حسام الدين مسعد: مهرجان كركوك الدولي لمسرح الشارع..تأسيس خطاب جديد، وتحويل المدينة إلى مختبر مفتوح للأداء والمعرفة.


حسام الدين مسعد★
في عالمٍ يتغَيَّر بسرعة تفوق قدرة الإنسان على الفهم، يعود مسرح الشارع؛ ليصبح الأداة الأكثر صدقاً في تفكيك الواقع وإعادة تركيب العلاقة بين الفنان والجمهور.
تأتي الدورة التاسعة من المهرجان الدولي لمسرح الشارع في كركوك؛ لتؤكد أنّ الفن قادر على إنتاج الاستقرار، لا بوصفه نقيضاً للصراع، بل بوصفه بديلاً معرفياً وجمالياً، يُعيد ترتيب الحساسيات الثقافية والاجتماعية داخل المدن متعددة الهُوِيّات.
هذا المهرجان لم يَعُدْ مجرّد ملتقًى للعروض، بل تحوّل إلى بِنية ثقافية متكاملة تُنتج الكتب، وتمنح الجوائز، وتبني خطاباً نقدياً عابراً للحدود؛ لتصبح كركوك مركزاً عربياً جديداً في صناعة الوعي المسرحي.

بين الشعار والدلالة: “مسرح الشارع… رسالة الاستقرار”:
اِختار المهرجان لهذا العام شعاراً ملتبساً ومحمّلاً بكثافة دلالية:
“مسرح الشارع: رسالة الاستقرار”، وهو شعار يُحوّل المسرح من فعل جمالي إلى ممارسة اجتماعية، تستجيب لواقع مضطرب، وتُعيد إنتاج الطمأنينة عبر الفن.
لم يكنِ الشعار تزيينياً؛ بل إطاراً نظرياً أعاد صياغة علاقة المهرجان بالجمهور والمدينة.
كركوك بوصفها فضاءَ أداءٍ لا مدينةَ استضافة:
تميّزت هذه الدورة بمشاركة عشرين عرضاً من خمس عشرة دولة، ما جعل الشارع يتحوّل إلى خريطة أداء مُوَسّعة.

لكن القيمة الأهم كانت في استجابة العروض للفضاء الكركوكي المتعدد القوميات واللغات، إذ بدا الشارع شريكاً في صناعة المعنى، لا مسرحاً للعرض فقط.
التكريمات الدولي خطاب يربط الفن بالجمهور:
كرّم المهرجان نجوماً ذوي تأثير عربي وإقليمي، أبرزهم:
الفنان العراقي “إياد راضي” أحد أبرز وجوه الدراما والمسرح العربي، والفنان الإيراني “جعفر دهقان” بطل المسلسل الإيراني يوسف الصديق، والذي حظي باستقبال واسع من الجمهور، ولجان المهرجان.

وهذه التكريمات لم تأتِ بمنطق الاحتفاء وحده، بل بمنطق اعتراف بامتداد مسرح الشارع إلى تجارب درامية، أسهمت في تشكيل وعي الجمهور.
مشروع معرفي يتجذّر: إصدارات نقدية جديدة:
صدرت خلال المهرجان أربعةُ كتب نقدية تُشكّل إضافة نوعية للمسرح العربي، أهمها:
“مرايا البحث” من إعداد أعضاء لجنة الأبحاث العلمية والدراسات التطبيقية، برئاسة أ.د حسين التكمه چي (العراق) وعضوية كل من أ.د احمد بلخيري (المغرب) ود.كيفي أحمد (كردستان/ العراق) و أ.حسام الدين مسعد (مصر) وقد تَمَّ إصدار كتاب الأخير الموسوم «مسرح الشارع: صناعة العرض من المكان إلى المعنى» إلى جانب كتابين باللغة الكردية لكل من نهاد جامي، ومريوان زنكنة .

وتُمَثِّلُ هذه الإصدارات انتقالاً نوعياً من الحدث الفني إلى إنتاج خطاب نظري، يدعم ممارسات مسرح الشارع، ويُوثّق تطوراتِها.
الجريدة اليومية – أول منصة نقدية متعددة اللغات:
أصدر المهرجان لأول مرة جريدة يومية، صدرت منها أربعة أعداد، وجاءت بـ: باللغتين العربية، والكردية مع صفحات بالفارسية، وأخرى بالإنجليزية، وهي خطوة تعكس توجّهاً نحو بناء إعلام مسرحي نوعي، يُواكب العروض تحليلاً ونقداً، ويمنح المهرجان حضوراً معرفياً مُستداماً.

البحث العلمي كمكوّن رئيس للهوية الجديدة للمهرجان:
اِستقبلت مسابقة الأبحاث العلمية والدراسات التطبيقية هذا العام 26 باحثاً عربياً، وفاز بالمراكز الأولى:
حسام موسى – مصر، د. حبيب ظاهر – العراق، والباحثة هبة رجب شرف الدين – مصر
ما يؤكد الدور الجديد للمهرجان في تطوير البحث المسرحي، ودعم الدراسات التطبيقية، التي تُغني تجربة مسرح الشارع عربياً.

المؤتمر النقدي الختامي قراءة معمّقة لبِنية العروض:
لم يكنِ المؤتمر الختامي جلسة تقييم سريعة، بل مناقشة تحليلية طالت البِنية الجمالية، واستراتيجية الإخراج، وعلاقة الجسد بالفضاء، ومنطق التلقي، وهذا يعكِسُ وعياً بأن مسرح الشارع لا يكتمل دون نقد يرافقه وينتجه معه.

كركوك من مدينة للعرض إلى مدينة تنتج النظرية:
في ضوء هذه المعطيات، يُمكن القول إن الدورة التاسعة، رسّخت المهرجان كنواة مؤسسة ثقافية تمتلك: حدثاً احتفالياً، ومشروعاً بحثياً، ومنصة نقدية، وخطاباً بصرياً عالمياً، وتوجّهاً جادّاً نحو تأسيس نظرية معاصرة لمسرح الشارع.
هذه الدورة كانت إعلاناً واضحاً بأن مسرح الشارع في المنطقة العربية، دخل مرحلة جديدة تتجاوز الفرجة، والنقل الحرفي من العلبة؛ ليقترب من تحويل الفن إلى فعل استقرار حضاري يُوَلِّدُ المعنى.


★ناقد ـ مصر




