أ. د. فاطمة لطيف عبد الله★
إذا ما حاولنا تتبع الثوابت المنهجية الاساسية، التي صنفت النتاجات التشكيلية وفقاً للبنية الأنطولوجية التي تتأسس، أو تبنى عليها، ووفقاً لآليات ومستويات تلقيها، أدركنا بأن أهمية هذه النتاجات، تكمن في قوة ربطها بين الذات والواقع، بغية الإشهار عن ماهيته بعد أن تتجاوز تشكله الظاهري، فما التشكيل المعاصر إلا موضوعٌ قصديٌ بامتياز، يتشكل في أنظمة بنائية مادية، يتجه المتلقي إلى قراءتها، مدفوعاً بفعل قصدي معرفي أيضاً، بحثاً عن المعنى المثالي، الذي أودعه الفنان عن قصد في نتاجاته، وهو معنى يفضي إلى تعدد قراءتي، وفعل فهم متباين لدى المتلقين، إلا أنه، وبالمقابل ينشط في توحيد الصف القراءاتي، ويُفَعِّلُ المنظومة الإدراكية والتأويلية والإنتاجية لديهم، خصوصاً إذا أخذنا بعين الاعتبار، تلغيم العمل الفني على تعدد أساليبه، بتلك المظاهر التخطيطية المليئة بمواقع اللا تحديد، والتي ينشئها الفنان، ليجعل منها نقطة انطلاق قراءاتية جدلية على مستوى التلقي والتأويل، تلك العلاقة التي تستبعد كل عوالق العالم المادي، وتعالقاته السببية، ليتم التركيز بالمقابل على عالم التشكيل ذاته، وبكل مكنوناته ومحمولاته الدلالية.
أجمل ما يقدمه فن التشكيل المعاصر، هو تلك الكيفيات الجمالية المتباينة، من حيث القيمة والأثر، إنها كيفيات تمتاز بوحدة بنائية خاصة، تحمل المتلقي على العوم في فضاءات فنية متخيلة، تفتح له آفاقاً من حرية التأويل، والإضافة والحذف، والتكثيف والاختزال، لذلك تخطى فن التشكيل المعاصر، جمالية الشكل، أو التشكل نحو إعادة الإنتاج دلالياً، ليتماس تماساً مباشراً مع المنظومة النفسية للمتلقي، أياً كانت هويته الثقافية، فيملاْ مواقع اللاتحديد، بأدواته القراءتية التي يسندها إلى خزينه الخبري، مع إبقاء على ذلك الطابع الجمالي المستقل، الذي يتمتع به العمل الفني بالأساس، وعلى هذا النحو ارتبط فن التشكيل المعاصر بعملية إبداعه من جديد، وفقاً لماهيته هو في ذاته، واكتسب أهمية استثنائية، تأتت من ضرورة التعاطي معه، بوصفه مادة معرفية ترضي وتلبي حاجة المتلقي الذائقية والجمالية، إذ أمكن له أن يوجد إجابات عن فيض الاسئلة الوجودية، التي تزدحم بها مخيلة الذات المعاصرة، في ظل العولمة وثقافة الاستهلاك والمثاقفة والتطور التكنولوجي، لذلك سعى الفنان المعاصر إلى نسف الحواجز بين الفن والحياة، فأدخل تقنيات حديثة، تتسم بطابع التهجين، عبر ابتكار أساليب أدائية، وتراكيب فنية، تجتهد في تمثل حاجة المجتمع المعاصر، لذلك تجاوز فن التشكيل المعاصر مرحلة السرد الزمني، وتتبع الأحداث التي تبقي على ثبات الأيقنة سيمائياً، وقدم أنموذجاً بديلاً قائماً على حرية التداخل والاختلاف القراءاتي، وفقاً لرغبة المتلقي، وأدواته القراءاتية، للتنقيب في حفريات العمل الفني بحثاً عن المعنى الأميبي على الدوام، وقد مثل فن التشكيل الرقمي هذا، التوجه خير تمثيل.
عادة ما يقترن التطور التكنولوجي، بتطور مجالات الحياة كافة، ومنها مجال الإبداع الجمالي، وقد أنتج هذا الاقتران، فناً غاية في الدقة والجمال، ألا وهو فن التشكيل الرقمي، والذي أخذ بترسيم خطواته الكبيرة، نحو الإدهاش والإبهار في الخمسين عاماَ الأخيرة، مستثمراً الإمكانيات التكنولوجية للحاسوب، وبرمجياته المتعددة والمعقدة، ومع اضطراد التطور العلمي، وتمرحلات فن التشكيل، ودخوله عالم البدائل التقنية، لإنجاز خطاب جمالي ذي صيغة حوارية تواصلية، سعى الفنان إلى ايجاد وابتداع لغة تفاعلية، عبر وسائط جمالية لها القابلية على استحداث بنى جمالية، تنزاح عما هو متداول ومألوف، تدنو من عالم اللامعقول بكل تناقضاته، فكان أن وجد ضالته في محمولات البنية الافتراضية، كيما يحقق غايته هذه.
لقد كان فن التشكيل الرقمي نتاجاً مبهراً غرائبياً، للثورة الرقمية التي غزت كل مفاصل الحياة، فامتلكت فلسفة مستقلة لها، وهي فلسفة الأشكال الرقمية، وبذلك أصبحت الثورة الرقمية هي القوة التقنية والمعرفية الأكثر رواجاً، والأسرع انتشاراَ، في مجالات الحياة كافة ولاسيما الفن، فولدت سلطة نصية جديدة على المتلقي، لا بوصفها قراءات مختلفة لمعطيات الفكر الإنساني، بل بوصفها حاجة وضرورة تعبيرية ملحة، تنقل الأبعاد النفسية للواقع بأسلوب، يواكب التطور التكنولوجي والعلمي، ليظهر ما فيه من تناقضات، بأسلوب تقني مغاير ومميز، يوفر على الفنان الوقت والجهد والاختزال، وسرعة الانجاز في آن واحد.
يشير فن التشكيل الرقمي إلى العمليات الأدائية، التي تستند إلى الكومبيوتر، لإخراج النتاجات الجمالية بإحداث تحولات (دلالية / بنائية) في خصائصها الجمالية، إذ يمكن استثمار البرمجيات بأقصى حد ممكن، لإضافة بعض المؤثرات، أو حذف بعض الأجزاء، لخلق واقع افتراضي يدنو من الواقع المادي لدرجة ما، وعلى هذا النحو أصبح الكومبيوتر، هو الأداة الأكثر مساعدة للفنان، كي ينجز أعماله بعد إجراء اختبارات عدة عليها، لاختيار أفضلها وأجملها، من حيث الموضوع والتقنية، والتي أضحت الوسيلة الأكثر مرونة، في تحقيق أبعاد جمالية، لها من الإبهار ما ينافس أكثر الأعمال الفنية واقعية، وأكثرها إفراطاً في المحاكاة الحلمية أو المتخيلة فضلاً عن ذلك، فالتقنية التي يوفرها الكومبيوتر، منحت الفنان فرصة للتعبير عن قدراته الابتكارية، وتفريغ شحناته التعبيرية، في وسائط غير تقليدية، وهو ما شكل انتقالاً تطورياً في مجرى تاريخ فن برمته، وأكد بشكل جلي على حتمية العلاقة بين ميداني الفن والتكنولوجيا من جهة، وعلى جدلية العلاقة بين حداثة ومهارة الفكر الإنساني، ودقة وصعوبة التقنيات التكنولوجية من جهة أخرى، ليكون النتاج في النهاية فناً رائعاً من طراز خاص.
دخلت التقنية الرقمية، مرحلة التطبيق الفعلي في ميدان الفنون التشكيلية، مع المعرض الأول للفن الشعبي بالحاسوب عام (1965) بألمانيا، ومن ثم في ذات العام في معرض (هورد وايز) بنيويورك، وفي نهاية الستينيات دخلت التكنلوجيا الرقمية، ميدان الفنون التشكيلية من أوسع أبوابها، عندها أمكن للفنان أن ينتج ما يسمى (cyborg)، وهو مصطلح يدل على الفن الرقمي العضوي، والذي يحقق أكبر تفاعل أدائي ممكن، أن يحصل بين الفنان والآلة، والذي ينتج عنه تطور في الأداء الفني، والقدرة على إحداث تناغم بين القدرات الذاتية للفنان، والإمكانيات المادية للحاسوب، وهكذا بدا فن التشكيل الرقمي المعاصر، أكثر تنافساً في مساعيه مع صور الكاميرا الفوتوغرافية.
أما في السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم، فقد أصبحت التقنية الرقمية أكثر شمولية في تطبيقاتها، وأصبح في متناول يد الفنان، أجهزة أكثر طواعية لحاجاته، تمكنه من إجراء عملية تحويل شكلية، في بنية لوحته الفنية، لم يكن بإمكانه أن يقوم بها سابقاً.
تبقى ماهية وأهمية نتاجات التشكيل الرقمي المعاصرة متوقفة على الكيفية، التي ينتقي بها الفنان موضوعاته وآلية طرحه لها، إذ ثمة تقابلات اختيارية ثنائية، بين الخيارات المادية للحاسوب، والخيارات الإبداعية الخيالية والانتقائية للفنان، وهنا تكمن خاصية الاختلاف النوعي والأدائي، بين النتاجات التشكيلية الرقمية من فنان لآخر، ولدى الفنان ذاته من وقت لآخر، كما تتجلى مقولة الحرية في الابداع، أو الفنتازيا الخيالية بكامل صفائها، فاللعب بالتقنية وفقاً لمعطيات القوى الخيالية لدى الفنان، هي من تصنع أروع النتاجات حداثوية، من حيث التقنية والفكرة والاسلوب، وهو ما شكل عنصر دعم، وعاملاً مشجعاً للفنان، لأن يبدع العديد من النتاجات، ذات السمة الغرائبية، التي تخضع لمعالجات تقنية عالية على مستوى الأداء، أو التطبيق التقني، والتي تجعل من المتلقي، يحيا حياة هذه النتاجات ذاتها، بكل ما فيها من إدهاش وغرائبية وفرادة وفنتازيا، عبر استبدال بنى فنية بأخرى، أكثر ملاءمة، ودنواً من الفكرة أو الموضوع، فيعيد إنتاج الواقع بآلية تفوق، وتتغاير مع ما اعتاد عليه، وهو بذلك لا يمس من نقاوة التعبير شيئاَ، بل يشارك في تشييد أجواء جمالية، تنم عن حرية اللعب التقني والاستبدال الصوري، وصولاَ إلى تخوم المعنى، وعلى هذا النحو، يصبح الاستمتاع بخطاب التشكيل الرقمي ما هو إلا نتيجة لحوار الذات مع المنظومة التقنية والدلالية، للعمل ذاته، بوصفها نتاجاً للتقنية، ولجهود عقلية، ولأحاسيس وجدانية، خلقت فنتازيا جمالية، ذات أبعاد ومحمولات نفسية إنسانية دون تحديد هوية ما، وهو تحول مفاهيمي ودلالي، لأهمية التشكيل الرقمي المعاصر ووظيفته، والذي أفرز بدوره جدلاً بين اتجاهين نقديين، حيث يميل الاتجاه الأول إلى عد الفن تقاليد أدائية فنية، يجب التمسك بها، وأن نضع تفرقة بين خصوصية العمل الفني والتقنية، أما الثاني فينادي بضرورة التقدم والقفز على الثوابت، وايجاد حلول تواصلية تداولية فنية، بديلة عن تلك التقليدية، إذ لا فائدة تذكر من اجترار التقاليد ذاتها، والمناداة بانفتاح دلالي دون تطبيقه في الفن فعلياً، فالمعنى لم يعد رهيناً لثنائية العمل الفني/ المتلقي، بل دخلت التقنية كعنصر فاعلٍ في التغير والتحول صوب عوالم افتراضية، تمتعنا بحياة جمالية، غير تلك التي نحيا فيها، فنشبع رغباتنا عبر أجواء غرائبية ، دون أن نشعر بها أساساً، ومن هذا المنطلق أمكن للتشكيل الرقمي المعاصر، أن يبرز فرادة الإبداع البشري، على مستويي الفن والتكنولوجيا، فأمتلك فرادة وتميزاً، حتى وإن تم إعادة إنتاجه مرة أخرى، إنه كالموسيقى، نتوقها، وكأننا نسمعها لأول مرة في كل مرة، لذلك سعى فن التشكيل الرقمي، على تنوع توجهاته، وتقنياته إلى خلق مناخ افتراضي، يعتمد على أشكال استعارية، تصلح لتكون مادة اتصالية ذات معان تبادلية تطورية، بين طرفي الاتصال (العمل الفني / المتلقي) إلى ما لا نهاية من الإحالات، وذلك لانتفاء قصد الوقوف عند معنى ما، سواء كان واقعياً أم متخيلاً، ذاتياً أم موضوعياً، وهو ما أحدث بدوره هزة قراءاتية في تلقي وتأويل هذا النمط من الفنون، فهو قد تجاوز حدود الإرسال التقليدية، أو التقابلات القراءاتية المعتادة، التي تستدعي من المتلقي فيضاً من التأمل والاستقراء والاحالات المعنوية والدلالية، ليصبح نتاجاً لتفاعلية ثقافية علمية، ذات علاقات تبادلية مع البنية الذهنية للفنان ذاته، بمعنى آخر أن التشكيل الرقمي، تجاوز نمطية التشكل والبناء، وتحول إلى منظومة معرفية، قابلة للتغيير والتحول بشكل مستمر، ومع كل قراءة.
لم يفترق فن التشكيل الرقمي في هدفه عما سعت إلى تحقيقه فنون ما بعد الحداثة، إلا في أمر واحد، ألا وهو الالتفات إلى تغريب الذات ومحاولة التخفيف من وطأته، لذا بدا غزيراً بمضامين وأبعاداً نفسية مثلت قاسماً وجودياً مشتركاً، بين أنماط الفن عامة، كما أراد أن يعلن عن تغلغل الفكر البراجماتي، مع المعطى التكنولوجي في كل مفاصل الحياة ودقائقها، فيترجمها ببراعة عبر تنظيم لغة حوارية بصرية، مؤسسة وفق بنائية جمالية، تتواشج وتتلاءم مع المعطيات التكنولوجية المتاحة، والتي تثير فعلاً تغريبياً تأويلياً لدى المتلقي، على مستويي القيمة الفنية والتقنية الرقمية، مع ملاحظة أن هذا الفعل التغريبي، يحمل من مرونة القراءة، ما يسمح للمتلقي بتبادل الدلالات المعنوية بين عنصر وآخر، وتركيب بنائي وآخر، دون إقصاء المرجع الذي استثمره الفنان، ليحيل مادية العمل الفني، إلى كائن أثيري يحلق في عوالم فنتازية، تكشف عن بعد ذاتي خالص، في رؤية ومعالجة العمل الفني ذاته، ذلك أن المتلقي على وعي جيد بالميز، التي يتفرد بها هذا الفن عما سواه، وبالآلية التي يتم بها صنع الخطابات الرقمية التي تفصح عن إرهاصات المجتمع وقضاياه وتعكس تطلعاته، وبالمقابل تتوقف شدة الاستجابة الجمالية على مدى إمكانية الفنان في استثمار تقنيات الحاسوب، لتمثيل أفكاره الخيالية، وتحويلها إلى عوالم جمالية مبتكرة، يمكن للمتلقي أن يتفاعل معها، كونها جزءاً من واقعه النفسي، متمثلاً بإسقاط إمدادات المخيلة الذاتية للفنان، وتوظيف قوة التعبير الفنية وطاقتها الدلالية، وهو ما أسهم بخلق حوارات جمالية نديه، أخضعت للبراعة التقنية دون إقصاء لنظرة المرجع الواقعي بشكل كلي، وهو ما مكن المنظومة الدلالية من الانفلات والانفكاك عن الارتباط الحتمي بين الدال والمدلول، والاشتغال على سلسلة دوال بمداليل متوالية، تفضي إلى انفتاح العوالم الجمالية، وتعدد وسائط ووسائل التعبير عنها، والتأكيد على مرجع انبثاقها المادي أو البراجماتي النزعة، وبذلك لم يعد هم الفنان، إنشاء فن جديد بوسائط تقنية، بل إنتاج عوالم فنية، تتعامل مع الواقع بروح ثورية، كي تتأقلم فيه، وتتكيف معه بعد أن أصبحت فلسفة اللاجدوى والعدم، شعاراً للواقع المعاصر، وعلى هذا النحو عملت التكنولوجيا الرقمية والعولمة، على تبديل وتغيير لغتنا الحوارية، وبناءاتنا النفسية والاجتماعية، واستبدالها بأخرى، يمكن وصفها أو عدها تجلياً لفكر ما بعد الحداثة، وتطبيقاً فعلياً له، دون أن تستثني النزعة التعبيرية والتجربة الجمالية لكل من الفنان والمتلقي، والتي أمكن الإعلاء منها، عبر الوسائط التكنولوجية للحاسوب من جهة، ونزعة التمرد على السياق الفكري من قبل الفنان من جهة أخرى، لذلك أمكن للتقنية الرقمية، أن تنجح في إزاحة مفهوم العمل الفني من وصفه ووظيفته التقليدية، وتحويله إلى بنية جمالية تشاركية فاعلة، ضمن البيئة المجتمعية، التي انبثقت منها والموجهة إليها، وعلى نحو لم يعد بالإمكان التغاضي عنه إطلاقاَ، أو تحجيم دوره بأي شكل من الأشكال، وعلى الرغم من أن الوسائط التكنولوجية، دخلت في هذا الفن كوسيلة أساس، إلا أنها كانت قادرة على إبراز الطاقة الانفعالية والإيحاءات التعبيرية، كما أنها وثقت الارتباط بين عناصر العمل الفني التشكيلي، والأسس التصميمية ورسالته الانسانية، فخلقت وقدمت نتاجات عجائبية مثيرة للدهشة والاستغراب، نظراً لمنافستها للتقنية التقليدية في خلق الأجواء الملحمية، وبث الملامح الغرائبية في أجواء العمل برمته، تبعاً لذلك لم يعد فن التشكيل الرقمي فناً بصريا َمحضاً، بل أصبح فناً وحدثاً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، لا يمكن بأي شكل من الأشكال، غض النظر عن فاعليته، التي أحدثت نقلة نوعية في ذائقة المتلقي الجمالية، وشكلت دافعاً ابتكارياً، جعلت من الفنان يعاود البحث في إمكانياته الذاتية، ليطور من خبرة التكنولوجيا، التي تمكنه من إعادة مزج التشكيل الصوري بالصورة المتخيلة، وعلى نحو يشبع معه رغبته في إعادة التشكيل والبناء الفني المدفوع برغبة الاستحداث التكنولوجي والتقني، في آلية بناء العمل الفني المعاصر، وهو ما أتاح للفنان تعددية في وسائل التعبير، واختيار أفضلها وأكثرها انزياحاً واثارة، عن السابق من حيث الشكل والمضمون، ليخلق قراءات (حسية، ذهنية) لدى متلقيه، الذي لا يجد أمامه سبيلاَ لبناء المعنى، إلا عبر ردم الثغرات النصية الناتجة عن مزج الواقعي بالمتخيل، والمادي، والمثالي، وعليه أسس فن التشكيل الرقمي، منهجاً تقنياً وأسلوبياً مهجناً ملفتاً للنظر، يمزج بين الفنون والعلوم التطبيقية والإنثروبولوجيا والسيسيولوجيا والنظريات النفسية، وهو ما سمح له بان يقدم نفسه للمتلقين والنقاد، كطرح جديد لهوية فنية، تتضح فيها معالم المثاقفة بكامل أوجهها.
أدى هذا التحول من الفن التداولي، إلى الفن التشكيلي الرقمي، إلى إحداث نقلة نوعية في البنية الفكرية المجتمعية، نظراً لفرادته على مستويي الشكل والمضمون، نتيجة لاتساع مساحة التعبير الدلالي ووسائله، فبدا أداة للتواصل، نسف من خلال فرادته حواجز الإبهام، والغموض، والتردد في تقبل الجديد الفني، وكل ما من شأنه، أن يوسع الفجوة البرجماتية، بين البنية الفكرية، والحاجة الفنية التعبيرية والاستهلاكية في آن واحد.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
★ باحثة واكاديمية بـ كلية الفنون الجميلة جامعة بابل ــ العــراق