سعداء الدعاس: لماذا يختفي النقاد؟!
نقد x نقد تحتفل بعامها الأول.
د. سعداء الدعاس★
هل هناك مؤامرة على النقد والنقاد، لإلغاء وجودهم؟! تساؤل سيطر على ذهني منذ بدء عملي في قسم النقد والأدب المسرحي، إلى أن بات مُلِحّاً طوال مرحلة رصدي لمُنجز طلبة قسم النقد، والذي أثمر كتاباً أصدرته قبل ثلاث سنوات، بعنوان “ببليوغرافيا مشاريع التخرج”، حين صُعقت من العدد الهائل الذي تخرّج من القسم، وذُهلتُ عندما عرفت مصير معظمهم؛ فما الذي يجعل خريج “النقد” لا يُمارس تخصصه الذي قضى في دهاليزه أربع سنوات من حياته!؟ لا بد أن من بينهم من كان مميزاً، أو مجتهداً على أقل تقدير، إذن أين ذهبوا؟! أين زملاء الدراسة؟! أين عشرات الطلبة الذين كانوا يملأون الممرات صخباً؟! وكيف تحوَّل الأمر إلى نفور كبير من القسم؟! إلى درجة قبول ثلاثة طلبة فقط في العام الماضي!
شغلتني تلك التساؤلات كثيراً، فقررتُ رصد العوامل التي نفَّرت الطلبة من التخصص، أثناء الدراسة، أو بعد التخرج، للكتابة عنها بالتفصيل يوماً ما، لكني أثناء كل ذلك توقفت عند السؤال الأهم؛ ما هو دوري أنا لمعالجة تلك الظاهرة؟! هل هناك ما يمكن أن أقدِّمه خارج إطار قاعة المحاضرات؟ أم أكتفي بأداء عملي دون تقديم أية حلول!؟
ولأن همّنا مشترك، وهاجسنا واحد، كنت أتناقش وتوأم روحي علاء الجابر، كثيراً حول هذا الموضوع، خاصة عند عودته من رحلاته، التي يُقدِّم فيها العديد من الورش في مجال الكتابة، في معظم دول الوطن العربي، ومصر تحديداً؛ فما إن يعود منها، حتى يظل يحدثني عن حماس المتدربين، الذي باتوا مع الوقت كأبنائه، وكيف استمرَّ الكثير منهم في حضور ورشه الأخرى، وتجاوبوا معها عملياً، عبر الكتابة الفعلية، ومن ثَمَّ يتوقف عند بحثهم الدائم عن وسيلة للنشر. أحدِّثه أنا في المقابل عن الطاقات المميزة لدي من أبنائي الطلبة، الذين يعانون من آفة (التلقين)، وعدم قدرتهم على التعبير عن وجهة نظرهم في ظل سطوة (المُلقنين) ورفضهم للرأي الآخر، وأبوح له برغبتي في تشجيع طلبتي على الكتابة، وتنمية قدراتهم.
بفضل تلك النقاشات، توصَّلنا للوسيلة التي نُشجع من خلالها تلك الأقلام الموهوبة، بعيداً عن النشر المتقطع لدى الصفحات الفنية في الصحف الكويتية، والمصرية، والتي يُشرف عليها بعض الزملاء والأصدقاء، فجاءت فكرة مجلة (نقدXنقد) التي لم نجد أفضل من ابنتنا الغالية الناقدة رانا أبو العلا لتقودها إلى بر الأمان، في رحلة كانت نقية كنقاء قلبها، وسلسة كسلاسة التعامل معها، ومؤثِّرة كتأثيرها على كل مَنْ عرفها، لكن القدر شاء أن تكون تلك الرحلة خاطفة وسريعة، بعد ثمانية أشهر فقط من عمر المجلة، لتغادرنا رانا في أغسطس 2023، رحمها الله، وأسكنها فسيح جناته.
في ذلك الصيف، وقبل رحيلها المفجع، التقيناها عدة مرات في قاعات المسارح، وساحات الأوبرا، سواء قبل بدء عروض المهرجان القومي للمسرح المصري ، أو بعد انتهائها، لكن اللقاء الأبرز، كان صحبة مجموعة رائعة من الشباب النقاد – كما هم في الصورة- الذين زيّنوا مجلة (نقدXنقد) بمقالاتهم، وقراءاتهم النقدية الواعية، وقد كان من اللقاءات المؤثِّرة في ذاكرتي، كونه بمعيّة الراحلة رانا، التي أنارت المكان بروحها الطاهرة.
ودَّعتنا رانا بعد ذلك اللقاء بأسابيع قليلة، مُخلِّفة الكثير من الألم، والدموع، وكلمات الرثاء التي ملأت أبواب المجلة، حزناً على ابنة المكان وجوهره، وكمحاولة لإنقاذ الموقف، تَحَلَّقَ حول المجلة صديقاتها سارة عمرو، مي الدماصي، آية سيد، رنا خلف، للنهوض بالعمل، والمحافظة على استمراريته، بجهود طيبة ومتواصلة، يُشكرن عليها، إلى أن تم تسليم الدَّفة إلى الناقدة شيماء مصطفى، التي أبهرتنا – ولا تزال – بشغفها الثقافي، وإخلاصها وتفانيها في العمل، بعطاء لا محدود، وحماس فاق التوقعات.
بجانب قدراتها الفنية العالية، فيما يتعلق بالتنسيق والنشر، لشيماء قدرات أخرى مذهلة، فهي ناقدة متمكِّنة من أدواتها، تتكِئ على معايير دقيقة لا تدركها إلا قارئة نهمة، تذكِّرني دائماً بتلك القارئة التي تسكنني، وأَنشغِلُ عنها كثيراً بالكتابة والعمل، فكلما تصفَّحتُ المقالات النقدية المميزة لشيماء – خاصة في مجال الرواية – كلما تذكَّرتُ أجمل قراءاتي، التي كنت أختارها بِحُرِيَّة، بعيداً عن توجهات البحث العلمي، وأُطُر اللجان التحكيمية، ومعاييرها.
رفقة شيماء، بعقليتها الواعية، وقلمها المتمكِّن، وإخلاصها الكبير، أعادت الأمان لقلبينا -علاء وأنا – فدارت عجلة المجلة من جديد، بهدوء وسلاسة، ومساهمات إبداعية، لذات الأقلام المتميزة، التي شاركتنا الحلم منذ البداية، ومشاركة رائعة لأسماءَ جديدة لفتت الانتباه لها منذ المقال الأول، والتي صادف أن معظمها من الشباب، بل أن منهم مازالوا طلبة، مُحقِّقين بذلك أحد أهم أهداف المجلة، منذ لحظة التأسيس، حين قرَّرنا أن يكون للشباب دور مهم في تشكيلها عبر فتح الأبواب لهم، بِحُرِيَّة، مع إرشادهم ، وإبداء الملحوظات على منجزهم، وهذا بالإضافة لتشجيعهم المستمر، وحثِّهم على الكتابة، والإيمان بذواتهم، والدفاع عن أفكارهم، وقناعاتهم… إلى أن تشكَّلت لدينا قاعدة رائعة من الشباب العربي، فبجانب الفريق المصري المميز، يأتي الفريق الكويتي – من طَلَبَتِي تحديداً- الذين ينتمون إلى عدة دول عربية بجانب الكويت؛ عمان، سورية، مصر، والأردن.
واليوم وأنا أقرأ الأسماء الشابة ضمن قائمة (المحررون)، وبقية الأسماء الذين لازالوا يمدوننا بإبداعهم – رغم ارتباطهم بالتزامات أبعدتهم عنّا بصورة مؤقتة – وأطلع على مقالاتهم النابضة بالحياة والبهجة، أشعر بالفخر الكبير، وأتذكَّر حديثنا عن غياب النقاد الشباب، وأسترجع لحظة تخطيطنا للمجلة، ومتابعة علاء لآلية تنفيذها على يد الصديق المبدع محمد فاضل، الذي فاجأنا بتصميم مميز، أشرق بتوفيق كبير من العلي القدير، لعلمه عز وجل بما تُكِنُّه الصدور، من دعم حقيقي لِحُرِيَّة الرأي، وإيمان كبير بمنجز أبنائنا، ورغبتنا الدائمة في منحهم مساحة للتعبير.
شكراً لكل من ساهم في تحقيق هذا الحلم، بدءأ بشريك الحياة والروح علاء الجابر، الذي يتحَمَّل يومياً مهمة قراءة جميع المقالات، ومراجعتها، وإبداء وجهة النظر فيها، بروح الأب، ومهنية المحترف، وحرص الأستاذ والمعلم.
والشكر موصول للأستاذ القدير فؤاد حمدو الدقس، صاحب المنجز الثقافي الرصين، على جهوده الكبيرة في التدقيق اللغوي، في سبيل تقديم مادة لغوية تليق بقرائنا، وشكر خاص لكل اسم شرّف مجلتنا بقلمه، من كبار المثقفين من الزملاء والأصدقاء، لوعيهم بأهمية النقد وقيمته، ودعمهم لتَوَجُّهِ المجلة وطبيعتها، وأخيراً شكراً لأبنائنا الشباب من كل مكان، الذين أثبتوا بأقلامهم المميزة، أن النقد في الوطن العربي لايزال بألف خير.
★مدير التحرير.