حصة الحمدان: من يعشق الشموخ يترفع عن الصغائر
حصة علي الحمدان★
حين التحقت بالمعهد العالي للفنون المسرحية، وتحديداً قسم النقد والأدب المسرحي، شعَرتُ بأنني ولدتُ من جديد، إذ تحقق ذلك الطموح، الذي كثيراً ما كنتُ أخبر صديقات طفولتي عنه، منذ المرحلة المتوسطة إلى الثانوية، وبأنني سأصل إلى هذا الهدف بإذن الله، واليوم أصبحت تلك الرغبة كالماضي الغارق بالذكريات الجميلة، والمؤلمة إلى حدٍ ما.
عند الحديث عن المواد الدراسية التي دَرَسْتُها في المعهد العالي للفنون المسرحية، فإن مادة “فن الكتابة” قد تسللت إلى مجرى الدم، حيث تعلمت فيها أن الإنسان يجب أن يُظْهِر ما في قلبه من إبداع مكبوت، والذي ربما يتحول فيما بعد إلى إبداع، يتغنى به كبار الفنانين.
وإذا تحدثت عن هذه المادة، فلا بد أن أتحدث عن الدكتور خالد عبد اللطيف رمضان، الذي ترك أثراً طيباً في قلبي، وعبَّر على نفسي كرذاذ المطر بكل سلام وهدوء، فلا أنسى أن له فضلاً كأول من جعلني أعشق ما يسمى بـ (فن الكتابة) حين دَرَّسنا في السنة الثانية، وجعلنا نخوض في الإعداد المسرحي، من خلال إعطائنا بعض القصص، التي قمنا بتحويلها إلى مسرحية متكاملة من حيث الشكل والمضمون.
وهنا بالطبع يجب أن أذكر د. سعداء الدعاس، التي دَرَّستنا مادة “فن الكتابة” في السنتين الثالثة والرابعة، حيث استخدمتْ من خلال المحاضرات ما يسمى بـ “السايكودراما”، فكانت أول من علَّمنا هذا المفهوم، قبل أي شخص آخر، وفي العام الحالي من الكورس الأول أخذتنا إلى عالم آخر، من خلال العمل كمجموعات مشتركة، فعلمتنا كيفية الإعداد الجماعي، ثم انطلق كل طالب يكتب إعداده الخاص لقصة ما، عبر تحويلها إلى مسرحية.
منذ أيام شعرتُ بأن علاقتي قد انتهت بذلك الوعد الذي قطعته على نفسي، حتى أجعل من تلك الطفلة إنسانة مغرمة بالفن والأدب بكل أنواعهما، وكنت حقاً مخلصة له، أما شعوري الآن، أصبح كأغنية يغنيها العشاق، والحالمون، حيث تأخذ الأغنية المستمع إلى مملكة تُدعى الحياة الجديدة، أو قلعة العمل، التي تحمل في أعماقها خفايا الناس والأجناس، ولكن وأقولها وأنا الإنسانة، لا الطالبة؛ أدركت الآن أن البشر مستويات ومقامات، مستوى يفوق الأخلاق والاحترام، يسير أصحابه بأفعالهم ، وبعقلهم الرزين في طريق العظماء، ومقام آخر لا أريد أن أكلف نفسي وأتحدث عنه، بل سأترفع عنه، لأسلك مسلك النبلاء، ومن يعشق الشموخ يترفع عن الصغائر.
يؤسفني جداً بأنني سأرحل عن ذلك المكان، الذي لطالما غمرتني فيه عفوية وبراءة زملائي الطلبة (في قسم النقد)، كما لم ولن أنسى ذلك اليوم، حين كانوا فيه (كالدرع الحصين) المزين بأشعار تمجد بطولاتهم، والذي يحمله المدافعون بجهد ونبل وإخلاص، للحماية من العدو.
شبهت زملائي بذلك الدرع في ذلك اليوم الذي لن أنساه، حين تسلطت عليَّ إحداهن، يومها حماني زملائي، ودافعوا عني، ولم يتوقفوا عند هذا الحد فحسب، بل جاءتني اتصالاتهم طوال اليوم، لكي يرفعوا من معنوياتي، وأن جفت حروف كلماتي عن الحديث، لم يجف قلبي عن تذكر (فزعتهم) التي سأذكرها بكل عز وفخر أمام كل من يقابلني، ويتحدث معي.
ربما الذي سأقوله الآن لم يسبق لي أن قلته لزملائي من قبل، ولكن اليوم سأعترف بأن كل شخص من زملائي، ترك بداخلي قصة مغمورة بالمشاعر المليئة بالرسائل الإيجابية، والتي تخطيناها بفضل الله ثم بصمودنا، وحتى لو كنتُ أحمل مثقال ذرة من شعور الغضب تجاه بعض الزملاء، بسبب بعض المواقف، إلا أن كل ذلك أصبح الآن ذكرى لطيفة، ومضحكة كذلك، والله شاهد بأنهم تركوا في داخلي قلباً آخر ينبض بالورود، يبتسم كل ما مرت ذكراهم أمامي.
وعلى الرغم من استمتاعي في حفل التخرج، إلا أن الفرحة لم تكتمل، بسبب عدم وجود الدكتورة سعداء الدعاس، إذ نشرتْ مقالة في نفس اليوم، عرفنا من خلالها عدم حضورها، وأسباب ذلك.. وقد علقتُ حينها بوجه حزين، وقلب مكسور في وسائل التواصل الاجتماعي، حتى أعبر عن حزني من الخبر، لغياب الدكتورة اللطيفة الجميلة صاحبة القلب الكبير، التي تضيف حالة خاصة، ولو كانت حاضرة في الحفل، كنت سأكون أسعد واحدة في العالم، لأن وجودها مهم بالنسبة لي، ويجعلني أشعر بالفخر بنفسي، خاصة، وأنها هي التي أشرفت على رسالتي، والحمد لله.
رغم كل ما تم ذكره إلا أن الدكتورة سعداء لم تجعلني وزملائي في الدفعة نحزن لعدم حضورها للحفل، بل دعتنا مع زوجها الكاتب علاء الجابر، إلى أحد المطاعم، حتى تُعبر عن الفرح والفخر الذي تحمله تجاهنا، وقد سعدت كثيراً في تلك الأمسية، بالرغم من حزني على عدم حضورها، إلا أن سعادة الدكتورة سعداء بأبنائها وبناتها الخريجين والخريجات، جعلت تلك المشاعر تتحول إلى قنابل تنفجر بها قلوب حب، وحديقة خضراء، تملؤها الورود، وابتسامات وضحكات لا نهائية، وقد قدمنا لها باقة ورد، ودرعاً تذكارياً من الدفعة كتبنا فيه ما نؤمن به تجاهها، فشكراً لها، ولزوجها الأستاذ علاء الجابر على كرمهما، وعطائهما لأبنائهما.
وكما يقول رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام: (تَهَادُوْا تَحَابُّوا) فمن شدة مشاعر الحب، التي أحملها في عروقي استغللت في ذلك التجمع الجميل الفرصة، لأقدم للدكتورة سعداء هدية أعبر فيها عن امتناني لها بعد التخرج، فمن المعروف عنها عند جميع طلبة المعهد، أنها ترفض الهدايا من جميع الطلبة رفضاً قاطعاً، مهما كانت نوع الهدية وقيمتها، وكلما جرّب أحد الزملاء تقديم هدية لها حتى وإن كانت بسيطة، كانت تقول: “الهدايا الصادقة، هي التي تأتي بعد التخرج فقط، بعد أن يستلم الطالب شهادة التخرج، ولا يصبح بحاجة للأستاذ ودرجاته”، لذلك أردتُ أن أعبر لها عن صدق مشاعري، وقدمتُ لها هديتي بعد أن استلمت شهادتي في حفل التخرج، وأصبحتُ حرة.
كلمة نهائية: شكراً لكل من علمني أن الإنسان دون مبادئ لا حياة له، وشكراً إلى كل من وقف بجواري وساندني، ومن تحدث عني بظهر الغيب (بالسيرة الحسنة)، ومن شَهد عرقلتي، وساعدني على مقاومتها بكلماته التشجيعية، قبل أن تصيبني باليأس.
ولن أنسى كلمات الدكتور مشعل الموسى، عندما كنت في السنة الثالثة، ومرت بي تلك المشكلة التي ساعدني بها زملائي، حين قال لي: “تخيلي بأنك داخل حلبة مصارعة، وهناك من يصفعك من كل اتجاه، ويجب أن تقاومي عبر ضرباتك في المقابل”، اليوم فعلاً أدركت تلك الكلمات العميقة.. فشكراً له، وهنيئاً لي، بأن دَرَّسني شخص مثله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
★ خريجة قسم النقد والأدب المسرحي ــ الكويت