أخبار ومتابعات

أحمد جاسم : “السعداوي”..الهيبة المتواضعة.

أحمد جاسم

برحيل عبد الله السعداوي ـ رحمه الله ـ نكون قد فقدنا – وأقولها دون تردد – شخصية فريدة لاتتكرر إلا أن يشاء الله .

لا أدري من أين أمسك بشخصية هذا الرجل ، فعندما كنت أشاهده عن بعد في أعماله المسرحية كـ “القربان” عام 1996 م على سبيل المثال، وهي أول أعماله التي شهدتها في منتصف التسعينات ، كنت أرى جبلاً راسخاً مهيباً يعيش قوة حضوره ورسوخه في فضاء العرض، تشعر بمهابة وأنت تطالع حركة جسده ونظرات عينيه الساخنة كما هي عروضه وتجاربه .

وظلت عندي تلك المهابة والصورة راسخة مهيبة ، وتكرست أكثر وأنا أتابع كتاباته المسرحية العميقة التي تنم عن رجل متابع دقيق النظر حداثي التفكير .

واستمر حاجز تلك المهابة حتى قدمت مسرحية الأطفال (مدينة الألوان) في 2010م فإذا بالسعداوي يحتفي بها ويكتب عنها في الصحافة .. فإذا بنشوة الفرح ترفعني وتحملني على أن أمد جسراً مباشراً مع هذا الرجل الذي حجزت بيني وبينه مهابة الاحترام .

ثم قدمت مسرحية ” بلاليط” في 2011م فوجدته نعم السند والمعين والناقد العطوف على التجربة فزادتني ثقة وقرباً منه .

كان السعداوي – في وقت مبكر – يتحدث عن مصطلحات مسرحية متقدمة يسخر منها كثير حتى المسرحيين ، ثم بدأوا يتبنونها ويترجمونها لعالم المسرح، لكنني أحمد الله أن طبيعة شخصيتي مبنية على حيادية لا تحكم على الشيء إلا بعد تفحص وتفهم ، ولذلك كنت أقرأ وأتلقى تلك المصطلحات بلا تأفف .
هذا المدخل هو الذي ساعدني على ولوج عالم السعداوي وفهم أفكاره ؛ ولذلك بدأت أزوره في مسرح الصواري وأتحين الفرص التي لا يتواجد فيها أحد حتى أتفرد معه وأبث له كل تساؤلاتي بأريحية لأن طبيعتي خجولة لا أتحدث كثيراً بحضور مجاميع الفنانين، ولذلك كنت أتواعد معه من الساعة السابعة صباحاً كل ثلاثاء ، أفطر معه ثم يبدأ النقاش على مدى ساعتين وأكثر ، ومع توارد أسماء ومصطلحات المسرح قررت أن أقرأ كلاسيكيات وأصول كتب الفن المسرحي وتطوره ، فقرأت فن الشعر لأرسطو وإعداد الممثل وحياتي لستانسلافسكي ومحاضرات في الإخراج لـ”مايرهولد” والمسرح الملحمي لبريخت والمسرح وقرينه لآرتو وقمت بتلخيص معظمهم تلخيصاً دقيقاً .
فكنت أجهز ملاحظاتي وأسئلتي الكثيرة عن تلك الكتب وأطرحها على السعداوي كل أسبوع فيجيب ويعلق حتى تحولت تلك الجلسة إلى فصل جامعي أكاديمي عميق .. حتى حولت بعض تلك الملخصات إلى حلقات في صفحة اليوتيوب لمسرح البيادر.

فلما انتهيت منها أعارني السعداوي الكثير من الكتب والنصوص المسرحية فكنت طالباً مُجداً أقرأ كل مرة كتاب أوكتابين في أسبوع ثم أرجع له لأناقشه فيها ، ومن ذلك كتابه الذي كتبه عن سيرته في المسرح بعنوان “المسرح قلب “

هذه الحاضنة لم أشهد مثلها قط في مسرحنا ، ليس لأنه لايوجد كفاءات مسرحية ولكن لأن طبيعة السعداوي الرحبة المرحبة تجعلك تقبل عليه بكل عواطفك ، فعندما أعده بزيارة او اسم كتاب فأتأخر عليه يتصل بي ليسأل ويعاتبني على التأخير ، وعندما يعيرني كتاباً أو يقدم عرضاً أو يحضر عرضاً أتواجد أنا فيه كمتفرج كان ينتظرني لنتناقش حوله.

سافرت معه في بعض الأعمال المسرحية كممثل أوكضيف في مهرجانات مسرحية فاستثمرت وجوده لسماع تعليقاته على العروض فازددت وعياً ومجاراة للحدث .

كان السعداوي لا يجيد الإنجليزية لكنه يتابع المسرح الأوربي وتطورات نظرياته اكثر من الأكاديميين نتيجة شغفه بقراءة الحوليات الثقافية ونهمه  بقراءة الكتب هذا فضلاً عن كتب الفلسفة والسياسة والتاريخ والفكر والإسلاميات.

كانت وما زالت لدي عادة بأن اكتشف رؤية المبدعين من خلال سؤال محدد لهم وهو : ماهو مشروع حياتك في تخصصك ؟
كان جواب السعداوي : أن يكون لدي ورشة مسرحية دائمة .. وبالرغم من أنه قطع شوطاً غير قليل لكنه كالعادة اصطدم في تربتنا المسرحية الجافة التي ترهق الزارع فيها نتيجة تجفيف ينابيع الفن بقصد أو غير قصد .

لم أشهد معه تفاصيل مغامرته الأولى كما عاشها معه تلامذته وزملاؤه في مسرح نادي مدينة عيسى أو الصواري من بعد ، لكنني كنت أتابعهم وأقرأ منشوراتهم ، لذلك أحببت واحترمت إبحارهم المتتابع في بحر لجي غامض بقيادة السعداوي المستفز لكثير من طاقات الشباب الواعدة والتي تحولت بعد ذلك لمشاريع متفردة.
رحمك الله أستاذ عبدالله ..فلقد فقدنا فيك الحضن الدافىء.


★ناقد ـ البحرين.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى