رواية

شيماء مصطفى: “إيراث” لأدهم العبودي.. هل يمكن أن تنسج نصًا ميثولوجيًّا لا يتأثر بالتراث ؟

شيماء مصطفى ★

وضع أدهم العبودي نفسه في روايته الأخيرة ” إيراث ..رحم الطين” الصادرة عن دار سما للنشر والتوزيع 2025 أمام تحدٍ كبير، وتحت قبضة آلهة لا تغفر الخطأ، بل تتربص لكل من يخالف قوانينها، أو حتى من يجاريها محاباةً، فيكتشف أنه تأثر بإرثها الميثولوچي واعتنقه حتى لو أضمر ذلك، وباعتبار العبودي رجل قانون في المقام الأول قبل أن يكون روائيًّا صدر له عدة أعمال منها: ” ما لم تروه ريحانة” ، ” الخاتن”، “باب العبد”، ” خطايا الآلهة” أقدم على تجربة مغايرة عم انتهجه في أعماله السابقة بيقين رجل قانون يعرف ثغراته، وبصك انتماء واضح من طيبة مهد الأساطير ، فوضع نفسه أمام عدة تساؤلات لا مفر من الإجابة عليها أمام القارئ منها: ماذا سيضيف العبودي لإرث كبير من الأساطير ؟ ويضيف الناقد للسؤال سؤالًا : كيف سيكتب العبودي نصًا أسطوريًّا بوعي معاصر؟
وتساؤلًا أبعد من آلهة الأساطير أنفسهم، هل سينحاز العبودي لأساطير حضارته؟ أم أن الضرورة النصية ستحسم القرار؟

تدور الرواية حول رحم الطين/ الأرض، والذي ينجب ذكورًا مشوهة تلتصق أفخاذهم ببطونهم، إلى أن يظهر إيراث ليتولى قيادتهم بعدما ذيع أنه ابن لآلهة السماء ، ثم تظهر من بعده ” أولا” كرمزية للمرأة، بهيئة كاملة مكتملة، تؤهلها مهمة تعليمهم فتكون بمثابة فجرًا أيقظ العقول من غفوتها.

يقول غوستاف فلوبير: ” يصير المرء ثوريًّا بكل سهولة في الفن والأدب، أو على الأقل سيعتقد أنه كذلك لأنه سيأخذ كل ما يناقض الأفكار المقرة لدى الجيلين السابقين على الجيل الذي وصل لتوه إلى سن النضج باعتباره شديد الجسارة وتقدمًا هائلًا”
أسس العبودي أسطورته، وجعل الأرض بؤرتها المركزية التي تنبت منها الأحداث، والشخصيات، فاتسع المكان باتساع قارات الأرض ليشمل أبناءه السبع ” قلب الماء ، الرائي، عين الحكمة، الزارع، حامل الأسرار، صوت السماء ، روح السماء” وليغرس في نفوسهم ضرورة التلاحم والتماسك ليتسلحوا بما وهبوا من قوى الآلهة لمواجهة قوى الظلام و”زلحاف” الذي سعى للقضاء على الأبناء السبعة لأولا، وهو نفسه الذي يتشابه و”وتيفون” حين حاول الإطاحة بآلهة الأولمب ، إلا أن العبودي جرده من رمزيته بالمباشرة حين وصفه بأنه سياط الفوضى، الممسك بزمام الخطيئة بين الآلهة والبشر.
” صرخ صرخة مزقت الأفق ، وانطلقت منه دوائر من الدخان والنار، أحاطت بالأخوة السبعة، كأفاع جائعة”.
وفي هذا الاقتباس لجأ العبودي في تشبيه طريقة زلحاف للفتك بالأبناء السبعة بأفاع جائعة، تتقاطع مع أفاع تيفون وصرخاته في معركته مع آلهة الأولمب.
ولأن لا أسطورة تخلو من الرمزية حمل اسم زلحاف في شقه الأول معنى الغيرة والحسد، وهو السبب الرئيسي وراء أي صراع بين قوى الظلام المخربة وقوى الأرض المعمرة.

وعن الزمان فقد منحه العبودي اتساعًا مثلما تمنح الآلهة الأجنحة للتحليق في فضاء البنية السردية، فالزمن عنده لم يكن مضمرًا للتمويه، ولكن للتأكيد على تجدد الصراع بصور وأشكال أخرى من عصر لعصر ، دون أن يكون ملتزمًا بمروية معينة تضعه في فخ المقارنة بين ما كتب، وما يصح.

بين أساطير العبودي وأساطير الإغريق .

قبل الخوض في مغامرة الكتابة عن عمل يحمل طابعًا ميثولوجيًّا ، لا بد وأن تكون مولعًا به، وممسكًا بخيوط اللعبة السردية والأسطورية، لأن الانطلاق من بؤرة الخيال وحدها ـ رغم أساسيتهاـ قد تجرد النص من مواطن قوته، لا سيما وأن الإرث الأنثروبولجي والميثولوجي يزخران بنماذج محفورة في أذهان الكثيرين ومجلداتهم منذ بزوغ فجر التاريخ.

وقد أشار العبودي لسر الصراع حين قال على لسان راويه:” في زمن قرر الكون أن يمعن في طغيانه، عبر التلاقح بين خلقين كلاهما أبعد ما يكون عن تكوين الآخر،…..” إذ طرح سؤالًا ضمنيًّا على قارئه، هل الاختلاف خلاف أم تكامل؟ فضلًا عن سعيه من خلال دعوة مضمرة لأن يرسخ في ذهنه بأن يتعامل مع نصه بمنأى عن اللاهوت والمعتقد.

ففي مقدمة كتاب الميتافيزيقيا طرح كانط تساؤلًا يمكن إدراجه لتمرير بعض الأحداث غير المنطقية بالنسبة للقارىء الذي يقارن بين نصًا تعرف عليه لتوه، ونصوصًا عرفها من قبل
” كيف أعرف أن العمليات الحسابية الرياضية التي أجريها في هذا الفضاء هنا، ستكون بصورة يقينية صالحة في ذاك الفضاء هناك ؟”
ولهذا كان للكاتب مطلق الحرية في تشكيل شخوصه وأدواتهم البدائية التي يستخدمونها، أو في طقوسهم التي يمارسونها ، لكنه في الوقت نفسه لم يكن من المقبول التعبير عن ذلك بلغة فصحى عرقلها المبالغة في التشكيل، فباتت عبئًا بصريًّا ، إذ أن الوظيفة الأساسية للتشكيل إزالة اللبس في بعض المفردات التي تتطلب ذلك، حتى في الوقت المعاصر بات الاهتمام منصبًا على الاهتمام بحركة آخر حرف للضرورة الإعرابية، ولهذا لم يكن من المنطقي أن نجد ” أولا” مكتوبة بوجود تنوين وهي علم أعجمي ممنوع من الصرف( ممنوع من التنوين)” وهي نقطة تعزى للتدقيق لا إلى الكاتب، ورغم هذه الهنة إلى أن اللغة كانت موائمة للجو العام للنص وعلى قدر الحدث.

وبالعودة إلى “أولا” لجأ العبودي إلى لعبة سردية داعب فيها القارىء للعمل حين منح ” أولا” شارة القيادة، فعلمتهم وأرشدتهم، وأخذت بيد ” إيراث” من حافة الهاوية إلى مركز الأمان، ومن ضجيج الفوضى لسكون النظام، ومن بدائية العيش إلى هداية الحضارة، فحملت بداخلها روح إيزيس وأثينا وحتحور، ثم جردها من ألوهيتها في بعض المواقف حين قامت بأعمال بشرية عادية، ثم عاد ليمنحها شرعية إلهية مطلقة في مواقف أخرى، وهنا يشتت العبودي القارىء بين تساؤلين : هل منحها الشارة لأنها امرأة؟ أم لأنها مكتملة ووحدها من يصلح لتحمل عبء المسؤولية الموكلة إليها؟ أي أن القيادة للأصلح طبقًا لمفهوم هربرت سبنسر ، لا يجيب العبودي خلال رحلته السردية، بل يترك قُراءه يجيبون بما يتسق وقناعتهم ويتماشى وزوايا رؤيتهم، فوفقًا للنقد فيما بعد البنيوية فالنص مفتوحًا وكل قراءة له تولد العديد من المعاني.
في السردية الميثولوجية تكون اللغة المنطوقة أضعف عنصرًا للتواصل إذ يحل محلها التواصل الجسدي، والإيماءات، والصرخات، كتلك التي لجأ إليها زلحاف في صراعه مع الأبناء السبعة ، ولكن وجودها كان على استحياء.
أكثر ما يثير الإعجاب ويعد من نقاط القوى بالعمل يكمن في الاستعارات الحية والصور الممتدة، والمتواشجة مع الطبيعة المكانية لبؤرة الصراع بما تضم من جبال وصحراء وماء وسماء ، كقوله :”يبترون من الجبل حجارته”، وهذا لا يتنافى مع طغيان الوصف على الحدث في بعض المواضع.

شكل الاكتشاف ثيمة رئيسة في بناء مروية العبودي ، اكتشاف كل شيء وأصله، وما كان اسم ” أولا” إلا من هذا المنطلق، إيمانًا منه بأن البشر هم صناع الأسطورة، فتعامل مع الميثولوجيا باعتبارها محاولة للتعامل مع التاريخ وفهمه.

أدهم العبودي

العمل رحلة دسمة داخل عوالم الأساطير طرح من خلاله عدة أسئلة وجودية أبرزها: إذا كان هناك حياة أخرى قبل بدأ التكوين فكيف كانت؟ وكيف تطورت صراعات البقاء، دون وجود إجابة محددة، لقناعة الراوي بأن الأرض حبلى بالاحتمالات، وتأكيدًا على قول جوزيف كامبل”الطريق إلى ما هو إنساني يوجد في أن نتعرف من جديد على الشرارة الإلهية في جميع تحولات الوجه الإنسان الذي لا يستنفد”


★سكرتيرة التحرير.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى