رأي

فايزة هنداوي: الفن تحت وصاية الرقابة المجتمعية

فايزة هنداوي★

سنوات طويلة مرت، ونحن نطالب بإلغاء جهاز الرقابة على المصنفات الفنية، واستبداله بالتصنيف العمري، حتى تتوفر للمبدعين حرية التعبير عن أفكارهم، بالطريقة التي تروق لهم، دون الوقوع تحت سيف الرقابة.

كنا نحلم بأن إلغاء الرقابة، سيمنح الفنان حرية الإبداع، وسيطلق عنان أفكاره، وفنه دون قيود، لكننا اكتشفنا أن هناك رقابة أخطر، وهي الرقابة المجتمعية، التي استشرست في السنوات الاخيرة، فأصبحت سيفاً آخر أكثر حدة وخطورة، وأصبحت كل الأعمال فريسة لهذه الرقابة التي تحركها تيارات رجعية منظمة، أو غير منظمة، حيث حولت نسبة من الشعب المصري إلى يميني متطرف، لأسباب كثيرة لا مجال للتبحر فيها الآن، ولكن على رأسها بالطبع الرجعية، التي بدأت مع السبعينيات على استحياء، مع توجه الرئيس محمد أنور السادات، الذي أطلق على نفسه لقب “الرئيس المؤمن”، وأفسح المجال للتيارات الدينية المتشددة لمحاربة اليسار المصري، ثم توغلت هذه الرجعية داخل المجتمع، بسبب بعض الشيوخ المرتزقة، والإعلام المضلل.

كذلك هناك سبب آخر لا يقل أهمية عن الرجعية والتشدد، وهو رفض تصديق الحقائق، والِازدواحية، وادعاء المثالية، واتهام الفن بنشر السلبيات، وعدم الِاعتراف بأن الفن يعكس الواقع ولا يصنعه.

مسلسل أزمة منتصف العمر

ومؤخراً تعرضت كثير من الأعمال لهذه الرقابة المجتمعية، وتعرض صناعها لأسوأ أنواع الاتهامات كنشر الفسق والفجور، وكان آخر هذه الأعمال مسلسل “أزمة منتصف العمر” التي اضطر أصحابها خوفاً من المجتمع أن تكون البطلة زوجة الأب، وليست الأم، حتى لا تكون علاقتها مع زوج ابنتها “زنا محارم”، رغم أن زنا المحارم موجود بالفعل في كل المجتمعات في العالم بنسبة ولو ضئيلة جداً، ولكن يبقى من حق الفنان أن يختار ما يعبر عنه.

ورغم الهروب من موضوع زنا المحارم، لم يسلم صناع المسلسل من الهجوم بسبب وجود علاقة محرمة، وكأن المجتمع تحول إلى ملائكة بأجنحة لا يخطئون، وكأن الفن مهمته تسليط الضوء على الجوانب الإيجابية فقط، حتى يتسنى للجميع دفن رؤوسهم في الرمال.

فيلم ريش

حدث ذلك أيضاً مع فيلم “ريش”، الذي مثل مصر في مهرجان كان، وكان الفيلم الممثل لمصر للترشح على جوائز أوسكار أحسن فيلم دولي 2021، حيث تم الهجوم عليه أيضاً، ولم يعرض حتى الآن في دور العرض السينمائي المصرية، لأنه يتعرض لأسرة فقيرة في إحدى قرى الصعيد، وبدلاً من المطالبة بإنهاء الفقر، لأنه يمثل إساءة حقيقية للمواطنين وللمجتمع، أصبح العيب في تصوير هذا الفقر، وليس في وجوده.

أما منى زكي فقد كان لها نصيب الأسد من الرقابة المجتمعية، كانت البداية مع فيلم “اِحكي يا شهرزاد”، وكانت مسؤولة وقتها بشكل أو بآخر، عن هذا الهجوم، لأنها كانت من الجيل الذي دعا لما سمي بـ “السينما النظيفة”، وقدم موجة من الأفلام السطحية، غير المعبرة عن المجتمع.

 ولكن منى زكي كانت قد وعت الدرس، وخرجت بجرأة لتقول “أنا وقتها كنت صغيرة، وصدقت أن السينما يجب أن تكون كذلك، إلى أن نضجت وفهمت ضرورة أن تعبر السينما عن كل القضايا، وأن تتمتع بالحرية”

فيلم أصحاب وا أعز

وبعد سنوات طويلة، تعرضت منى زكي لهجوم أشرس وأعنف، بسبب مشهد توحي فيه بأنها خلعت ملابسها الداخلية في فيلم “أصحاب ولا أعز” دون أن نرى أي جزء من جسدها، ومع ذلك تعامل معها بعض الجمهور باعتبارها خائنة كما ظهرت في الفيلم، لدرجة مطالبة أحمد حلمي بأن يطلقها، واتهموه باتهامات شنيعة عندما لم يفعل ذلك.

وواجه جميع المشاركين في الفيلم حملة تشويه شديدة، لأن الفيلم تعرض لقضية شائكة وهي “المثلية”، وتغافل المهاجمون عن أن هناك نسبة ولو ضئيلة في المجتمع العربي مثليو الجنس، لكنهم اعتبروا أن الفيلم يروج لانتشار المثلية، الأمر الذي أجبر إياد نصار على الاعتذار عن الفيلم بعد فترة طويلة من عرضه، بعد اتهامه بالإساءة للمصريين خاصة أنه أردني.

ومرة أخرى تتعرض منى زكي هذه الأيام للهجوم، بعد نشر بوستر مسلسل “تحت الوصاية”، بسبب ظهورها محجبة بدون ماكياج، وواضح الإرهاق علي وجهها، واعتبرت الرقابة المجتمعية أن هذا فيه إساءة للمحجبات، ودعوات لخلع الحجاب، رغم أن هناك نسبة كبيرة من المحجبات في مصر، يشبهن منى زكي في بوستر المسلسل، وليس علينا سوى النزول للشوارع وقت خروج الموظفين والموظفات من العمل، لنجد نسبة كبيرة من المحجبات، اللائي لا يفكرن في الملابس أو الماكياج، ولا يشغلهن سوى قوت أولادهن، ومصاريف تعليمهم، وعلاجهم، خاصة في ظل الحالة الِاقتصادية الصعبة التي تعيشها مصر والعالم، لكنها الرقابة المجتمعية التي أصبحت أخطر على الفن من رقابة السلطة، وأصبح الفن بالفعل “تحت الوصاية”، وهو الِاسم الذي اختاره صناع المسلسل بالصدفة، لكنه جاء معبراً عن حال الفن في مصر.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

★ ناقدة سينمائية ــ مصــر

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى