جواد عامر: المدينة في الشعرية العربية الحديثةأحمد عبد المعطي حجازي نموذجاً.
جواد عامر★
تطورت حركية الشعر العربي خلال القرن العشرين وسلكت طريقا جديدا نحو تحديث القصيدة متأثرة بالمتن الغربي في إطار المثاقفة التي شهدها العالم العربي وتشكل الرؤية الفلسفية الجديدة للإبداع الشعري بعدما مهدت الحركة الرومانسية لها الطريق فآمن الشاعر العربي بضرورة الانعتاق من ربقة العروض الخليلي وقيود الوزن التي وجد فيها الشاعر الحديث تكبيلا للحرية كبحا لجماح الإبداع الذي يرتبط بالإحساس الإنساني ، الأمر الذي لم يجد فيه الشاعر الحديث أي تناغم فني أو منطق واضح ، فتجرد من القيود الصارمة التي دأبت عليها الشعرية العربية عبر تاريخها في صيغتها العمودية ومنح نفسه مساحات من الحرية في إنتاج النص فعرفت الحركة باسم الشعر الحر أو الحديث وشعر التفعيلة وشعر الغصن والشعر المعاصر، تسميات اختلفت إلا أنها ظلت على نفس المتن الذي تحرر من قيد الشطرين المتناظرين ووحدة الروي في القافية التي كانت أشكلت على الشعراء في التاريخ الشعري مما جعلهم يلتمسون معجما يجري على الآواخر تيسيرا لأمر القافية لأنها الطريق نحو البيت في عرف الشاعر العربي التقليدي.
تجديد الموضوع في الشعرية الحديثة
ولم تقتصر حركة التجديد الشعري هاته على الشكل وما نحاه من تطورات كبيرة على مستوى التشكيل البصري وإنما جدت الموضوعات الشعرية التي كانت استجابة لرؤية الشاعر الحديث من الوجود والحياة ، فقد آمن الشاعر العربي بالرؤية كمحرك إبداعي وهو ما جعله يبني رؤيته من العالم بشكل مختلف عن غيره مستمدا تلك الرؤية من ينابيع متعددة قد يتداخل فيها الصوفي بشطحه وتساميه الروحي والفلسفي بأفكاره وتمثلاته الوجودية والسريالي والدادائي وغير ذلك مما قد يسهم في تكوين رؤية الشاعر، فظهرت موضوعات شعرية ذات مناح ميتافيزيقية كالموت والبعث والحياة استلهمت الرمز الأسطوري في متنها الشعري وموضوعات الغربة الوجودية في الحياة والكون والذات مستدعية المنتج الفلسفي بحمولاته الفكرية ، وشكلت المدينة كفضاء موضوعا شعريا مهما في الشعرية الحديثة تباين تناولها بين الشعراء ، فما بين شاعر يؤشر على موقفه من عالم المدينة في سياق يحتم حضورها كالسياب حين قال : وجيكور من غلق الدور فيها / وجاء ابنها يطرق الباب دونه / ومن حول الدرب عنها / فمن حيث دار اشرأبت إليه المدينة وبين شاعر يتخذ من بعض معالمها ومكوناتها موضوعا لقصيدة أو أكثركالعقاد حين نقل عبر لغة يومية من واقع السوق عمل أصحابه من الباعة المتجولين في قصيدة بابل الساعة الثامنة يقول : البرتقال الحلو والفحم والأطباق والريحانة الفاتنة / والبيض والأثواب والتبغ والأخشاب والزينة والزائنة / وأشربات العصر في حينها مثلوجة إن شئت أو ساخنة، وبين شاعر اتخذ المدينة فضاء رئيسا تناوله بإسهاب على طول ديوان كامل وهو أمر يبدو من المتعسر على أي شاعر أن يسلكه باستعمالات شعرية مختلفة تتنوع فيها التيمات والترميزات ، كان حجازي في ديوان ” مدينة بلا قلب ” الشاعر العربي الذي منح المدينة دمه الشعري ونفسه الكامل في سبيل إخضاعها كفضاء يبدو متعسر التطويع إلى الإيقاعية الشعرية بأوقاع مختلفة النبض دلت حقيقة على براعة هذا الشاعر المصري الكبير كما حضرت المدينة عنده في أوراس وفي أشجار الإسمنت مما يدل على احتفائه بشعرية المدينة التي نبعت من تكوينه النفسي المشبع بالقيم الريفية التي نشأ عليها ، وإن تحامل بعض النقاد على الموضوعة الشعرية واعتبروا أن الشاعر العربي عموما وهو يتخذ من المدينة موضوعة للقصيدة لم يكن على درجة من الصدق الإبداعي بقدر ما كان مجرد محاكاة لشعراء الغرب كإليوث الإنجليزي ، لكنني أرى أن حجازي لم تحركه نزعة التقليد كما فعلت بغيره من الشعراء لأن التقليد يتسم بطابع المحدودية إذ تكفي القصيدة واثنتان لإشفاء غليل المحاكاة المعتمل في النفس ، أما تخصيص ديوان كامل بأنفاس شعرية متلاحقة تلهث فيها القصيدة تلو أختها في سباق محموم تحركه شعرية متدفقة نبتت في محضن الريف الجميل حيث القيم الإنسانية الرائعة والتي سيصطدم فيها حجازي بجدار المدينة المنيع الفاقدة لروح المثل ، فلا يمكن ـ البتة ـ أن يكون نابعًا من روح التقليد المزعوم .
صحيح أن الشعر العربي الحديث جدد الموضوعات لكنه ظل مرتبطًا بالتراث فلم تخل قصائد الحداثيين من موضوعات تقليدية كالغزل والرثاء والهجاء والمدح غير أنها اتخذت أنساقا جديدة ارتدت فيها أردية الحداثة والمعاصرة لذلك كان التجديد الموضوعي سمة غالبة على المتن الشعري الحديث بحكم ما جد في الواقع الإنساني وما أفرزته سياقات تاريخية متلاحقة السرعة غذتها المدنية الجديدة.
حجازي والمدينة
شكلت المدينة عند حجازي في ” مدينة بلاقلب ” نواة أساسية للديوان كله ، ولعل العنوان منذ الوهلة الأولى يحيل إلى الفضاء الذي جاء نكرة ليحمل قيمة الضياع والغياب وجاء شبه الجملة مركبًا منفيا ليحمل دلالة موت الأحاسيس والرحمة والشفقة ويدل على مناقضاتها كالقسوة والجفاء والغلظة ، صحيح أن الديوان ضم قصائد رومانسية تغنى فيها حجازي بالحب والذات لكن التيمة المهيمنة كانت فضاء المدينة عبر قصائد كثيرة مثل سلة ليمون ، مقتل صبي ، الطريق إلى السيدة ، أنا والمدينة، قصيدة ” عابرة ” ، العيون ، رسالة إلى مدينة مجهولة ، وحتى تلك القصائد التي حضرت فيها أحاسيس الشاعر تجاه الأبوة والأنثى استدعت حضور الريف بحمولاته القيمية داخل المتن الشعري ، لذا أكاد أجزم أن شاعر كحجازي لا يمكن في مدينة بلاقلب أن يمارس تلك المحاكاة المغفلة تأثرًا بشعراء الغرب ممن نقلوا واقع المدن الضجة كباريس ولندن ليتم إسقاط قيمها وأنماط سلوك أبنائها وثقافتها على مدن عربية كالقاهرة وبيروت وبغداد ، فيتم تقليد أنساق شعرية بحمولاتها الدلالية من تربة غربية ذات قيم تختلف كلية عن طبيعة القيم العربية عبر فعل شعري ينسخ ثقافة غير ثقافته وقيما لا تمت له بصلة.
مواصفات المدينة عند حجازي
غذت النشأة الريفية في الصعيد المصري نفس ووجدان حجازي بالقيم النبيلة والطبائع الريفية الرقيقة ولا بد أن انتقاله للقاهرة من أجل الدراسة العليا هناك ثم التحاقه بجامعة السوربون بباريس كان له كبير الأثر في تفجير ينبوع القيم التي تربى عليها في بيئته الصعيدية ، فكان اصطدامه بعالم المدينة اصطدامًا قويًا ولد في نفسه ذلك الإحساس بالاغتراب والضياع وسط فضاء شديد الازدحام ، ضج بالناس ، مشحون باللهث وراء المال في مقابل الدوس على القيم الإنسانية النبيلة ، فضاء تنهار فيه القيم وتتهشم ، فضاء متسم بالملل ويبعث على الكآبة والإحساس بالغربة وسط الحشود البشرية التي لا تمارس أبسط الأخلاقيات المتعارف عليها في الاسلام كإفشاء السلام ، وهي فضاء يبعث على التأزم النفسي والاحساس بالضيق والاختناق ، إنها فضاء تغيب فيه الرحمة والشفقة وهي مصدر تعب وإرهاق بسبب الجري واللهث والسرعة ولا أحد فيها يتذوق الجمال ، بخلاف الريف الموسوم بالهدوء والجمال وامتداد الأفق وطيبة الناس وتآزرهم وتكافلهم وتواددهم ، فالريف موضع لصفاء الطبع ونقاء السرائر ، لذلك كان حجازي دوما يحن إليه وفي حنينه توق نفسي يجيش به وجدانه الذي يهتز كلما أذكره شيء في المدينة بالريف يقول حجازي في قصيدة سلة ليمون : سلة ليمون/ والولد ينادي بالصوت المحزون / بالقرش الواحد عشرون / سلة ليمون / وقعت عيني عليها / فتذكرت القرية.
ووفي قصيدة أنا والمدينة تحضر تيمة الضياع والاغتراب بقوة حيث الهوية مفقودة والشاعر كورقة خريف ضائعة بين الدروب يقول حجازي : هذا أنا / وهذه مدينتي / وريقة في الريح دارت / ثم حطت في الدروب / ظل يذوب / يمتد ظل / ظل يذوب / وعين مصباح فضولي ممل / دست على شعاعه لما مررت / فجاش وجداني بمقطع حزين / من أنت يا ؟ من أنت ؟ لقد صرت ضائعا بدون اسم / الحارس الغبي لا يعي حكايتي / هذا أنا وهذه مدينتي.
وتتكسر القيم في عالم المدينة الفاقد للرحمة والشفقة حين تدهس سيارة طفلا صغيرا بغير هوية في قصيدة مقتل صبي تظهر قساوة الفضاء ويتبدى عالم شديد الجفاء والغلظة صنعته حضارة جعلت الانسان يدوس القيم في سبيل المنفعة الذاتية يقول حجازي : الموت في الميدان طن / العجلات صفرت ، توقفت / قالوا ابن من ؟ ولم يجب أحد / فليس يعرف اسمه هنا سواه / يا ولداه! قيلت ، وغاب القائل الحزين / والتقت العيون بالعيون / ولم يجب أحد / فالناس في المدائن الكبرى عدد / جاء ولد / مات ولد / الصدر كان قد همد / وارتد كف عض في التراب / وحملقت عينان في ارتعاب / وظلتا بغير جفن..
عالم الريف عند حجازي
ابن الصعيد المصري ، رجل عاش في ظل الصفاء ونقاء الطباع ظل الحنين دوما يراوده إلى عالم الريف سواء في قصائده الرومانسية أو في قصائده عن المدينة ، لأن التعلق بالريف تحكمه الفطرة وتذكيه النشأة فيكون الاستدعاء لا شعوريًا في غالب القصائد ليفرض الريف نفسه في عالم القصيدة كبؤرة موضوعية تحمل تلك القيم الجميلة تناقض عالم المدينة برمزياته القاتمة ودلالاته السلبية ، لذلك حضر الريف بقوة خاصة في النهايات الشعرية من أجل ترسيخ القيم التي يحملها الريف في ذهن المتلقي وإثبات صلاحيتها في الحياة.
وبهذا يكون حجازي الشاعر العربي الحداثي الذي استطاع عبر تلوينات شعرية متنوعة المذاقات أن يقدم أطباقًا نقلت رؤيته الوجودية لفضاء المدينة على خلاف التمثل الذي يحمله عامة الناس من أنها فضاء التحضر والشساعة وفرص العمل وقضاء الأغراض الإدارية وما شابه هذه الأشياء التي تظهر في سطح المدينة لكن رؤية الشاعر غير الرؤية التي يمتلكها العوام فهي نافذة متبصرة تقتحم العمق الوجودي وتسبر أغوار الكينونة لتكشف عن أشياء لا ينتبه إليها في الحياة ، فتكون تجربة حجازي مع المدينة صورة استطاعت أن تعكس حقائق قيمية لا يمكن البتة إنكار وجودها في هذا العالم المشحون بالحركة والحامل لكل القيم السوداوية القاتمة.
★ناقد ـ المغرب.