وكيف أن (كثرة الضغط يمكن أن تُوَلِّد الانفجار ، وتخرج  من داخل الإنسان القانع .. إنساناً طماعاً) وهو ما فعله نبيل الحلفاوي، بمرونة شديدة؛ حيث استطاع الانتقال من  شخصية” راضي”  الشخص الطيب، الذي  يقدره زملاؤه في العمل،  ويمتلك جرأة وحسن تصرف، إلى شقيقه، أو النسخة الأخرى منه” الأنا “الذي ظهر له من تحت الأرض ، والتى أطلق عليه راضي هذا الاسم؛ لأنه عكس شخصيتة الحقيقية، انتهازي وطماع يحاول أن  يستغل الناس،  التي كان يتعامل معهم “راضي” ؛ حتى ينشأ بينهم صراع يحاول من خلاله راضي أن يطرده من حياته.
والثلاثة  فى مسرحية ” اضحك  لما تموت ” 2018 عندما تملكته مشاعر اللامبالاة فى دور (يحيى) رجل كبير في السن، تغيَّر كثيراً مع مرور الزمن، وأصبح لا يكترث بشيء، يحاول أن ينسى ماضية، خاصة أنه ترمَّل مبكراً، ولكنه لم يشأ أن يموت، رغم فقره وبؤسه بدافع من الفضول لا أكثر، لعله قبل أن يموت يستشرف الأيام القادمة، ورغم أنه يعيش في حالة تقترب من الزهايمر، يجعله يهزأ بكل شيء، إلا أنه يضحك ساخراً مبتعداً عن أحزانه ، وكأنه ميت وهو حي!
بينما ارتدى “القبعة الصفراء”، التي ترمز إلى الإيجابية والاستعداد للتجريب فى فيلم” سوبر ماركت” 1990 عندما أدى دور خالد موظف بسيط يحلم بالسفر إلى الكويت؛ لتأمين مستقبله، وعاد بعد 10 سنوات، وقد تغيرت حياته، أصبح يمتلك شقة، وسيارة فخمة، سعى إلى تغيير حياة ابنته ناهد من زوجته الأولى، أميرة” نجلاء فتحي”.

وارتدى”القبعة الزرقاء”، التي ترمز إلى التفكير الشمولي في مسلسل “زيزينيا ” الذي كان لوحة فنية متكاملة، فشخصية “رفاعي” التي قدَّمها كانت نموذجاً للصعيدي الأصيل، الذي رغم انتقاله للإسكندرية،  تأقلم مع أجوائها، كأنه واحد من أهلها، دون أن  يتخلَّى عن جذوره وهويته .

فبالرغم من عمل رفاعي  في الوكالة، مع عامر عبد الظاهر ” يحيى الفخراني” لكنه لم يكن مجرد موظف عادي، بل كان صديقاً بمعنى الكلمة، يحافظ على العِشرة، ويفهم قيمتها،    الفنان الراحل نبيل الحلفاوي، قدَّم الدور ببراعة وصدق، لدرجة تجعلك تشعر أنك تشاهد نموذجاً حيّاً للصعايدة، الذين عاشوا قديماً في الإسكندرية.

أما  “القبعة الخضراء” ، التي ترمز إلى التفكير المبدع، اِرتداها فى  دور “مخلوف” والد جميلة” نيلى كريم “في مسلسل “لأعلى سعر” 2017، عازف القانون الذي يؤمن بزمن الفن الجميل، ولايعترف بالمهرجانات، تلك الشخصية التى أراد  بها كاتب السيناريو ” د. مدحت العدل” خلق حالة من التوازن بين الخير والشر، دون أن يلتفت إلى أن الخير والشر متلازمان فى كل شخصية.
و “القبعة السوداء” التي ترمز إلى التفكير السلبي فى السهرة الدرامية ” الجلياط ” عام  1987 عندما أدى دور ” لطيف عبد اللطيف سبعاوي” مندوب المبيعات، الذي يتعامل مع من حوله بشكل غير مهذب، وبه نوع من الكِبْر والإستعلاء؛ نظراً لظروف نشأته القاسية بين أخوته، فلم يجد من يمنحه الحب والإهتمام، وهذا ما أراد أن يوضحه المؤلف ” لينين الرملي” أن فاقد الشيء لا يعطيه.
ورحل الفنان الكبير “نبيل الحلفاوي” فى 15 ديسمبر الماضي عن عمر ناهز 77 عاماً؛ تاركاً وراءه إرثاً فنياً أنيقاً من الصعب تكراره.


★كاتبة ـ مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى