

آية الكحلاوي★
يذكر التاريخ أسماء لشخصيات متفردة، وتنسج حولهم المخيلة الشعبية سيراً تمجدهم، وتحتفي بهم، وتتخذهم أبطالاً، يواجهون بهم الظروف، التي يعيشونها، ويتغلبون بهم على الظلم، ومن بين هذه السير سيرة علي الزيبق، التي تعتبر أبرز ما قدمت الدراما المصرية من سير شعبية، وخصوصاً تلك المعالجة، التي قدمها يسري الجندي في مسلسل علي الزيبق١٩٨٧ من بطولة فاروق الفيشاوي.

ظهرت سيرة علي الزيبق كسيرة شعبية، يتناقلها الحكواتية في العصر العثماني، وجمعت، وكتبت لأول مرة في القرن التاسع عشر، غير أن أبطال السيرة الحقيقيين، يمتد بهم التاريخ لأبعد من الفترة العثمانية بكثير، بل إننا نجد أن أبطالها، ينتمون لفترات مختلفة من التاريخ، بحيث لا يلتقون، فمثلاً علي الزيبق نفسه، ذُكِرَ تاريخياً أنه عاش في العصر العباسي، خصوصاً في فترة الخليفة القائم بأمر الله، حيث كان أحد العَيَّارين الذين واجهوا السطلة آنذاك، والعَيَّارون هم عصابات مسلحة، أو بلطجية بالمعنى الشعبي، والمقدم دليلة عاشت قبل علي الزيبق، بحوالي مائتي عام في فترة حكم الخليفة المعتضد، ويذكرها التاريخ على أنها محتالة فيقولون “دليلة المحتالة”، ولكنها مخيلة الحكواتي، التي جمعت الأبطال بطريقة تصنع سيرة شعبية، وأبطالاً متصارعين، وحدوته تروى، نسجها الناس في العصر العثماني، ليواجهوا بعلي الزيبق ظلم الوالي، ومقدمي الدرك.
إن مقام الحديث هنا عن تتر مسلسل علي الزيبق، الذي كتبه العبقري عبد الرحمن الأبنودي، ولحنه إبراهيم رجب، ليصبح أكثر التترات العربية ارتباطاً بالمضمون، وتعبيراً عن العمل، وايحاءً بالجو الدرامي، فكيف عبَّر الأبنودي بالكلمات، عن علي الزيبق من خلال التتر؟ وكيف قدَّمه إبراهيم رجب موسيقياً؟!

لقد جعل الأبنودي كلمات تتره حدوتة مختصرة، عما يدور في المسلسل، وهنا تكمن عبقرية الأبنودي، الذي استطاع في عدة أسطر غنائية، أن يقدم مضمون وجوهر سيرة شعبية، تمتد عبر أربع عشرة حلقة درامية، وعبر مئات الصفحات المكتوبة.
إن اختيار كورال مشترك نسائي ورجالي، لتقديم الأغنية يقرب التتر من الحكاية الشعبية المروية داخل المسلسل، والتي تعبِّر عن الشعب كمجموع، وليس الاعتماد على مغنٍ مفرد، والذي يتضادّ مع السيرة الشعبية المقدمة، فظهر الأداء الجماعي المشترك للتتر كجلسة شعبية، يتناقل فيها الناس الأخبار عن حال السلطان وقصره، وحال الوالي وجبروته وقوته، ويعقدون المقارنات بين حالهم وهذه الحال، متحسرين قبل أن يهل عليهم علي الزيبق، ليقيم الوزن، وإن كان بطريقة غير مشروعة.
وقد قسم الأبنودي سيرته الخاصة في أربعة مقاطع، عبَّر فيها عن أطراف المعادلة، التي تشبه المعادلات الكيميائية غير الموزونة، والتي أقام وزنها في المقطع الأخير، ومعادلة الأبنودي تحتوي على ثلاثة عناصر أساسية هي على الترتيب الهرمي الذي ذكره الأبنودي: السلطان، والوالي، ومن ثم العنصر الأضعف في المعادلة “الشعب”، ليعبر في المقاطع الثلاث الأولى عن أطراف معادلته، وعن مدى التفاوت بين الطرفين الأولين (السلطان والوالي) والطرف الثالث (الشعب)، ثم يأتي بانفراجة في المقطع الرابع، ليعبر عن العنصر المحوري في المسلسل، والذي يعتبر بالعنصر المحفز، الذي غيَّر في نتائج المعادلة من صالح الوالي، والسلطان لصالح الشعب، فعبَّر فيه عن علي الزيبق، الذي يعيد الحقوق لأصحابها.

فنجد الأبنودي يقول في المقطع الأول، الذي نستطيع تجزئته إلى ثلاثة أجزاء من حيث الكورال المؤدي، حيث في الجزء الأول يؤديه كورال جماعي مشترك، يعبرون فيه عن أبهة قصر السلطان:
قصر السلطان عالي البنيان
حَجَرة بفضة وحجرة بمرجان
وأراضي بتاع ألفين فدان
اسمها بستان
وفيه يتحاكى الكورال (الشعب) عن قصر السلطان وأبهته، فهو مبني بالأحجار الكريمة والفضة، ومساحته الواسعة وبستانه، ثم ينقسم من تلك اللحظة الوصف الجمعي، لحوار بين المجموعة النسائية، والمجموعة الرجالية، يستمرون في وصف قصر السلطان، فتتسلم النساء زمام المبادرة ويغنين:
مليان أجراس.. مليان حراس
بقلوب ملهاش شبابيك وبيبان
فتتحدث النسوة عن الخدم والحشم في القصر، ولذلك هو مليء بالأجراس، كما أنه مليء بالحراس غليظي القلوب، لدرجة أنه ليس به أي نوافذ، ينظرون منها بعين الرحمة للشعب، فينكلون بأي أحد يقترب من هذا القصر، ويرد الكورال الرجالي على هذا الحوار بمزيد من الوصف:
جدران تولد في الليل جدران
وده كله واقف على عمدان
ثم يجتمعون حوارياً في الشطر الاخير من المقطع الأول، فيندبون في حسرة:
أومال ازاي يبقى السلطان!
وتأتي جملة “جدران تولد في الليل جدران” تأكيداً على جملة مليان حراس ـــ التي تغنيها المجموعة النسائية ـــ دليلاً على أن لا أحد يستطيع الوصول لهذا السلطان، وعلى المسافة بينه وبين شعبه، وقد وكل الوالي نيابة عنه، وهذا الوالي بالطبع، يسرق قوت الناس البسطاء، ويملأ قصره الخاص، وتكمن المفارقة في قول الأبنودي “وده كله واقف على عمدان ” في أن الأبنودي لا يقصد أن السلطان له حق قوي واقف على أساس صلب ومبادئ، ولكنه يقصد المعنى الظاهر فقط، أن قصر السلطان قوي، على عكس بيوت الناس الطينية القديمة.
وتساؤل الناس في حسرة في الشطر الاخير من المقطع الأول، يستنكر الفوارق التي يضعها أي سلطان بينه وبين الرعية، ليحفظ هيبته كسلطان، ولكن السلطان الحقيقي بعدله، وحلمه، وتواضعه.

المقطع الثاني من التتر، يتناول حياة الوالي ليست الباذخة فقط، ولكن أيضاً طريقته في التعامل مع الشعب، وجمع الضرائب الباهظة، التي تصب في بطنه وقصره، وفيه ينقسم المقطع أيضاً لثلاثة أجزاء، يعلو فيها الصوت الرجالي، لأن علاقة الوالي غالباً تكون بالرجال من الشعب أكثر، بسبب أنهم المتضررون من الوالي، والضرائب المفروضة، وهم المتصدرون في هذه العلاقة عن النساء، فيبدأ الجزء الأول من المقطع الثاني، بالغناء المشترك لوصف حال الوالي في ضعف، وقلة حيلة، يعبر عنها الايقاع الموسيقي مع الصوت، فتقول المجموعة:
قصر الوالي طبعاً عالي
مليان حتى لو الكون خالي
وهنا إشارة إلى عدم قبول الأعذار عند جمع الجباية، فحتى وإن فرغ الناس والكون من المال، فإن قصر الوالي يجب أن يكون ممتلئاً، ثم ينفرد الرجال بأداء الجزء الثاني من المقطع، في غضب وحِدَّة، كونهم من يقع عليهم الظلم المباشر، فيقولون:
بذهب وفاروز وكنوز في كنوز
وإن شبعت بطنه اليد تعوز
وإن عازت يده السرقة تجوز
نلحظ هنا براعة الأبنودي في تخفيف الكلمات، لتناسب الوزن، فنجده خفف الياء المكسورة الثقيلة في فيروز إلى ألف مفتوحة في فاروز، لتناسب الوزن، ويستقيم الايقاع، وهنا يتذمر الرجال من الظلم الواقع عليهم في جمع الإتاوة، فالوالي الذي وكله السلطان لخدمة الناس، يستغل عزلة السلطان في قصره العالي، ويستبد، ويستوحش في جمع الضرائب من الناس، ويملأ قصره بالذهب والخير، وإن امتلأت بطنه لا يقنع، ويطلب المزيد من أقوات الشعب، فيستبد، ويبطش بمن لا يدفع، ولهذا فإن أحدهم لو سرق، ليدفع الأذى عن نفسه بدفع الجزية، فتجوز له السرقة المحرمة في كل كتاب على الغني والفقير، دلالة على شدة بطش الوالي في جمع هذه الضرائب، ثم في آخر جزء من المقطع الثاني، يجتمع النساء مع الرجال مرة أخرى:
يضحك نبكي إحنا طوالي
أومال ازاي يبقى الوالي
إن أداء المجموعة في هذين الشطرين كالرثاء، فهم يرثون حالهم، الذي يكون فيه ضحك الوالي من بكائهم، وبكاء أبنائهم، فالظلم المباشر الواقع على الرجال، في الجزء السابق يطول نساءهم، وأطفالهم الذين يبكون من الجوع، والظلم، ونفس الاستنكار في السؤال في نهاية المقطع الأول، يتكرر في المقطع الثاني عن الوالي هذه المرة، وكأن صورة الوالي المثالية، والمعهودة أن يكون ظالماً.

ينتقل الأبنودي في المقطع الثالث، من التتر إلى حال الطرف الضعيف المقهور، أي الناس والعامة، ويظهر كأنه موال مقسم بين المجموعة النسائية والرجالية، فكل منهم يقول شطرة، ويرددها الآخر، ولكن يغلب عليه الصوت النسائي الضعيف، كحال وموقف الشعب، وكذلك ينتقل إبراهيم رجب من الإيقاع القوي في المقطع السابق، إلى الموسيقى الحزينة، والمنكسرة، التي تشبه حال الناس:
وبيوت الناس.. لا حيطان ولا ساس
ولا ليها لون.. ولا ليها مقاس
وحيطانها طين.. أصواتها أنين
وغناها حزين…
يتم الأبنودي هنا أوجه المقارنة، وينهيها، فبيوت الناس جدرانها طين، في مواجهة قصر السلطان، المبني بحجرة فضة، وحجرة مرجان، وقصر الوالي العالي، وقد استخدم الأبنودي أيضاً التخفيف الصرفي في كلمة ساس، وهي في الأصل أساس، وقد حذف الهمزة للتخفيف، ويكون بذلك بيوت الناس المبنية بدون أساس في مقابل قصر السلطان “الواقف على عمدان”، رغم أن الناس، هم الأساس في الوجود الاجتماعي.
إن هذا الحزن، والانكسار، في المقطع الثالث السابق، يتبدل بأمل وفرحة في الأداء الجماعي للمجموعة مع الموسيقى، بدخول البطل المحوري في المقطع الرابع والأخير، بعد اكتمال الصورة في المقاطع الثلاثة الأولى بين حال السلطان، والوالي، والشعب، البطل الذي سيبدل الأدوار، ويُعيد الحقوق للناس، فتنخرط المجموعة في أداء مشترك فرحين ومهللين، بظهور علي الزيبق، فيقولون:
وفي وسط الضلمة تهل اْنت
ولا نعرف من فين أو أمته
ترفع بنيان الغلبان
وتطاتي بنيان الوالي
وترقص قصر السلطان
إن علي الزيبق بمثابة النور، الذي ظهر لهم من قلب العتمة، إن قول الأبنودي (ولا نعرف من فين أو أمته) يتماشى مع موقف الزيبق التاريخي، الذي لا يتحدد له مكان، أهو مصر، أم بغداد، أم أين؟ ولا زمان أهو العصر العباسي، أم العثماني، أم المملوكي؟! إنه البطل الذي يخلص المظلوم في كل زمان ومكان، فقد شرع علي الزيبق في وزن المعادلة، بل هدمها وإقامها من جديد، فقام برفع بنيان الإنسان البسيط الذي كان ضعيفاً، وليس له جدران، ولا أساس، كما ورد في المقطع الثالث، ويطاتي أي: (ويُخْضِع)علي الزيبق كذلك قصر الوالي العالي، كما وصف في المقطع الثاني، ويرقص قصر السلطان، الذي كان راسخاً، وثابتاً، وواقفاً كالطود على أعمدة، كما وصف في المقطع الأول، وبهذا تتغير نتائج المعادلة بعد دخول علي الزيبق، ليصبح الضعيف قوياً، بينما القوي المستبد في مرمى الخطر.

إن براعة الأبنودي في نسج أغنية علي الزيبق، يضاهيها براعة إبراهيم رجب في وضع الألحان المناسبة لها، فجعلها تسير في خط يتناسب تماماً مع الكلمات، كما أن الأبنودي استخدم الكلمات، التي تدل على الحكاية الشعبية، وتعبر عنها، وعن زمنها، وكذلك فعل إبراهيم رجب، الذي جعل موسيقاه معزوفة شعبية جميلة، تأتي من زمن الحكايات الجميل، فاعتمد بشكل أساسي على الربابة، وغيرها من الأدوات الموسيقية الفلكلورية، التي صاحبت الحكواتي في حكاويه، كما جاء تنفيذ التتر كصورة، مؤكداً على هذه الحالة، فكان عبارة عن جدارية طويلة من الرسوم الفلكلورية الشعبية العجائبية، والتصاوير اللامعقولة، التي تناسب حكايات السير الشعبية، والملاحم العربية الجميلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
★ ناقدة ــ مصــر