رأي

د. سعداء الدعاس: ما الذي أغضب عبد الرضا إلى هذا الحد؟!

د. سعداء الدعاس

سؤال طرحه معظم من حضر الندوة التطبيقية المصاحبة لعرض فرقة قطر المسرحية “غجر بحر”، فما بدر من المخرج ناصر عبد الرضا أثناء الندوة من انفعال شديد، وصوت عالٍ، وغضب غير مبرر، أمر لم يكن يتناسب إطلاقاً مع الإشارة التي قيلت ضمن المداخلات حول عدم الالتزام، والتي كان يُقصد بها – صورة مباشرة استوعبها الجميع بلا مواربة – أن المخرج لم يكن عليه أن يلتزم بثبات المنظر المسرحي طوال العرض، وكان بإمكانه إجراء تغيير للموجودات على الخشبة لمعالجة رتابة حركة الممثل المُحددة بخطوط ثابتة ومكررة في الخروج والدخول، ولكسر أفق التوقع لدى المتلقي.

وبعيداً عن امتعاض الحضور واستيائهم الشديد مما حدث، الأمر الذي عبر عنه كثيرون بعد الندوة، ومنهم فنانون قطريون محترمون اعتذروا مباشرة، وبعد الندوة، وبعيداً عن اعتذار المخرج ذاته في آخر الندوة -كما علمنا- أقول بعيداً عن كل ذلك، فإن التساؤل الذي أثير حينها وبعدها، انصب حول السبب الحقيقي لكل ذلك الغضب!

لعل العين الفاحصة التي تدرس إيماءات الجسد وتُحللها، لاحظت بسهولة ومنذ بداية الندوة، السبب الأول والكامن في عدم تقبل عبدالرضا للآراء النقدية – وهو أمر تكرر سابقاً في ندوات أخرى – حيث كان يجلس على المنصة يتلقى المداخلات بوضعية لا تتناسب وندوة تطبيقية، مدّد فيها قدماه متأرجحاً بالكرسي بتوتر ملحوظ، وتحفز لكل مداخلة، متوجهاً للمتحدثين باستعلاء واضح! 

على العكس كان انطباع المؤلف طالب الدوس، الذي كان يجلس بهدوء تام، ويستمع بإصغاء شديد واهتمام واضح للملحوظات التي وُجِّهت للعرض.

أما السبب الثاني – من وجهة نظري- فيتعلق بعدم توقع المخرج للآراء النقدية التي عبّرت عن كثير من الملحوظات حول العرض، حين افتتح الندوة الناقد محمد الروبي بإشارات قيّمة إلى الخلل الكبير في الإضاءة وعدم توظيف العرض للصورة المسرحية واهتمامه بالشكل فقط، تلاه المخرج عمرو قابيل بتحليلات عميقة حول عدم قدرة العمل على التعبير عن ثيمته التي تتطرق لغجر البحر حيث لم تتحقق عوالم الغجر أو البحر على الخشبة، ومن ثم الفنانة التونسية نزهة الشامخي التي ركزت عبر ملحوظاتها الدقيقة على آلية الأداء المفقودة في العرض، والتي لا تتسق ومضمونه، والاستعراض الذي كان أقرب لحركة الأخطبوط منها للبحر.

كانت الندوة ستنتهي عند هذا الحد، بأقل عدد من المشاركين في جميع الندوات السابقة، وذلك لعدم رغبة الحضور بالمشاركة، وأنا منهم، لكون العرض بالنسبة لي من العروض الساكنة التي لا تحرك في المتلقي شيئاً يستحق التوقف عنده، سلباً كان أم إيجاباً.

لكن قرار المشاركة بالرأي من قبل د. لطيفة البقمي، وعلاء الجابر.. أنقذ الندوة من أن تموت باكراً، بعد أن توقفت المداخلات، فجاء تعامل عبد الرضا مع مشاركة د. لطيفة بالآلية ذاتها، والتي غلفتها النظرة الاستعلائية، وتعليقات جانبية أثناء مداخلتها، التي تناولت العنف في مشهد القتل باستخدام السلاح الأبيض، أما حين جاء دور الجابر، وطرح ملحوظاته عن العرض، فكان المخرج قد وصل إلى أعلى مراتب الغضب، الذي تراكم خلال الندوة، والذي حاول تفريغه عبر الانفعال، للتعبير عن عدم قبوله الرأي الآخر من جهة، وبهدف وقف سيل الملحوظات التي ذكرها الجابر، والتي لم يكن قد انتهى منها بعد، من جهة أخرى، وبخاصة أن عبد الرضا يعلم علم اليقين أن الجابر لامس إشكاليات العرض بدقة، ولاحظ كيف بدأت الكثير من الرؤوس في الندوة تومئ بالاتفاق معه وهو على المنصة، من بينهم ممثلون في العرض ذاته. حيث أشار إلى عدم اتساق الأسماء ما بين مجردة وواقعية، الأمر الذي انسحب على الأزياء وأظهرها بصورة غير متسقة مع واقعية العرض، هذا بالإضافة لثبات قطع الديكور ضمن تقسيم كلاسيكي للخشبة، مما أثر على صوت الممثل وأوقع العرض في الرتابة، كما توقف الجابر عند ضعف بنية شخصية بحري، بكرامات غير منطقية، وأحداث غير مقنعة، مما أدى لنهايات غير مبررة!    

وبدلا من أن يستمع المخرج لجميع تلك الملحوظات، من جميع المتداخلين، للاستفادة من وعيهم الفني وصراحتهم، أخذ يصرخ بصورة صادمة لجميع الحضور: ماذا تريدني أن أفعل، هل أطلق على الشخصيات اسم ألف وباء!؟

متى يعي بعض صناع العمل المسرحي أن العرض بعد أن يقدمه المخرج على الخشبة يصبح ملكاً للمتلقي؟ وأن الندوة التطبيقية مساحة حرة لعرض الآراء والرؤى، لقراءة العرض وإضاءة مناطقه المعتمة، وتأويل مكوناته ورسائله، ومن ثم طرح التساؤلات التي تحفز الوعي على التفكير؟  

بعد ذلك الانفعال الذي استهجنه الجميع، كان لا بد من الانسحاب من الندوة التي لم يستطع عريفها – مع الأسف الشديد- أن يُسيطر على مجرياتها، فافتقدت أقل درجات الانضباط، فما إن بدأ المخرج بمقاطعة المتداخل علاء الجابر قبل نهاية جميع المداخلات، بانفعال مبالغ، حتى قرر الجابر مغادرة الندوة، فليس من الحكمة على الإنسان الناقد/المبدع أن يصطدم بشخصيات انفعالية إلى هذه الدرجة، والتي قد تدفعه لأن ينزلق لأي تصرفات أو سلوكيات لا تليق به وبمكانته، مما يجعل من الانسحاب ترفعاً واحتراماً للمكان وجمهوره، كما فعلت الأستاذتان أمل عبدالله وليلى أحمد في الندوة التي سبقتها، والتي كتبتُ عنها مقالي السابق (مع الأسف يا “أبو خلود”)!

متى يعي البعض أن الندوة التطبيقية حق للمتلقي يبوح خلالها بما يشاء، ومن حق فريق العمل أن يأخذ أو لا يأخذ بذلك البوح كما يشاء؟ وأن محاربة الآراء التي تختلف عن قناعاتنا وقمعها، هي مجرد وسيلة ضعيفة لتكميم الأفواه، لا تتناسب ولا تليق أبداً بمن يعمل في مجال الثقافة والفنون والآداب؟ 

أتمنى وبعد كل هذه السنوات التي قضاها المخرج ناصر عبد الرضا في العمل المسرحي، وفي ظل الخبرة الطويلة التي اكتسبها، وبعد أن يهدأ من ضغط المهرجان والتوتر الذي يخلفه التنافس، أن يُراجع نفسه في انفعالاته، قبل منجزه المسرحي الأخير الذي اتفقت جميع الأصوات النقدية في الندوة (وخارج الندوة) على إشكالياته العديدة، وينظر لمنجزه بنظرة الفاحص والمتأمل، ويوازن بهدوء، الآراء التي طُرحت، لعله يجد فيها ما يعمّق من عمله ويسدد ثغراته، ويذكّر نفسه دائما بأن الفنان الحقيقي الذي يرى الفن مصدراً من مصادر التعبير، لا يمكنه أن يحجر على الرأي الآخر أو يهزأ به، فقط لأنه لم يتفق معه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

مديــر التحريــر

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى