مسرح

هايل المذابي: كيف نتعامل مع التراث مسرحيًا؟

الفرق بين إعادة إنتاج القيم، وإعادة إنتاج التاريخ؟!

هايل علي المذابي

يطرح الدكتور “سامح مهران” في منشور له سؤالاً عن كيفية التعامل مع التراث؟ ويقول: “يمكن مقاومة التراث حينما نكتشف أنه بلا حياة ومنعدم المرونة، ومعنى ذلك أنه يجب التوغل عميقاً جداً في ثنايا وطبقات التراث، لنكتشف أن أشياء فيه لم تنجز بعد؛ أو أن ما قد أنجز لم يكن على قدر من الكفاية.

أ.د.. سامح مهران

يستلهم “هارولد بلوم” الفكرة الفرويدية التي تنظر إلى التراث بوصفه مماثلاً للمادة المكبوتة في حياة الفرد الذهنية؛ وإخراج تلك المادة، يعتبره “بلوم” بمثابة عملية تحرير نابعة من إرادة؛ ساعتها يصبح ذلك التراث ــ المكبوت ــ هو عملاق الخيال الفني والإبداعي”.

وتعقيباً على ما طرحه “مهران” نورد تعبير “فرويد” الذي يقول: ” إن التعبير الفني هو صدى لرغبات جنسية مكبوتة في اللاوعي منذ الصغر”، والتراث معادل موضوعي لتلك الرغبات المكبوتة، في اللاوعي الحضاري للشعوب، على الأقل كما يرى “هارولد”، ولكن ما هو المعادل الموضوعي، والمحفز لتحرير هذه الرغبات المكبوتة في اللاوعي بوصفها تراثاً؟

الكاتب هارولد بلوم

 لا أعتقد أن المحفز سيكون له علاقة بالرغبة الجنسية بقدر ما يكون له علاقة بالحاجة الملحة لفهم الإنسان لنفسه، وحاجته للوعي بتاريخه، وطبيعة الصراع الأبدي، ولفهم الموضوع أكثر، ربما وجب العودة إلى نظرية “جوستاف كارل يونغ” حول التحليل النفسي للظاهرة الشعرية، والتي يذكر فيها مصطلح الأنماط البدائية، أو النماذج العليا، التي نجدها في كل سلاسل النقل، وتمثل في مجموع تراكماتها التراث الإنساني بالمعنى الحرفي، والتي نجدها أيضاً لدى عالم الأنثروبولوجيا “كلود ليفي شتراوس” وهي مبعث فكرته في نظرية القرابة، وهي ما أسماه بالتنوع الثقافي عند مختلف الحضارات الإنسانية، ومحتوى هذا التنوع هو ما نسميه بالتراث بالضرورة، ولا يمكن رؤيته بوضوح، أو اكتشافه إلا في حالات التعبير الفني الحاضر، والممتدة جذوره إلى تلك الأنماط البدائية الأصيلة، والتي نجدها بوضوح لدى “جوستاف كارل يونغ ” وتمثل لا متغيرات بنيوية لدى كل حضارة إنسانية، وتختلف فقط طريقة التعبير عنها،  أما الجوهر والمعنى فهو واحد، وكما قال “الجاحظ “: المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العربي، والعجمي، والبدوي… وما يختلف فقط هو طريقة الصياغة، ولعل حالة الأمثال الشعبية المتشابهة لدى كافة الشعوب في مختلف الحضارات، تعبر بوضوح عن حالة الأنماط البدائية، أو النماذج العليا عند “يونغ ” والتنوع الثقافي عند “شتراوس”، وتجسد مفهوم التراث أيضاً، الذي يتحدث عنه “هارولد” كامتداد لآراء “فرويد”.

عدا ذلك نجد ثمة ترابط خفي بين نظرية التطهير لدى أرسطو، وبين نظرية القرابة عند عالم الأنثروبولوجيا “كلود ليفي شتراوس”، وبين نظرية النماذج العليا، والأنماط البدئية عند عالم النفس “جوستاف كارل يونج”، وبين مسألة إعادة إنتاج التراث التي نادى بها ” هارولد” استلهاماً من فكر ” فرويد”؟

الفيلسوف سيجوند فرويد

كيف؟

يشير مصطلح التطهير، أو التنفيس الوجداني “The theory of catharsis” في سياق فلسفة “أرسطو” إلى “التنفيس عن العواطف، وتهذيبها عن طريق الفن، أو أي تغير حاد في العاطفة، يؤول إلى تطهير النفس من العواطف الزائدة، وتجددها وإصلاحها”(1)، أي أن الفنون تقوم على المبادئ، وتلك المبادئ هي المعاني المطروحة في الطريق، التي يعرفها العربي، والعجمي، والبدوي عند ” الجاحظ”، وهي التراث الذي يتحدث عنه “هارولد”، وهي ما يعمل على تهذيب النفس، ويرقى بالجنس البشري، وهنا يمكن النظر بتمعن، تأكيداً لذلك إلى قول “يوجينا باريا”: “إن المسارح لا تتشابه في عروضها، وإنما في مبادئها” فيقودنا ذلك إلى قول “كلود ليفي شتراوس”: “إذا كانت الأساطير تعيد التفكير فيما بينها، فالمسارح أيضاً “.

وعن نظرية القرابة لـ “كلود ليفي شتراوس” فهي كما أسلفت قائمة على التشابه في القيم والمبادئ الإنسانية، واللامتغيرات البنيوية عند الحضارات، وهو ما يسميه “يونج” بالأنماط البدائية، أو النماذج العليا، كما أشرت سابقاً، ولأنها أنماط بدائية، فهي تظل دائماً في حالة تراث، لأنها موجودة باستمرار في كل عصر، وكل ما يحدث هو إعادة إنتاج لها، وهذه القيم الثابتة هي ما وقر في وعي ” أرسطو” سلفاً، وحمله على صياغة نظرية التطهير، من أجل الحفاظ على ثباتها في مكونات المجتمع البنيوية القيمية الثابتة، كما يفترض بها.

الفيلسوف كلود ليفي شتراوس

وفكرة “النماذج العليا” لعالم النفس النرويجي “جوستاف كارل يونج” والتي عرّفها تعريفاً شاملاً في مقال له بعنوان “في العلاقة بين التحليل النفسي والفن الشعريّ” نشره في كتاب “إسهامات في علم النفس التحليليّ”، وهي حسب تعريفه صور ابتدائية لا شعورية أو “رواسب نفسية لتجارب ابتدائية لا شعورية، لا تحصى” شارك فيها الأسلاف في عصور بدائية، وقد وُرِثت في أنسجة الدماغ، بطريقةٍ ما؛ فهي – إذن- نماذج أساسية قديمة لتجربة إنسانية مركزية؛ هذه النماذج العليا تقع في جذور كل شِعْر (أو كل فن آخر) ذي ميزة عاطفية خاصة، وهي تلتقي مع نظرية القرابة لدى عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي ” كلود ليفي شتراوس”، والمقارنة تقول:  إن “شتراوس” عندما قارن علاقات القرابة والأساطير عند (البدائيين) لاحظ أنه ينتهي دائماً إلى نفس المشكل الأساسي، فاستخلص أن وراء التشابه بين الثقافات،  توجد وحدة نفسية للإنسانية، إذ هنالك عناصر أساسية مشتركة للإنسانية، والحضارات لا تقوم إلا بتركيب هذه العناصر المشتركة في تشكيلات مختلفة،  ولذلك نلاحظ بين الثقافات البعيدة عن بعضها البعض تشابهات، وهي تشابهات لا تُعزى بالضرورة إلى التواصل بين الحضارات، خاصة إذا ما تبيّنا وجود حضارات يصعب تصور الاتصال فيما بينها، نظرا لانزوائها، وتباعدها عن بعضها البعض، مثلما هو شأن حضارة (الأنكا) في (البيرو)، و(الداهومي) في (إفريقيا)(2).

عالم النفس جوستاف كارل يونج

 وقد اهتدى “شتراوس” في نظرية القرابة إلى القول تعبيراً عن تلك النتائج حول التنوع الثقافي النسبي، أن “البربري هو من يعتقد في وجود البربرية”.

وتبعاً لذلك، فإن دور المسرح فيما يتعلق بطريقة التعامل مع التراث، وطريقة إعادة إنتاجه، هو إعادة الإنسانية إلى نقطة الصفر في اللامتغيرات البنيوية، أي نقطة الِانطلاق، عندما كانت كل القيم الإنسانية في حالة ثبات في المكونات البنيوية للمجتمع، وتحديد ما هو مكتسب من قيم سيئة، واستبعادها بتطهير المجتمع منها، وإعادة تثبيت ما هو أصيل من تلك القيم، والتي اهتزت وتأثرت بسبب التحولات،  والتغيرات الحاصلة بسبب المعطيات الجديدة مع كل عصر، وهو دور حيوي جوهري، يتعاظم في كل مرحلة، من حيث أن المتلقي يتقبل هذه الاستعادة التي يؤديها المسرح، على اعتبار أنه يقدم صورة عن الأصل، وهي مقبولة لدى المتلقي، فالمباشرة فجة تصدم المتلقي، والواقع يعتبر حالة من المباشرة، مهما كان الأسلوب الذي يتجلى أمام المتلقي، إلا أنه يعتبر مباشراً، لذلك فالدور هنا في صناعة الوعي، وصياغة الوجدان الِاجتماعي، هو دور فرجوي، تقدمه الصورة من خلال القالب المسرحي، والذي يتلقاه المتلقي دائماً بإيجابية.

رغم ذلك تبقى مسألة التفريق بين إعادة إنتاج القيم، وإعادة إنتاج التاريخ، وأحداثه، أو كما تسميه العامة “التاريخ يعيد نفسه” وهنا نورد قولاً للدكتور” سامح مهران “: “يميل العقل العربي إلى أسطرة التاريخ وشخصياته؛ في ابتعاد بين عن الواقع، ومع مرور الأيام تكتسب مثل هذه الأسطرة المزيد، والمزيد من الطبقات الجديدة، فلا نتمكن من التقويم الحقيقي لها؛ بل إنها تصبح النموذج والمثال، الذي ينبغي تقليده، والاقتداء به”.

أ.د. سامح مهران

وتعليقاً على ذلك يمكن القول، إن مشكلتنا مع التاريخ هي مشكلة الإنسان مع اللاوعي، حيث يتسبب الاستدعاء الدائم للتاريخ، من خلال التمثلات الفنية، والثقافية التي تعيد انتاج محتوياته، وكذلك المنتجات المعرفية التي تروج له دائماً، في أن تصبح تلك التمثلات، وتلك المنتجات لا وعياً لدى الجماهير، وبلا شك فهذا يعني أن يعيد التاريخ نفسه على كافة الأصعدة، باختلاف بسيط يراعي متغيرات العصر، وتمظهراته الجديدة، وحينها لا نملك سوى أن نسمي ذلك قدراً، ويمكن أن نؤكد هذه الرؤية بقول “جوستاف كارل يونغ”: “طالما أنك لا تستطيع تحويل اللاوعي إلى وعي، فإنه سيبقى يتحكم في حياتك دائماً، وستسمي ذلك قدراً”.

وبالعودة إلى سياق إعادة إنتاج القيمة، نؤكد أن المسرح، ليس مجرد وعاء فني فحسب، إنه تجسيد للثقافة ذاتها، تجسيد لمنظومة هائلة من مكونات اللامتغيرات البنيوية، في المجتمع الذي نعيش فيه، تجسيد للقيم المترسبة في الذهنية الحضارية،  التي تشكلت في الوعي الجمعي عبر آلاف السنين، ورغم هذه البساطة في المعنى الذي يحمله، ويشير إليه مدلول الوعاء الفني لأبي الفنون، والوظيفة التي يشغلها، إلا أن تجسيد هذه الوظيفة بكافة أبعادها، يجب أن يتداخل شرح تحقيقه مع مسائل الرياضيات الهندسية ومعادلات الفيزياء، بل ويجب الاحتكام في تجسيده إلى مقولة السبب والنتيجة، فالمسائل الحسابية تحمل المنطق البديهي، الذي استساغته الذهنية البشرية عبر مراحل زمنية متعددة، ومازالت تفعل ذلك حتى هذه اللحظة، والذي يمكن تجريده بساطته من وظيفته الحسابية، وإسقاطه على عالم الفنون، ووظائفها وعلى رأسها المسرح، فالقول واحد زائد واحد يكون ناتجه اثنين، وهي من المسلمات البديهية، وبالمثل فإن تحقيق الوظيفة القيمية في المسرح، يكون بذات المنطق الحسابي، وأعني بلفظة “تحقيق” أي: تمكين المعنى القيمي، الذي تهدف إليه أبعاد المادة الفنية في الذهنية المتلقية، فالكلمات، واللون، والضوء، والملابس،  والديكور، والأصوات في هذا المسرح هي عبارة عن أرقام حسابية، عندما نجمعها مع بعضها تعطينا ناتجاً دلالياً لقيمة إنسانية، نهدف من وراء عملنا الفني إلى تمكينها في ذهن المتلقي.

وتحقيق هذه المعادلات في عالم الفن، يقتضي وجود كاتب مسرحي بارع، ومخرج حقيقي مثقف إلى أعلى حد، فإن كان ثمة قصور في براعة كاتب النص، فإن المخرج يسد الثغرات، ويعالج القصور، إنها خبرة البنّاء الطويلة في رصف الحجر، وتشييد المداميك، وإعلاء البنيان، فالمسرح بمجموع مكوناته، كلمات، وألوان، وأضواء، وديكور، وملابس، ووجوه، وأصوات، وشخصيات، وقصة، وحبكة درامية هي أحجار في يد الفنان، يبني بها ما يشاء في ذهنية المتلقي، إما قصورًا، وإما خرائب وأطلالاً، إما حضارة وإنساناً، وإما تخلفاً وجهلاً وضلالاً (3).

المراجــــع:

(1) أنظر: كتاب “فن الشعر” لأرسطو، أو نظرية الكاترزيس، أو التطهير Berndtson, Arthur (1975). Art, Expression, and Beauty. Krieger. صفحة 235. ISBN 9780882752174. 08 يوليو 2020. The theory of catharsis has a

(2) هايل علي المذابي، قراءة مقارنة في النماذج العليا لـ«يونغ»، والتنوع الثقافي لدى شتراوس، صحيفة القدس العربي، 25/8/2016م.

(3) هايل علي المذابي، المسرح وتحقيق معادلات القيمة، مقال منشور على منصة الهيئة العربية للمسرح، 26/7/2020.

ـــــــــــــــــــــــــ

كاتب وباحث ــ اليمــن

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى