د. سعداء الدعاس:في حضرة سيد الكلمة.. عبداللطيف البناي!
د. سعداء الدعاس ★
حين حضرت مسرحية “ليلى والذئب” في طفولتي، وحفظتُ كل أغانيها بعد ذلك، لم أكن أعلم أنني في مراهقتي وشبابي، سأُتيّم بعشرات الأغاني لنفس الكاتب، والتي شَدَتْ بها أصوات أبرز الفنانين في الكويت، والخليج قاطبة، وعندها لم أكن أتصور أنني بعد سنوات طويلة، سأشرف على رسالة علمية تتناول مسرحياته بالدراسة والتحليل، على يد إحدى أنقى طالباتي، وبالتأكيد لم يخطر في ذهني حينها على الاطلاق، أنني سأزوره في بيته الدافئ يوماً ما!
بدأ الأمر باتصال مفاجئ تلقّاه علاء، بسعادة غامرة، من الشاعر الكبيرعبداللطيف البناي؛ ليهنئه على جائزة (كتارا)، مذيلاً باتفاق جميل على اللقاء، ما إن سمعتُ أن علاء، سيزوره في منزله، حتى قفزتْ في ذهني صورة ابنتي الغالية “حصة الحمدان”، التي أشرفتُ على رسالتها تلك قبل سنتين، والتي أنجزتها باستمتاع كبير، وإخلاص لافت للانتباه، طوال العام الدراسي؛ لتخرج برسالة علمية مميزة على مستوى الشكل والمضمون.
ولأني أدرك بأن (البناي) لم يكن مجرد (مشروع تَخرُّج) بالنسبة لحصة، فكَّرتُ بها مباشرة؛ لعلمي بالمكانة التي تحملها له في قلبها، ولمعرفتي مسبقاً بأمنيتها اللقاء به، وإهدائه منجزها ذاك، فوافق علاء مباشرة؛ لأنه يرى في حصة، الابنة الوفية، والجزء الذي لا يتجزأ من مجلتنا (نقدX نقد)، كمحررة نفخر بمقالاتها، ومشاركاتها المميزة.
بعد دقائق، اِرتسمت أمامي صورة ابني الغالي يوسف العصفور، محرر (نقدXنقد) أيضاً، وأحد الأقلام النقدية الجادة والمختلفة، بمقالاته المميزة التي تهتم بالمسرح والأغنية على وجه الخصوص؛ ولأن العصفور، متابع دقيق لمسيرة البناي، ويحفظ معظم أشعاره عن ظهر قلب، أدركتُ أن زيارتنا للبناي، ستكون منقوصة دونه، وأن أمسية في بيت أحد شعرائه المفضلين، ستترك أثراً كبيراً في نفسه.
حين كتب علاء، للبناي يسأذنه باصطحابنا معه، ردَّ شاعرنا الغالي بجملة كريمة وموجزة: “هلا بالطيب ومليون هلا، أنت ومن يعز عليك”، فابتسمتُ، وأنا أستمع بحماس للرسالة على لسان علاء، عندها أدرك مباشرة، أنها ابتسامة طمع بلا شك، نظر إليًّ، وعيناه تتساءل، ونصف ابتسامة ترتسم على محياه: “مَنْ أيضاً”، هنا وجدتني أطالب بانضمام ابنتي الغاليتين منيرة العبدالجادر، وحنين سالمة، للمجموعة! محررتا (نقدXنقد) وصاحبتا المواقف الجميلة، ورفيقتاي في معظم الفعاليات الثقافية، هنا ضحك علاء، وأرسل للبناي، يخبره بذلك، فجاء الرد بلغة شاعرية أكرم من الأولى” لكم الخاطر أوسع من الدار”!
رفَّ قلبي، وأنا أخبر أبنائي، الذين تحمسوا كثيراً للقاء، مع اتفاق مسبق بأن حضورنا سيكون لتحية البناي والتصوير معه فقط؛ ومِن ثَمَّ مغادرة منزله؛ لنترك المساحة لعلاء، رفقة شاعرنا الغالي…للحديث في موضوعهما المشترك، سبب الزيارة، لكن بيته الكريم أبى أن يتركنا نغادر إلا بعد مرور ساعة كاملة، مرت كدقائق مدثرة بالحب، والقصائد، والذكريات!
البداية كانت أمام باب بيته، حيث التقينا جميعاً في الوقت المحدد؛ ليستقبلنا بابتسامة ترحيب، حفيده عبداللطيف ناصر البناي، طالب الطيران، الذي حملت ملامحه الجميلة لطف اسمه، وهدوء حضوره، حيث رافقنا طوال الزيارة، وعيناه معلقتان على شاشة التلفاز، متابعاً بحماس مباراة نادي القادسية، الذي يُشكِّل شغف العائلة بأكملها.
طوال زيارتنا تلك، وأنا أراقب المشهد، كانت منيرة، وحنين مبتسمتين بهدوء على غير العادة، مع محاولات للتعبير بكلمات سريعة بين الحين والآخر، أما حصة الحمدان، المتيّمة بالبناي، فكانت الأكثر صمتاً حيث سيطر عليها الخجل كما كنت أتوقع، رغم محاولاتي العديدة لحثها على الكلام حينها، لكن دون جدوى، الجميل أن صمتها ذاك يؤكد سعادتها الغامرة، فمن يعرف حصة جيداً، يدرك تماماً فرحتها بمجرد النظر لعينيها، التي كانت تراقب شاعرها المفضل طوال الوقت، بابتسامة لم تتقلص لحظة واحدة.
كان بريق عينيها الجميلتين كفيلاً بأن يشيَ بكل ما يدور في جوارحها من حب وامتنان لهذا الإنسان الجميل، الأمر الذي حاولت التعبير عنه بالحلوى، وباقة الورد الأنيقة!
المفاجأة الحقيقية كانت في انطلاقة يوسف العصفور، الذي راح يسأل البناي، أسئلة ذكية عن أعمال لم تكتمل، مستفسراً عن أسباب عدم اكتمالها، والأسرار التي أحاطت بها؛ ليفاجئنا البناي بحفظه لتلك القصائد التي لم يحالفها الحظ في عالم الغناء، وأفصح عن الكثير من الأسباب ببعض التفاصيل المشوقة.
حفظ البناء للقصائد التي لها ذكرى عظيمة في ذاكرة الأجيال، جعل العصفور، وعلاء يتنقلان من أغنية لأخرى، والبناي يكمل أبيات الشعر بسلاسة، في أجواء حميمية، تركت الأثر الكبير في نفسي.
أما الجزء الذي أبهرنا جميعاً، تلك الروح الجميلة التي استقبلتنا بها زوجته الفاضلة (أم ناصر)، إمرأة من الزمن الجميل، أو كما يقال بالتعبير الكويتي (ذهبة)، تمتلك قدرة رائعة على انتقاء الكلمات، بترحيب أخجلنا من شدة أناقته.
سعدت كثيراً، وأنا أرى أبنائي يُصغون لذكرياتها الجميلة، ويتعرفون على اختياراتها لأقرب أغاني البناي لقلبها، حيث كانت تبتسم بخجل البنات، وترحب بكرم الأمهات، وتتحدث بحكمة المُعلمات، وبالفعل لم نفاجأ حين علمنا أنها كانت تعمل مُعلمة للجغرافيا؛ ومِنْ ثَمَّ وكيلة لإحدى المدارس قبل التقاعد
بابتسامة ووعد بزيارة أخرى، تركنا علاء رفقة صديقه الغالي، وغادرنا أنا وأبنائي ذلك المنزل العامر بالحب، كتلك الروح التي تحفل بها أغاني عبدالكريم، وعبدالله الرويشد، ورباب، وظللنا طوال ذلك المساء نسترجع تلك اللحظات الجميلة، التي أنتجت مقالاً مؤثراً يلامس الروح بقلم حصة الحمدان، نُشر في (نقدXنقد) بعنوان “عبداللطيف البناي.. حلمي الذي تحقق”، والعديد من الصور التي تُخَلِّد تلك الأمسية، بذكرى مميزة، لا يمكن لنا جميعاً أن ننساها!
★ مديرة التحرير