رأي

د. سعداء الدعاس: أبنائي.. لا ترضوا بغير حياة الفرسان!

 د. سعداء الدعاس★

أحبتي.. بل الأحب.. مبارك لكم حفل تخرجكم الليلة، الذي تمنيت حضوره، لولا إيماني بضرورة أن يكون للإنسان موقف ضد كل تجاوز في حقه، من أمر دُبّر بليل، لغاية معروفة، بتبرير لا يقبله منطق، ولا يقره بروتوكول، ولا يستند على أي من الأعراف، حين يتم الاستعانة بطرف لا صفة له في حفلكم اليوم! والإنسان الحر لا بد أن يُعلن عن موقفه، ويظل يواجه من أجله دون تراجع أو خوف، لأن الحياة لا نعيشها إلا مرة واحدة؛ فإما أن تكون حياة الفرسان وإما فلا.

ورغم أنني خرّجتُ العديد من الدفعات، خلال رحلة عملي القصيرة في المعهد العالي للفنون المسرحية، من بينهم طلبة لا زالوا يفاجئونني بوفائهم وإخلاصهم عبر التواصل الدائم، وكلمات الشكر التي تُنير عالمي الصغير سواء في رسائل التخرج أو مواقع التواصل الاجتماعي، والتي سأتوقف عندها يوماً. كما يسعدونني كثيراً بكتاباتهم ومقالاتهم المميزة، والتي أفتخر أنني ساهمت ولو قليلا بانطلاقها، سواء عبر الصحف الكويتية أو المواقع الإلكترونية ومن بينها مجلتنا نقد X  نقد.

هذه الدفعة

لكن لدفعة هذا العام، مكانة خاصة في قلبي، كونها أول دفعة تُقبل في قسم النقد إبان فترة رئاستي للقسم، كما تميزت بعددها الكبير (تم قبول 31 طالباً وطالبة، استمر منهم 27، ووصل إلى التخرج 16)، بالإضافة إلى تنوعها على مستوى الانتماء، والعمر، والمستويات، والتوجهات. وكان ذلك نتاج إيماني الكامل بأن أرض الله لعباد الله، لا مِنة من أحد على أي منهم، خاصة في ظل قسم علمي يعاني من عزوف كامل ونفور غريب من الكثير من الطلبة، مما عرّض القسم لأن يقبل في إحدى سنواته السابقة – قبل فترة رئاستي- طالبين اثنين فقط، وبعد انتهاء فترة رئاستي، تم قبول ثلاثة طلبة فقط، حيث لم يتقدم غيرهم للقسم!

بذلك الإيمان، وبيقيني الكامل بأحقية الجميع في تلقي العلم، شرّعنا أبواب القسم على مصراعيه؛ للطلبة الكويتيين، والمقيمين، والبدون، دون الاستماع للأصوات (العنصرية) النشاز، ودون التراجع تحت ضغط الشكاوى المُضحكة التي عاد أصحابها خائبين بنصر من الله، ساعدني في ذلك وجود عميد متفهم وواعٍ، وصاحب قرار، وأخ يُعتمد عليه في الكثير من المواقف (د. علي العنزي)، الذي كنت قد جربتُ التعامل معه في الموضوع ذاته وإن كان بشكل مختلف، من خلال الدفعة التي سبقتها حين ظللتُ ألح وأتابع بجهد شخصي ودون مسؤولية إدارية، قبول الطلبة الخليجيين والعرب، في أول فصل دراسي له كعميد، فكنت حلقة الوصل بينه وبينهم، ولا زلت أذكر تساؤل من كانت صديقتي حينها: “سعداء ما علاقتك بالطلبة الوافدين؟! أنت مجرد أستاذة (خلاص مالك شغل)”، لكني استمررت، كنت أستمد اليقين من الله، وبأحقية الطلبة في الدراسة بمختلف انتماءاتهم، وبالفعل تحقق الهدف، وبعد شهر كامل من متابعة الأمر، اتصلت أبلغهم بقبولهم، فكانت سعادتهم وسعادة أولياء أمورهم لا توصف، وجاء اليوم الأول الذي ازدان فيه القسم بحضورهم (طالبة مصرية، وعراقية، وعمانية)، كنّ مثالاً للأدب والأخلاق، بل إن الطالبة المصرية أبهرت الأساتذة بتميزها، وأشعلت الحماس في الدفعة، وحققت المركز الأول عند التخرج بتفوق تغنّى به الجميع، وصدفَ أن أقوم أنا بتخريجها وزملائها الأحبة في العام الماضي، وفي ذلك رسالة عظيمة لا يُدركها إلا من يتمعن رسائل الله عز وجل.

      هكذا عرفتهم

مع دفعة هذا العام، ومنذ اختبارات القبول، وأنا لا أنفك أكتشف ميزات أبنائي وبناتي الأحب، فمنهم القارئ، الذي كتب لي في أحد إيميلاته: “كنت أود أن أنال إعجابك!” ولم يكن ابني المميز يعلم أنه نال إعجابي منذ أن تحدث عن (ماركيز) في اختبار القبول، وكم يحزنني عدم كتابة اسمه في هذا المقال، احتراماً مني لاختياره الابتعاد عن كل شيء، منذ أن كررها ” أبي أشتري راسي”، لكن ثقتي كبيرة بأنه وجميع زملائه يعرفون أنه المقصود.

لا يمكن الحديث عن هذه الدفعة دون البدء بأكثرهم إبهاراً، وجلداً، وصبراً، وقوة، إنها الطفلة التي خطفت قلبي منذ اليوم الأول لرؤيتها في ورشة ما قبل القبول (منيرة العبد الجادر)، فرغم إعاقتها البصرية، كانت ولا زالت تدهشني بوعيها وذكائها وخفة دمها، بل إنها وبفضل الله، تألقت أكثر بعد أن قُدمت بعض الشكاوى ضدي من (قساة القلوب) لأني قبلتها في قسم “غير مؤهل لحالتها” كما كتب لي أحدهم رسالة تلفونية دون رأفة، ودون أن يضع نفسه مكان والدها! كنت أرى بعينيّ كيف تزهر هذه الوردة طوال سنواتها الدراسية، وعيناها ترددان: “أريد أن أجعلك فخورة بي”، فكنت أستمع بسعادة لإشادة بعض الأساتذة بذاكرتها المميزة، وإجاباتها الاستثنائية، وجلدها في الجلوس لساعات طويلة أمام ورقة الاختبار لكتابة كل ما تحمله ذاكرتها ولا تراه عيناها الآسرتان.

الصغيرة التي عرفتها وهي كبيرة، زادها اضطهاد (البعض) ألقاً، وأعاد صياغتها، ليحولها إلى طفلة مناضلة، ساعدها في ذلك الأحبة والمؤازرين من بعض الأساتذة الشرفاء والطلبة الإيجابيين، والذين كتبت أسماءهم بإخلاص يتناسب ونقاء قلبها، في ديباجة رسالة التخرج، التي بكيتُ كثيراً حين قرأتُ كلماتها التي تغنت بي شخصياً وبحبيبي علاء الجابر، وفاء منها لكل يد مدت إليها، على المستوى الإنساني والعلمي.

مع هذه الدفعة المميزة، تعرفتُ على ابنتي الذكية جداً، والإيجابية جداً، والخلوقة جداً (حنين سالمة)، التي يعتمد عليها الكثير من الأساتذة لتكون حلقة الوصل بينهم وبين الطلبة، فهي الشخص (المُستعد) دائماً، التي تحملت أعباء الكثير من المسؤوليات في العديد من المناسبات مثل المهرجان الأكاديمي، والورش والكثير من الأنشطة التي أنظمها للطلبة، فكانت خير مُعين، ولإيجابيتها حكاية لا بد أن تروى يوماً.

ولا يمكن أن أتحدث عن هذه الدفعة وأتجاوز صاحبة القلب المرهف (حصة الحمدان)، تلك (البنوتة) الصغيرة، التي تنبض بالوعي الكبير، والدمعة السريعة – مع الأسف- والتي تملك ابتسامة جميلة لا تفارق محياها، والتي عاهدت نفسها في صفحات رسالتها العلمية (المشروع) بأن تظل وفيّة لي، بكلمات أعجز عن وصف عذوبتها.. كنت أسعد كثيراً برؤية حصة وهي غارقة بالضحك مع الهادئة شكلاً فقط، وصاحبة التعليقات الظريفة (آلاء السليم)، ودون أن أعرف سبب ضحكهما، أخبرهما بحب: “استمتعا حبيباتي، اضحكا قدر ما تريدان، فالحياة نعمة من الله، ووجودكما نعمة “.

وطالما تناولنا الابتسامة، لا بد أن أتوقف عند مصدرها الأول في القاعة، التوأمين (عبد العزيز الذويب) و(عبد الملك الذويب)، اللذين يمتلكان قبولاً من الله، يجعل الجميع يحبهما ويفتقدهما في القاعة، حتى وإن اختلف معهما، أو مع توجهاتهما، والجميل أنهما نادراً ما كانا يتغيبان في محاضراتي، ليضفيا عليها البهجة بقصد أو دون قصد. حين التحقا باختبارات القبول، وجدتُ في ردودهما (الشفهية) حماساً دينياً – وإن اختلفتُ مع بعضه- لأني مؤمنة بأن القناعات الدينية حين تترسخ عن وعي وفهم، يعني أنك أمام شخصية تُفكر ولا تتبع، وهذا ما يريده الفن والأدب والإبداع.. استمرا في وعيهما الذي أسعدني، عبر إجاباتهما المكتوبة، ونقاشاتهما المستمرة في كل شؤون الحياة، وأما الكلمات التي أهداها لي عبدالعزيز، في مشروع التخرج، فجعلتني أتأكد من أن لي ابناً سيظل يدعو لي دائماً، وهذا جل ما أتمنى.

حين أتحدث عن هذه الدفعة، لا يمكن أن أتجاهل اجتهاد (رنا حافظ)، ولغتها الجميلة، رغم حذرها الدائم الذي أنتظر أن يذوب، ولا يمكن أن تغيب عن ذهني ابتسامة الوجه الملائكي (أسيل القداح)، ابنتي الصادقة، التي تنبض ملامحها بما تريد أن تقول.. فكيف أنسى حضنها الذي غمرتني به يوم المناقشة، مرددة وهي تكاد تبكي “أحبج وايد”، كيف أنسى وفاءها النادر، عبر كلمات الشكر التي دبّجت فيها رسالتها العلمية، حينها شعرت بالخجل من محبتها التي تفوق دوري في حياتها، فعجزت حتى عن التعبير عن شكري لها. وهكذا جاء وفاء ابني المميز (علي صالح الشاحوذ) أيضاً، هذا الشهم الذي كانت تصلني من زملائه، كلماته المؤثرة في وسائل التواصل الاجتماعي، في أصعب الأوقات والظروف، حين كان يُعبر عن محبته وامتنانه بالعلن لا بالسر فقط.

دفعتي الأحب.. بكل من تحمل من بناتي وأبنائي الطلبة، الذين أستمتع بقراءة رسائلهم، وبوحهم الجميل؛ (نواف سرحان) بقلمه الجريء وصمته الدائم.. (شيخة الحبيب) بابتسامتها الهادئة الجميلة، وصوتها (النائم)، و(فاطمة الزهراء عاشور)، التي أحب أن أناديها (فطوم)، صاحبة الإجابات الذكية، و(لانا خالد) التي أحب أن أستفزها وأتوق دائماً لسماع ضحكتها تجلجل بعيداً عن قلق الدراسة، وضغط الرسالة، وفضفضتها الجميلة صحبة ابنتيّ الباسمتين، المخلصتين لبعضهما (غدير دشتي) و(استقلال العنزي)، دفعتي الأحب التي غاب عنها ابني اللطيف (الحر عبدال)، الذي يسعد كل من يرى وجهه البشوش، وأنتظره في قاعاتي القادمة.

          صدفة جميلة 

أما على المستوى الدراسي، فكانوا طوال السنوات الأربع، يجارونني في الاستمتاع بفعل (التفكير) عبر السؤال والتأويل في محاضرات حرصوا على حضورها بصورة مميزة . ومن الصدف الجميلة أنها الدفعة الوحيدة التي درّستها لأربع سنوات، وجرّبت معها كل الأفكار الجديدة، والآليات المغايرة، وأبحرتُ بها في فضاء الأسماء التي لم تُذكر إطلاقاً في المناهج (البالية)، والتي تحتاج لإنعاش منذ سنوات طويلة.

حماسهم الكبير والتزامهم -اللافت للنظر- بمحاضراتي، شجعني كثيراً على العمل بعدة مسارات، فناقشت معهم عروضاً أقدمها لأول مرة، من الهند، وإيران، وجورجيا، وتركيا، واليابان .

 فطنتهم شجعتني على الإبحار في منجز (بيتر بروك)، واستعراض أحدث كتب النقد لـ (بيلاغيا غاليماري)، كما انطلقت معهم في تمارين (السايكودراما) لكتابة النص المسرحي، التي لم تُقدم إطلاقاً على جميع المستويات، والتي حاسبني عليها مجموعة من (المُدرسين) الذين يتعرفون عليها للمرة الأولى في حياتهم، رغم شهاداتهم العليا، وبعد تلك المحاسبة بات البعض  يستعيرها علناً في محاضراتهم، دون وعي بمعطياتها.

أما ما أنجزته معهم من نصوص، مستوحاة من قصص عالمية وعربية وكويتية، فتحتاج مقالاً خاصاً بالتأكيد.

وأخيراً.. وكما كتبت لكم مرة: تمنياتي لكم بالتوفيق، ودعواتي الدائمة لكم بحياة هانئة، وإنجاز تحلمون به وأتمناه لكم، وتذكروا أن الله دائماً مع القلوب المُخلصة، والأيادي المجتهدة، والنوايا الصادقة، التي لا يعرف قيمتها إلا الفرسان، فلا ترضوا بغير حياة الفرسان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مديــر التحريــر

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى