سينما

شيماء مصطفى:” سايكوسينما” لـ د. إسماعيل إبراهيم…حين نضع السينما بقبضة المتخصصين.

شيماء مصطفى

الكتابة عن السينما من منظور سيكولوچي تتطلب دراية كافية بآليات الصناعة من جهة، ومن جهة أخرى التخصص الدقيق المدعوم بالقراءات المتعمقة لإثراء هذا التخصص، والمتكئ على المشاهدات المتنوعة لتعزيز الآراء التي يرنو إليها ، وللخروج من حيز التنظير الضيق لبراح التطبيق .

وفي كتاب “سايكوسينما” الصادر عن دار المحرر 2025 يقدم الكاتب د.إسماعيل إبراهيم دراسة مستعرضة وافية عن تاريخ الطب النفسي واقترانه بتاريخ السينما، متناولًا أبرز الاضطرابات النفسية: الاكتئاب ، اضطراب ما بعد الصدمة ، والوسواس القهري ، والتوحد، وغيرهم.

“لو كانت الأعمال الفنية تحرق لأننا عرفنا الحدوتة لما شاهدنا أكثر من مرة أفلامًا نَعْرِفُ أحداثها وتفاصيلها بل وتحفظ جُمل حوارها”

وبالاستناد لمقولة الكاتب والناقد محمود عبد الشكور السابقة في كتابه” كيف تشاهد فيلمًا سينمائيًّا”
فإن القيمة الفنية لأي عمل سينمائي تتجاوز فكرة الحدوتة ، بل تعتمد في جوهرها على كيفية تقديم الحدوتة، ونجد في كتاب ” سيكو سينما” اتساق كبير مع مقولة الناقد السينمائي محمود عبد الشكور، فعلى سبيل المثال لا الحصر ، يقدم د. إسماعيل في ملحق 5 بعض الإرشادات لصُناع السينما فيما يتعلق بتناول الانتحار في الأفلام ، كما نجد في ملحق 7 حصر للأعمال السينمائية التي تعرضت للاضطرابات النفسية وتم تناولها بالتحليل في الكتاب، لأننا وفي العصر الذي تزامن فيه تطور صناعة السينما مع الطفرة العلمية الكبيرة في مجال الطب النفسي ، لا بد أن تكون الأبحاث النفسية ـ في حالة كان البطل يعاني من اضطراب نفسي ـ جزءًا من كيفية صناعة الحدوتة، فلا يقل دور تحري الدقة في رسم الشخصيات المضطربة وكيفية أدائها دون الخلط بين اضطراب وآخر، عن دور المونتاچ والسينوغرافيا وغيرها من العناصر.

متغير تابع أم متغير مستقل ؟

في الدراسات التي تتناول العلاقات بين المتغييرات وتأثير أي منهما على الآخر، نجد الصورة واضحة بمجرد قراءة عنوان الدراسة فنفرق بسهولة بين المتغير التابع والمتغير المستقل، أما في العلاقة بين الطب النفسي والسينما فلا نستطيع تحديد أيهما متغير تابع وأيهما متغير مستقل ، إذ أن الأدوار بينهما تبادلية فتارة تستمد السينما إلهامها ووعيها ببصريتها من الطب النفسي، وأحيانًا أخرى تنبثق نظريات نفسية بناء على فرضيات طرحها عمل سينمائي، وهذا طبعًا بعد إثبات صحة الفروض .

وقد تناول الكتاب مراحل بزوغ الاضطرابات النفسية في السينما بدءًا من أفلام الرعب الصامتة التي صورت المصابين باضطرابات نفسية كمصدر خوف ورعب، أو بتصوير الطبيب المعالج وكأنه شخص مختل، مرورًا بفترة الأفلام الكلاسيكة والتي تزامن تطورها مع تطور النظريات النفسية، ثم المرور على فترة تطور العلاقات بين هوليوود والطب النفسي بسبب إصرار هوليوود على اعتماد نظريات فرويدية تم إسقاطها لعدم دقتها العلمية ، لكن سرعان ما تم العدول عن هذه المنهجية فترة الثمانينات إذ تم التعامل مع الاضطراب النفسي من منظور إنساني، إلا أن السينما عجزت عن تحقيق عنصر الإثارة دون وجود طرف شرير يعاني من اضطراب نفسي دفعه للشر، ثم الولوج لمطلع الألفية الجديدة إذ بات بعض صناع السينما يستعينون بأبحاث طبية ونفسية، ولكن رغم محاولات البعض ما زال هناك أعمال نمطية عن صورة المضطرب نفسيًّا.

ومن أبرز نقاط القوة التي تميز بها الكتاب اعتماده  في بنائه على منهج علمي مشحون بالتفاصيل الدقيقة سواء في عالم الطب النفسي أو عالم السينما، فنجد التعريفات للعديد من المفاهيم لغةً واصطلاحًا ، ورغم تقريرية اللغة التي فرضها الأسلوب الخبري في التناول إلا أن الكاتب نجح في إقحام القارىء داخل الطرح فجعله عضوًا متفاعلًا ومشاركًا وجزءًا من العمل، فاستحوذ على انتباهه وأثار ذهنه حين اصطحبه معه ، وأخذ يجيبه عما يدور برأسه من تساؤلات.
وقد عززت الصور واللوحات الموجودة في الكتاب من ترسيخ الأفكار التي تم مناقشتها وتحليلها ، فضلًا عن الأقوال المأثورة للمشاهير من الأوساط العلمية والفنية والأدبية أو حتى على لسان بعض الشخصيات داخل الأفلام ، كـ :ألبير كامو، ميشيل فوكيه، أكيرا كوروساوا، وغيرهم.

د.إسماعيل إبراهيم.

شيطان الرمادي!

أما بخصوص الغلاف فقد تضمن صورًا لنجوم هوليوود والسينما الغربية الذين جسدوا أدورًا عن معاناة المضربين نفسيًّا ومنهم: داستن هوڤمان، أنتوني هو بكنز، ليوناردو دي كابيرو.

ولأن الكاتب إنسان وطبيب في المقام الأول قبل أن يكون عاشقًا للسينما يقدم رؤيته لصناع السينما، فقد قدم لنا في ملحق 2 وملحق 3 ، 4قائمة بأهم الأدوية المضادة للذهان، وقائمة بأهم أنواع العلاج النفسي الرئيسة لعلاج مختلف الاضطرابات النفسية، ليس ليتناولها المصابون أو يطبقونها من تلقاء أنفسهم، ولكن ليكونوا على دراية وبصرية بوضعهم إذا كانوا في وضع يسمح لهم بذلك، أو المحيطين بهم، ولصناع السينما أيضًا كمرجع لهم أثناء التحضير لعمل.
العمل رحلة ثرية تنم عن عشق للسينما وإخلاص لها، وجهد وبحث دقيق مدعم بقائمة أبحاث أجنبية كبيرة لطبيب أراد أن يوظف علمه لخدمة عشقه، ليؤكد من خلاله على أهمية التضافر بين السينما والطب النفسي فلا يجوز أن يعمل أي منهما بمنأى عن الآخر.
ورغم أني كنت أود لو أرى بعض أعمال السينما العربية في الكتاب، فقد شحذت ذاكرتي وتحفزت حواسي وأنا أقرأ تحليل الكاتب لفيلم ” القناص الأمريكي” الذي يسرد قصة القناص “كريس كايل” القناص المعروف بمدينة الرمادي في محافظة الأنبار كما أطلق عليه العراقيون (شيطان الرمادي) حين تم إرساله للعراق بعد أحداث 11 ستمبر، ليتحول ويصبح شخصًا مختلفًا بعد اضطراره لقتل امرأة عراقية وطفلها، فوجود نماذج من أعمال عربية نعرفها وشاهدناها تجعل رؤيتنا مختلفة ، لكن هذا لا يتنافى مع كون الكتاب مرجعًا حيويًّا، وأرشيفًا ثريًّا لصناع السينما والسيكولوچين الجدد.


★سكرتيـرة التحريـر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى