د. سعداء الدعاس: سنان أنطون.. الرجل الذي لم يكن حزيناً على الإطلاق!
د. سعداء الدعاس★
بهيئته الغربية، ولهجته العراقية، اِعتلى الروائي (سنان أنطون) منصة الفن المعاصر (كاب)، لنقضي رفقته أمسية مميزة محفوفة بوعي دفين، ومشغولة بِهَمٍّ عربي أصيل.
كانت كلماته مشبعة بالحكمة دون فذلكة، ومدثرة بالألم دون بكائيات، شغل فضاء القاعة بأفكار عميقة تسللت إلى الروح بانسيابية الماء، وهدوء الشعراء، فأسر الحضور دون تكلف أو عناء، محلقاً ببساطة مفرداته في عدة مسارات، ومراوغاً بذكائه وخبراته مصيدة التساؤلات.
قبل بدء الندوة بثوانٍ، ولج العراقي/الأميركي ذو الشعر الأشقر القاعة، يتقدمه الروائي إبراهيم فرغلي، دون بهرجة أو ضوضاء، كفرد من العائلة، وصل متأخراً بدقائق للتجمع الأسبوعي المعتاد، متأبطاً حقيبة الأسرار، معتمراً بيريه المحاربين، ومتسلحاً باسم صنعه منجز حقيقي، وأضاءته الجوائز.
وقبل أن يصعد إلى المنصة، التقطتهُ بعينيّ يُعبر بكلمات موجزة لفرغلي، عن دهشته بكلاسيكية كراسي المنصة.
تلك اللقطة العابرة، أوحت لي منذ البدء بأنني أمام رجل تحرر للتو من عبء المنصات، وكأنه أراد (بريك) ليجلس بين الحضور كواحد منهم، ويتوسطهم كحكّاء في (مسرح الحَلقة). وضعتني كلماته الجانبية عن كراسي المنصة، أمام توقعات تتعلق بندوته السابقة التي لم أحضرها؛ ربما كانت مُثقلة بالأفكار، ومكتظة بالأسئلة والمناقشات، الأمر الذي جعله -أقول ربما- شعر بالألفة ما إن حضر لقاعة أصغر حجماً بجمهور أقل عدداً، عله أراد أن يتماهى واللعبة البريختية الأحب إلى قلب معظم مسرحيي العالم، ويتشارك مع الجمهور عرضه الأخير في الكويت بأريحية، بعيداً عن رسمية اللقاءات، عندها تفاءلت، وأيقنت أننا مقبلون على ندوة محفوفة بالود، وشخصية لم تُسوّرها الجوائز بدرع حديدي بعد.
رغم أنني أعرف سنان منذ زمن طويل، حيث إن أول تواصل بيننا عبر مراسلات إلكترونية كان في 2012 تحديداً، إلا أننا لم نلتق قط، فكلما كان هو في الكويت، كنت أنا خارجها، وحين قرأتُ له أول مرة روايته “وحدها شجرة الرمان”، اِنتابتني مشاعر حزينة، وتمنيتُ أن يجد من يربت على كتفه حيث يعيش، تكرر الأمر في “يا مريم”، حيث وصلني عمق حزنه بصورة مباشرة، ومؤلمة أيضاً، ورغم إيماني الكامل بأن المُنجز الإبداعي لا يمثل كاتبه بالضرورة، إلا أن جميع صور (أنطون) التي يقاطع فيها الابتسامة، جعلتني أعتقد أن هذا الرجل حزين ووحيد!.
في الندوة، فوجئنا بشخصية مغايرة تماماً، بابتسامة مشعة طوال الوقت، وقفشات لطيفة، تنتمي لـ “كوميديا الموقف” غير المفتعلة، خاصة عند حديثه عن اللهجة المحكية في رواياته، وعدم رغبته باستخدام الحوارات الفصيحة التي تُحيله إلى المسلسلات التاريخية، لينتقل بعدها للحديث عن علاقة السياسية بالرواية، وتشكيلها لتفاصيل حياتنا، مؤكداً استحالة انفصال أحدهما عن الآخر في ظل عالم تتحكم السلطة في أدق مكوناته بدءاً بالأسرة، بجانب تلك الآراء التي أتفق معها جملة وتفصيلاً، اِستحوذت (بغداد) على مجمل الحوار، بما يتناسب وقيمتها كمدينة عظيمة، شكلت ولاتزال جزءاً أصيلاً من التاريخ الإنساني العظيم.
مع كل إجابة كان أنطون يؤكد لنا – بشكل أو بآخر- أننا أمام أستاذ جامعي (شاطر)، بل أكاد أجزم أن محاضراته تشكل متعة لطلابه، أقول (أجزم) وأنا أرى أمامي متحدث يعي ما يقول، والأهم من ذلك، يعي كيف يقول! متخلصاً من قيد الأوراق، متشرباً الأسئلة بوعي الأستاذ، ليصوغ الإجابات بما يتناسب ووعي المتلقي بتنوع فئاته، محافظاً على إيقاع الندوة من الترهل.
بساطته الآسرة ألجمتنا كحضور، فلم يرغب أي مناّ بالحديث.. حتى لا يصمت، ولكن نظرة (فرغلي) لنا جعلتنا نتشجع لنثبت لأنطون أننا “مهتمون”، وبالفعل توالت الأسئلة من فهد الهندال، وباسمة العنزي،ورُبى أبو خليفة، وخلود المطيري.
عند سؤالي عن مرجعيته التي استند إليها في المشاهد المتعلقة بـ (المغيسل) في روايته “وحدها شجرة الرمان”، تحدث بأريحية عن المصدر الذي استقى منه الفكرة، وما يتعلق بها من معلومات وممارسات داخل تلك الغرف الجرداء، التي لا تحتضن إلا الموتى، بل إنه أدرك بنباهته عدم رغبتي بالإشارة إلى أمثلة محددة وتفاصيل حادة عبر السؤال، فاختصر علي الطريق، وتحدث عن علاقته – كابن لعائلة مسيحية – بالثقافة الإسلامية، والشيعية على وجه الخصوص فيما يتعلق بهذا الشأن.
ورغم سعادتي بإجابته، إلا أنها ظلت مُعلقة بالنسبة لي، حيث لاحظت اكتفاءه بالحديث عن المرجعية المادية، الملموسة فقط. وددتُ عندها لو استطرد وأسأله عن المرجعية الحسية، تلك التي سيطرت على جزء كبير من الرواية، والمنطلقة من ممارسات اعتيادية، أو قناعات متوارثة، أو سلوكيات فردية، والتي لا يمكن أن يستقيها الروائي من الكتب والمراجع فقط، لكني أدركتُ للحظة وأنا أبتسم أثناء إصغائي لإجابته “هناك معلومة لم يُفصح عنها”، أو هكذا يتمنى القارئ الذي يسكنني!
أنهى (فرغلي) الأمسية التي مرت بسلاسة، فكان لا بد من خاتمة (عائلية) تتسق ورحابة صدر الضيف، حيث توالت طلبات التصوير التي تكررت مع نفس الأشخاص بذات البهجة، وابتسامة لا أعرف لماذا كانت تتلاشى أمام عدسة الكاميرا تحديداً، ربما هو تقليد قديم لا يستطيع الفكاك منه، لكن الجمهور الكويتي طالبه بالابتسام تماشياً مع حقيقته التي أمتعتنا طوال الأمسية، وقد فعل.
وبينما شلّت النجومية تقاطيع الكثير من الكتاب الشباب الذين تحولت وجوههم إلى جليد لا يذوب بعد أول جائزة يحصدونها، فيصعقوننا بجفاء كلماتهم، وزيف ابتساماتهم، كان سنان أنطون في المقابل، متخلصاً من النجومية التي يستحقها. بدأ وأنهى ندوته بتواضع جم، ولطف كبير، حتى أنه لم ينسَ طلب ابنتيَّ الخريجتين حنين سالمة ومنيرة العبدالجادر التصوير معه منفردتين، ورد عليهما باللهجة البغدادية الرائعة: “آني تحت أمركم”، لنخرج من تلك الأمسية ونحن ممتنون لـ (كاب) والمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وملامحنا مدثرة بابتسامة دافئة رسمها من كنت أعتقد لسنوات، أنه حزين ووحيد!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
★ مديــر التحريــر