تشكيل

مصطفى أبوسردانة: قراءة في أعمال الفنان التشكيلي صالح المالحي.

مصطفى خليل أبوسردانة

يتناول هذا التقرير البحثي سيرة ومسيرة الفنان التشكيلي الفلسطيني صالح المالحي، الذي يُعد من أبرز رواد الفن الفلسطيني المعاصر. من خلال استعراض سيرته الذاتية وتحليل أعماله الفنية، يُبرز التقرير كيف شكَّلت تجربته الفنية انعكاسًا للواقع الفلسطيني ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي بأسلوبه المميز الذي يجمع بين الحداثة والروحانية. كما يناقش التقرير الأبعاد الفنية والاجتماعية والسياسية لأعماله التي جعلتها توثيقًا بصريًا لمعاناة الشعب الفلسطيني.

السيرة الذاتية
وُلد الفنان صالح المالحي عام 1943 في قرية المالحه، إحدى قرى مدينة القدس الفلسطينية. تلقى تعليمه الفني في معهد ليوناردو دافنشي بالقاهرة، حيث تعمَّق في دراسة الفنون الجميلة. شارك في العديد من المعارض الجماعية والدولية في مدن مثل القاهرة، الكويت، الإسكندرية، بغداد، الرباط، دمشق، وميلانو. كما أقام معرضه الشخصي الأول في عمان عام 1968.
عاش الفنان فترة طويلة متنقلاً بين الدول العربية، وكان لفنه دور بارز في إبراز القضية الفلسطينية. توفي عام 2013، تاركًا إرثًا فنيًا غنيًا يُبرز مأساة الشعب الفلسطيني ومعاناته تحت الاحتلال.

التحليل الفني لأعمال صالح المالحي
الأسلوب الفني
امتازت أعمال المالحي بالجمع بين الحداثة والمعاصرة، حيث استطاع بأسلوبه الفريد أن ينقل المشاهد إلى عمق الأحداث التي وثّقها. ركز على التفاصيل الدقيقة واستخدم رموزًا غنية بالمعاني لتوصيل رسائله الفنية، مما جعل لوحاته محط اهتمام للتأمل والتفكر.

الرسائل والرمزية
قدَّم المالحي في أعماله توثيقًا بصريًا للقضايا الفلسطينية، مستخدمًا رموزًا مثل شجرة الزيتون، الأزياء الشعبية، والبيوت القديمة. لوحاته مثل “صبرا وشاتيلا” وثَّقت مذابح الاحتلال بأسلوب فني قوي يُبرز التفاصيل المأساوية التي عاشها الفلسطينيون. كانت هذه الأعمال بمثابة صرخة احتجاج وتوثيق تاريخي للأحداث التي حاول الاحتلال طمسها.

استخدام الألوان والخطوط
كان لاستخدام المالحي للألوان والخطوط دور بارز في تعزيز رمزية أعماله. اعتمد على الألوان الدافئة لتوصيل مشاعر الحنين، والحزن، والمقاومة. كما استغل الخطوط الدقيقة لرسم العناصر المختلفة، مما أضفى طابعًا واقعيًا على أعماله.

دور صالح المالحي في توثيق القضية الفلسطينية
في سياق الفنون التشكيلية، لا يمكن إغفال الدور البارز الذي لعبه الفنان الفلسطيني صالح المالحي في توثيق معاناة شعبه من خلال لوحاته التي لا تزال تمثل جزءًا من تاريخ فلسطين الفني والثقافي. كما أن أعماله الفنية تعد وثائق حية لمرحلة تاريخية معقدة ومؤلمة لشعب فلسطين. يُعتبر المالحي أحد الفنانين الذين قاموا بتوثيق ما تمر به الأرض الفلسطينية من نكبات وحروب واحتلال، من خلال أعمال فنية حاملة لرسائل إنسانية وأدوات رمزية، أضافت بُعدًا عميقًا لما يعنيه العيش تحت الاحتلال وما تمثله مقاومة الفلسطينيين على مر العقود.

تجسيد القضية الفلسطينية
بدايةً، يعدّ المالحي فنانًا كان له هدف واضح منذ بداية مسيرته الفنية: تجسيد القضية الفلسطينية، وعكس معاناتها وأملها في التحرير من خلال ألوانه ورسوماته. ففي كل عمل قام به، كان المالحي يرسم قصة لم تُروَ بعد، وعرضها بأسلوب فني يأسر القلوب ويفتح العيون على الواقع الفلسطيني المعاصر. من خلال أعماله التي أصر على أن تكون شاهدًا على التاريخ، جعل الفن لديه أداة لتوثيق كل ما يخص القضية الفلسطينية من نكبات ومعاناة، بل إن أعماله تعد جزءًا من حركة مقاومة ثقافية تهدف إلى نشر الوعي والحقائق بعيدًا عن مغالطات الاحتلال.
غالبًا ما ركز المالحي في لوحاته على توثيق معالم وأحداث معينة في فلسطين، من خلال الرموز والدلالات التي تحكي قصة نضال الفلسطينيين عبر الأجيال. إذ كانت اللوحات التي أنجزها تأخذ المشاهد في رحلة عاطفية وفكرية، تقوده لاكتشاف العديد من المفاهيم الهامة التي تندرج ضمن رؤية فلسطينية شاملة حول الأرض والهوية والحرية. من خلال استخدام عناصر بصرية معروفة في الثقافة الفلسطينية مثل شجرة الزيتون، البندقية، البرتقال، والصورة التقليدية للمرأة الفلسطينية، كان المالحي يحاول أن يبرز الجوانب الإنسانية العميقة وراء هذه الرموز ويعيد إحياء التراث الفلسطيني الذي يسعى الاحتلال دائمًا إلى محوه.

التعبير عن الشجاعة الفلسطينية
في أغلب أعماله، كان المالحي يعبر عن البطولة والفداء في النضال الفلسطيني. وهذا لم يكن مقتصرًا على تصوير الرجل المقاتل فقط، بل كان يشمل أيضًا المرأة الفلسطينية التي كانت، ولا تزال، تشكل عنصرًا أساسيًا في معركة التحرير، وفي تصوير هذا الجانبين، كان المالحي يسعى إلى إبراز قوة الشخصية الفلسطينية بأبعادها المختلفة. في لوحة “روضة وراء القضبان”، على سبيل المثال، صورت شقيقته روضة، رمزا للمرأة الفلسطينية التي لا تهاب السجون ولا الطغيان، بل تُظهر شجاعتها في مواجهة السجان. كانت يديها ممسكتين بقوة بالقضبان، بينما كان رأسها مرفوعًا نحو الأفق، في صورة تحمل فيها كرامتها وعزتها، تعبيرًا عن الصمود الفلسطيني في وجه قوى الاحتلال.

استثمار الرموز والدلالات الفنية
لم يكن المالحي فنانًا يعتمد فقط على تجسيد المشاعر عبر الألوان، بل كان دائمًا يربط عناصر لوحاته بالرموز التي تدل على التاريخ الفلسطيني. فالشجرة في لوحاته كانت تشير إلى ارتباط الفلسطينيين بالأرض، والبرتقال كان رمزًا لتاريخ فلسطين الزراعي، في حين كان المقاتل الفلسطيني يتجسد في أشكال متعددة، تؤكد على استمرار النضال الفلسطيني على مر العقود. الرموز كانت جزءًا أساسيًا من أدواته التي اعتمد عليها لنقل رسائله. ومن هنا، فإنّ الرمزية في أعمال المالحي لم تكن مجرد تفاصيل فنية، بل كانت مكملات أساسية للفكرة والرسالة التي أراد أن يبعث بها إلى الجمهور، سواء كان هذا الجمهور قريبًا أو بعيدًا.

لقد كان الفنان صالح المالحي عميقًا في استخدام الرموز التاريخية والثقافية التي كانت موجودة في فلسطين قبل الاحتلال وبعده. فشجرة الزيتون مثلًا كانت تمثل الأرض الفلسطينية التي قاومت محاولات الاحتلال تغيير معالمها. أما البرتقال الفلسطيني، فكان يحضر في العديد من لوحاته كرمز للزراعة الفلسطينية العريقة والمترسخة في الأرض الفلسطينية. هذه الرموز أضفت على أعمال المالحي عمقًا تاريخيًا وثقافيًا، مما جعلها تحمل رسائل متعددة من جهة توثيق التراث ومن جهة أخرى توثيق المقاومة.

استمرارية الرسالة عبر الأجيال
من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن أعمال المالحي لم تقتصر فقط على جيل محدد أو زمن معين، بل كانت أعماله بمثابة جسر يربط بين الأجيال المختلفة. فالفنان الفلسطيني لم يكن ينظر إلى نفسه كفنان معاصر فحسب، بل كان يرى أن أعماله يجب أن تظل مرجعية للأجيال القادمة التي يمكن أن تجد في لوحاته الوثائقية والإبداعية سردًا حقيقيًا لقصتهم. كما كان المالحي يرى في فنه وسيلة للحفاظ على الذاكرة الجماعية الفلسطينية التي كان الاحتلال يحاول تدميرها.

من خلال لوحاته، استطاع المالحي أن يعزز الهوية الفلسطينية، ويسلط الضوء على قضايا قد تغيب عن الأذهان بسبب الانشغال بالصراعات اليومية. فنجد في أعماله استحضارًا للحياة الفلسطينية بما فيها من تفاصيل صغيرة كانت تمثل جزءًا من الروح الفلسطينية التي لا يمكن لأي قوة أن تمحوها. في هذا السياق، كانت لوحات المالحي منبرًا ثقافيًا لرفض الزيف والتزوير الذي حاول الاحتلال أن يفرضه.

تأثير المالحي على الفن العربي والفلسطيني
لم يكن الفنان صالح المالحي مجرد فنان فلسطيني محلي، بل كان من بين الفنانين الذين أحدثوا تأثيرًا كبيرًا في الساحة الفنية العربية. فقد كانت أعماله بمثابة تحدٍ مباشر لفكرة الفن التقليدي الذي يركز على الجماليات فقط، بينما اختار هو أن يكون فنه فنًا يعبر عن معاناة شعبه وحقه في استرداد أرضه. من خلال أعماله، استطاع المالحي أن يربط بين الفنان الفلسطيني والفنان العربي الذي وجد في لوحات المالحي متنفسًا للتعبير عن همومه الخاصة بقضايا التحرر.

إن الفنون التشكيلية العربية لم تكن في يوم من الأيام مجرد تجريدات أو رسومات ترفيهية، بل كانت دائمًا جزءًا من معركة ثقافية وحضارية على مستوى الوطن العربي بأسره. ومن خلال أعماله، كان المالحي يساهم في تعزيز هذا الفكر الفني المقاوم، حيث كانت لوحاته بمثابة وسيلة ثقافية للوحدة بين الشعوب العربية في مواجهة التحديات المشتركة.

التأثير العاطفي للأعمال الفنية
يعد التأثير العاطفي للأعمال الفنية أحد الجوانب التي تميز أعمال المالحي. ففي كل لوحة كانت تعرض، كان الفنان يحرص على التأثير في قلب المشاهد وعقله على حد سواء. كان المشاهد يشعر بكل كلمة كان المالحي يحاول أن ينقلها عن الشعب الفلسطيني من خلال الألوان والرموز. وبهذا كان المالحي قد نجح في تحويل الفن إلى لغة لا تقتصر على النخبة الثقافية فقط، بل أصبحت لغة يفهمها الجميع، سواء كانوا من أبناء الشعب الفلسطيني أو من أي مكان آخر في العالم. كانت لوحاته بمثابة نافذة تكشف عن المعاناة، لكنها في ذات الوقت كانت تحتفظ بأمل التحرير والمقاومة.

لقد استطاع الفنان صالح المالحي أن يحقق إنجازًا فنيًا استثنائيًا في توثيق القضية الفلسطينية وإيصالها للعالم بلغة بصرية لا لبس فيها. لم يكن المالحي مجرد فنان، بل كان ناقدًا ومؤرخًا لشعبه، حاملاً على عاتقه قضية أمته من خلال الفن. من خلال أعماله، جعل المالحي القضية الفلسطينية حية في الذاكرة الجماعية، وجعلها جزءًا من التاريخ الفني الذي يظل مخلدًا إلى الأبد. لذلك، تظل لوحات المالحي بمثابة إرث ثقافي وفني لا يمكن إغفاله، وهي بمثابة شهادة على صمود الشعب الفلسطيني وأصالته، ومن خلال فنه أضاء الطريق للأجيال القادمة لتستمر في نضالها من أجل الحرية والعدالة.

البعد الوطني والاجتماعي
تميزت أعمال المالحي بالتركيز على القضية الفلسطينية كجزء من هويته الثقافية والفنية. صور معاناة الفلسطينيين من الاحتلال، التهجير، والتشريد، بالإضافة إلى توثيق الموروث الثقافي الفلسطيني المهدد بالاندثار.

تحديات النشر والاعتراف
واجه المالحي تحديات كبيرة بسبب القيود التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي، والتي حالت دون نشر أعماله على نطاق واسع. ومع ذلك، استمر في عرض لوحاته في معارض عربية ودولية، خصوصًا أثناء فترة عمله في الكويت.

نماذج من أعماله الفنية
ضاربة الودع” (1976)


الوصف الفني: تُظهر اللوحة امرأة كويتية ترتدي الزي التقليدي، وهي محاطة بعناصر رمزية تشير إلى التراث الكويتي.
التحليل الفني: استخدم المالحي الضوء والظل لتوجيه عين المشاهد نحو الموضوع الأساسي. الألوان تنسجم معًا لتعكس التراث الشعبي الكويتي.
الرسالة: تعكس اللوحة ارتباط الكويتيين بتراثهم وهويتهم البسيطة.
وهذه من أول لوحاته التي رسمها في دوله الكويت عام 1976 وكانت عنوانها ضاربة الودع أي ما يقصد بالحظ وهي امرأة بطلة الحدث الرئيسية التي يجب التعامل معها بصريًا وفكريًا لفهم الحوار الأدبي والفلسفي لهذه المعالجة الفنية كموضوع وفكره وقد شكلت اللوحة التباين بين الضوء والظل وبين الكتلة والفراغ لكي تركز عين المتلقي على المرأتين بلباسهما الشعبي المتميز فقط وهو محور الموضوع وقد جاء التكوين في اللوحة بنائي راسخ مكون من وحده واحده تتفاعل مع الفراغ وتتزن معه كما صور الضوء من مصدر محدد وهو الشمس وبشكل عام تتسم ألوان اللوحة بالتوافق والانسجام.
وقد وافق وجود الفنان صالح المالحي في الكويت الحادث المؤلمة التي حدثت وهي دخول العراق وغزو العراق لدولة الكويت ثم بعدها غادر الفنان صالح المالحي استقر المطاف له في المملكة الأردنية الهاشمية حيث اتخذ مسارًا جديدًا في الإبداع والتميز برسمه الرسوم الكاريكاتيرية المتميزة بشتى أشكالها وأنواعها وان تجع عشرات اللوحات الكاريكاتورية المستوحاة من القضية الفلسطينية التي كانت له محورًا أساسيًا في حياته لا يمكن الاستغناء عنه نهائيا مع دمج الواقع العربي ورأيه بالقضية الفلسطينية المحورية للأمة العربية كاملة.

الفن الفلسطيني: مقاومة عبر الألوان
يمكن القول أن الفن الفلسطيني هو أكثر من مجرد وسيلة للتعبير الفني؛ إنه أداة مقاومة. على الرغم من الظروف القاسية التي واجهها الشعب الفلسطيني على مر العقود، كانت الأعمال الفنية جزءًا أساسيًا من تمسكهم بهويتهم وثقافتهم. ومن بين هؤلاء الفنانين، نجد أن صالح المالحي قد لعب دورًا محوريًا في إبراز هذه المقاومة الفنية، حيث كان فنه يتحدث بلسان غير قادر على التحدث، ويروي قصة الشعب الفلسطيني الذي يخوض معركة الوجود. فكل لوحة من لوحات المالحي كانت بمثابة وثيقة تاريخية تحمل معاناة شعب كامل وحلمه في التحرير، كما كانت جزءًا من رواية أكبر تروي عن الأمل الذي لا يموت في قلب الإنسان الفلسطيني.

التأثير البصري والتعبيري في أعمال صالح المالحي
عند التطرق إلى أسلوب صالح المالحي الفني، نجد أن لوحاته كانت تنبض بالحياة. كان الفنان يوازن بين الألوان والظلال بطريقة تجسد المعاناة والأمل في آن واحد. فاختياره للألوان لم يكن عشوائيًا، بل كان ناتجًا عن دراسة معمقة للحالة النفسية والوجدانية التي تمر بها الشخصيات الفلسطينية في مختلف مراحل الصراع. الألوان الداكنة التي كان يكثر منها في لوحاته تعكس الحزن والمعاناة، بينما كانت الألوان الزاهية مثل البرتقالي والأخضر تعكس الأمل والتمسك بالحياة.

لقد استخدم المالحي الرمزية بمهارة، حيث كانت الرموز جزءًا من بناء لوحاته وتوجيه رسائلها. فقد كانت القلادة التي تحمل خارطة فلسطين في لوحات الفنان، مثلاً، تشكل رابطًا قويًا بين الفرد الفلسطيني وأرضه، مهما كانت الظروف. وهذا النوع من الرمزية كان له تأثير قوي في إيصال الرسالة التي أراد المالحي توصيلها: أن الأرض الفلسطينية هي جزء من الإنسان الفلسطيني، ولا يمكن فصلها عنه.

الفن كأداة لنقل الذاكرة الجماعية
من المعروف أن الشعب الفلسطيني كان يواجه محاولات مستمرة لطمس تاريخه وثقافته من قبل الاحتلال. لكن الفنانين الفلسطينيين، مثل صالح المالحي، كانوا يعملون بلا كلل لإعادة بناء هذا التاريخ، وإنشاء ذاكرة جماعية للأجيال القادمة. من خلال لوحاتهم، أصبح الفن أداة لحفظ التاريخ الفلسطيني، ليس فقط على مستوى الأحداث الكبرى مثل النكبة أو الاجتياح الإسرائيلي، ولكن أيضًا على مستوى التفاصيل اليومية التي تشكل حياة الفلسطينيين. المالحي كان يقف على مفترق طرق بين التعبير الفني والتوثيق التاريخي، وكان يعي تمامًا أهمية هذه الوثائق الفنية في تشكيل الوعي الفلسطيني.

هذه الأعمال الفنية كانت بمثابة رسالة من الماضي إلى المستقبل، حيث كانت تسعى للحفاظ على الهوية الفلسطينية وتوثيق معاناة الشعب الفلسطيني عبر الأجيال. كانت تلك اللوحات تحمل في طياتها أملًا في المستقبل، رغم ما تحمله من مشاعر حزن وألم. فالفنان الفلسطيني كان يسعى إلى أن يظل التاريخ الفلسطيني حيًا في الذاكرة الشعبية، ليشعر الفلسطينيون في مختلف أنحاء العالم بارتباطهم العميق بأرضهم وبتراثهم.

التحديات التي واجهها الفنان الفلسطيني
لم يكن الطريق أمام صالح المالحي مفروشًا بالورود، فقد واجه الكثير من التحديات في نشر أعماله وفي تلقي الدعم الذي يستحقه. على الرغم من أن أعماله كانت تحمل رسائل قوية وذات قيمة فنية عالية، فإن الوصول إلى الجمهور العالمي كان صعبًا في ظل التضييق على الفن الفلسطيني. كانت المؤسسات الثقافية الفلسطينية والعربية تعاني من قلة الموارد والدعم، وكانت محاولات المالحي للمشاركة في المعارض الدولية تصطدم بالحواجز السياسية التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي، إلى جانب قلة الدعم الفني في الدول العربية. ولكن ذلك لم يثنِ المالحي عن الاستمرار في التعبير عن قضيته، بل جعلته أكثر تصميمًا على أن يصل صوته وصوت شعبه إلى العالم أجمع.
الفن الفلسطيني وتحديات الترويج الدولي
يعد الترويج الدولي للفن الفلسطيني أحد التحديات التي واجهها الفنان صالح المالحي، حيث أن الفن الفلسطيني كان في كثير من الأحيان مغيبًا عن الساحة العالمية. وقد يفسر هذا بالتجاهل المتعمد من بعض الدول الكبرى التي كانت تسعى إلى تهميش القضية الفلسطينية لصالح مصالحها السياسية. لكن رغم هذه الصعوبات، كان المالحي وغيره من الفنانين الفلسطينيين يستخدمون فنهم كأداة لإيصال صوت الشعب الفلسطيني إلى أبعد مدى ممكن. وقد كان لهؤلاء الفنانين دور كبير في فتح نوافذ جديدة أمام العالم ليكتشف الثقافة الفلسطينية من خلال ألوانها ورسوماتها وأشكالها المتنوعة.

الفن الفلسطيني واحتياجات العالم العربي
على الرغم من كل التحديات التي واجهت الفنانين الفلسطينيين في الساحة الدولية، فإن الفن الفلسطيني كان يعد جزءًا أساسيًا من الهوية الثقافية العربية. فقد لعب الفن الفلسطيني دورًا كبيرًا في تحفيز العالم العربي على الاهتمام بالقضية الفلسطينية. وكان من خلال الفن يتم تعزيز الوعي العربي الشعبي بالقضية، بحيث أن الفن لم يكن مجرد وسيلة تعبير، بل أصبح مكونًا أساسيًا من مكونات النضال العربي ضد الاحتلال. الفنان صالح المالحي كان جزءًا من هذا التيار الواسع الذي استخدم الفن كأداة نضالية تُظهر التفاني والتمسك بالأرض والوطن.
صبرا وشاتيلا” 1984″

الوصف الفني: وثّق المالحي من خلال هذه اللوحة واحدة من أبشع المذابح التي تعرض لها الفلسطينيون.
التحليل الفني: اعتمد الفنان على ألوان قاتمة وخطوط متداخلة لتصوير الألم والمعاناة.
الرسالة: اللوحة بمثابة وثيقة إدانة لجرائم الاحتلال.

نشا وترعرعه في جمال الطبيعة الفلسطينية الخلابة بقريه طبيعية قريبه من مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدس الشريف فتنشق عبق الحضارات المتعاقبة في صغره وهو يلهو في حارات قريته ومدينة القدس الأثرية الإسلامية القديمة في جمالها واثارها وروعته قدسيتها بالمسجد الاقصى المبارك وكنائسها واصوات اجراسها الملهمة وروعه اسواقها وزخارف ازقتها ولون حجارتها وجدران المباني الجميلة والقديمة المليئة بالإرث القديم للحضارات السابقة ومن تلك المشاهد والصور التي ارتسمت في وجدانه وذاكرته تفتحت موهبته المبكرة التي لفتت الأنظار وراح فيما بعد يسعى إلى سقلها وتعزيزها بالمحاولات والممارسات المتكررة بالتعلم.
كما جاءت نشاه الفنان صالح المالحي الأولى في مرحله هامه من تاريخ شعبيه الذي خاض المعارك العديدة ضد الاحتلال الإنجليزي الذي عمل على توطين اليهود ومدهم ومساندتهم بالسلاح والمال والعتاد من أجل طرد شعبه والاستيلاء على ارضه وأرض فلسطين ووطنه فصارت حكايات الملاحم الوطنية التي يكتبها الثوار على كل لسان وفي كل مجلس ودار ولقد تأثر في بداية حياتية والتي شهدت الحرب العالمية الثانية بالجو الثوري الذي انتج العديد من المناضلين المرتبطين بالقضية الفلسطينية ونذكر امثالهم (عز الدين القسام- عبدالقادر الحسيني- إبراهيم أبودية – والشيخ فرحان السعدي)

كما عاش النكبة في عام 1948، وشهد أحداثها أمام عينيه، بما في ذلك المجازر التي ارتكبها الصهاينة المغتصبون ضد شعبه ووطنه. وقد عملوا على تهجير شعبه داخل فلسطين وفي الشتات. تأثرت طفولته بتلك الأحداث، وترسخت في وجدانه قضية بلاده. هنا نلاحظ أن الفن والسياسة كانا محور اهتمامه الأول، ولم يكن نظره إليهما يبتعد عن هذا المحور. ثم جذبته أفكار القوميين العرب، ثم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وظلت هذه المرجعيات الفكرية والسياسية ملازمة له طوال سنوات حياته.
كانت هذه المؤثرات المحيطة به نقطة تحول لاكتشاف موهبته، حيث بدأ في رسم خربشات على الجدران والدفاتر والكتب المدرسية. في دراسته في “بيت جاليه” بالإعدادية، تعززت موهبته. ثم أكمل دراسته الثانوية في عمان، وبدأ باستخدام قلم الرصاص والطباشير والأدوات التي تخص الرسم، مع اعتماد الألوان الزيتية التي وجد فيها وسيلة للتعبير عن انفعالاته وأفكاره، فكان يمزج بين ذاكرته وانفعالاته في عمل فني على سطح اللوحة. أنتج العديد من الأعمال الفنية الغزيرة بالأفكار والمؤثرات الداخلية والنفسية التي تنقل معاناة الإنسان الفلسطيني والمجازر التي ارتكبها الصهاينة بحق شعبه.
كما كان له تأثير كبير في رسم مشهد الهجرة الفلسطينية التي تأثر بها بشدة، فظل يكرر رسمها مرارًا. كما اهتم برسم العادات والتقاليد الفلسطينية، إضافة إلى رسم صور الفداء والتضحية من أجل الأرض والشعب. لخص حياة الفلسطيني في أعماله الفنية بأسلوبه الخاص، وقد كانت لوحاته موثقة وتشهد خصائص الفنان المشرد والمتأثر بالاحتلال الصهيوني والإنجليزي الذي عانى منه وذاق مرارته.
مرحلة الدراسة: في عام 1962، التحق الفنان صالح المالحي بالجامعة، حيث سافر إلى مصر لدراسة الفنون، وذلك لتشجيعه من قبل فنانين آخرين مثل الراحل إسماعيل شموط، تمام الأكحل، عبد الرحيم الواكد، وزكي شقفه. في معهد “ليوناردو دافنشي” في القاهرة، استطاع أن يكتسب الخبرات والمهارات المتقدمة في الفن، مثل استخدام الخط واللون والمنظور، وغيرها من عناصر الرسم الأكاديمي. كان محط أنظار أساتذته وزملائه الذين كانوا يتوقعون له مستقبلاً باهرًا في هذا المجال.

يذكر أن صالح المالحي كان مخلصًا لمهمته الفنية. لم يكن اهتمامه منصبًا على ماذا يرسم، بل كيف يعبر عن رؤيته بطريقة جديدة، تعكس همومه وآماله وتطلعاته نحو الانتصار والاستقلال والحرية لشعبه. في أثناء دراسته في القاهرة، كان يتجول في المدينة، يزور مكتباتها ويطالع الكتب الفنية المحلية والأوروبية، ويكتشف التيارات الفنية العالمية، بالإضافة إلى قراءة أعمال الفنانين المصريين المعاصرين. كما كان يتردد على متاحف ومعارض القاهرة التي عرضت تجارب فنية متنوعة.
كانت هذه المرحلة من أهم المراحل التي ساعدت على تشكيل شخصيته الفنية، بما تعلمه في معهد دافنشي الذي فتح له آفاقًا جديدة في الفن. وعند عودته إلى عمان، تأثر بنكسة عام 1967 ومعركة الكرامة في 1968، حيث بدأ بتطوير أسلوبه الخاص في الرسم التشكيلي. وتميزت أعماله بقوة التكوين وجدية التعبير ورصانة العمل.
كانت سنة 1968 حاسمة في حياة الفنان، حيث قدم خلالها تجارب فنية هامة، وتنوعت أعماله بين التعبيرية، السريالية، والتكعيبية، وصولًا إلى شخصية فنية متكاملة تجمع بين الأبعاد الاجتماعية، السياسية، والجمالية. استخدم الألوان الزاهية وجاذبيتها البصرية، مع تقنيات حديثة عالية الجودة كما يتجلى في لوحة “صرخة” لعام 2006.
الصرخة” 2006

لوحة عرس الأرض 1989


الوصف الفني: قصة الشعب الفلسطيني الذي كان يعيش حياة هادئة وهانئة ويمارس طقوسه اليومية من افراح واتراح قبل ان يجبر من قبل الصهاينة على الرحيل.
التحليل الفني: اعتمد الفنان على ألوان فاتحة ورموز شعبية بسيطة لتصوير الحياة اليومية.
الرسالة: تعبر هذه اللوحة. عن طيبة الحياة الفلسطينية اليومية
سفن العودة

وقد تميز الفنان صالح المالحي ببصمتين فنيتين جعلتا أعماله تختلف عن مئات الأعمال الفنية الأخرى، نذكرهما كما يلي:

يمتلك الفنان الفلسطيني صالح المالحي جميع سمات الحداثة والمعاصرة، وهو ما يظهر بوضوح في لوحاته الفنية..
كما نجد أيضًا بصمته الشخصية المتفردة بأسلوبه الذاتي المعروف على مستوى اللوحات التشكيلية عالميًا.
بذلك، استطاع الفنان القدير صالح المالحي أن يؤسس قاعدة ثابتة لنفسه، ومع مرور الوقت أصبحت هذه القاعدة منصة انطلاق وريادة. وقد كشفت أعماله عن سلوك فنان مثقف ومناضل، ملتزم بقضية شعبه، نابع من معاناته التي عاشها في جميع مراحل حياته. كانت تلك المعاناة واقعًا مؤلمًا لا يمكن فصله أو نسيانه.

عند التدقيق في لوحاته أو أعماله الفنية بشكل عام، نلاحظ أن أفكاره الداخلية تقترب مما يمكن أن يسمى بالروحانيات. فقد كان يعبر عن تمجيد الروح كما في الفلسفة الصوفية التي كان يقترب منها، مستلهمًا من أبيات شاعرها الأكبر ابن عربي، وهو مليء بالحلم والخيالات والاستحضارات الروحانية. كان يمنح المشاهدين فرصة للتأمل الطويل في العمل الفني، الذي كان يبتعد عن الملل ويغني الحواس بالثراء الفني. وقد ركز الفنان على ربط الفن بالمجتمع والتاريخ والحضارة، حيث اعتبرهم وحدة متماسكة لا يمكن الفصل بينهم.

الشيطان والملائكة 1997


كما نلاحظ عند التمعن في أعمال الفنان صالح المالحي أنه خاض جبهات عديدة في أعماله الفنية، ونتج عن ذلك تشكيل لوحاته لعدد من الجبهات مثل الجبهة السياسية والثقافية والفنية. هذا كان أحد الأهداف التي سعى لتحقيقها من خلال تجربته الشخصية في ستينيات القرن الماضي. استمرت أعماله الفنية، وما زالت حتى اليوم، تتسم بالجماليات المتعددة للمناهج الفنية التي كانت سائدة في تلك الفترة، بينما حافظت على خصائصها الواقعية وسماتها المميزة التي تبرز من خلال التأمل في أعماله.
خلال مسيرته الفنية، ركز الفنان على تصوير معاناة شعبه الفلسطيني، حيث نقل واقع الاحتلال الصهيوني وظروف معيشته اليومية بكل تفاصيلها، في لوحات مليئة بالحيوية والجمال. وفي بعض أعماله، صور الحب والفرح والخير الذي لا يمكن نسيانه في وطنه فلسطين، ليعكس في لوحاته فيما بعد مشهد الاحتلال بكل بشاعته، مصورًا معاناة الشعب الفلسطيني من تشرد وقتل وتهجير وسفك للدماء.

سجن عكا  محمد جمجوم وفؤاد حجازي 1971


في هذا العمل الفني، جمع الفنان معاناة الشعب الفلسطيني المحتل من جميع الجوانب، حيث تظهر قبور الشهداء والسجن الكبير الذي يضم مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالإضافة إلى رمزية شجرة الزيتون الكبيرة التي تمثل عظمة تاريخ الشعب الفلسطيني واصالته. كما أظهر في العمل أن العالم كله قد تخلى عن مأساة الشعب الفلسطيني، حيث نجد بعض الدول ترفع الراية البيضاء وتستسلم، بينما يهتم البعض الآخر بالوضع من بعيد دون أي تدخل.
ومن خلال دراسة سيرته الفنية، وللأسف الشديد، نلاحظ أن أعماله القيمة والكبيرة كانت بعيدة عن الاهتمام الإعلامي الفلسطيني والنقد العربي في وقت كانت فيه تجارب فنية تفتقر إلى الحد الأدنى من الإبداع قد طفت على السطح. ويرجع ذلك إلى أمرين: الأول أن الاحتلال الإسرائيلي وعملاءه كانوا يمثلون حاجزًا أمام نشر أعمال صالح المالحي، حيث كانت أعماله لا تُعرض في المجلات الرسمية أو المحلية أو الوطنية أو العالمية، خوفًا من تأثيرها وكشفها وحشية المحتل، وتعبيرها عن المأساة اليومية التي يعيشها الشعب الفلسطيني، من تشرد وقتل وتهجير وسفك للدماء.

مسافات مفتعلة 2003


أما الأمر الثاني فيعود إلى تجاهل المؤسسات الثقافية الفلسطينية لأعمال الفنان القدير صالح المالحي. ومن هنا نجد أن الفنان صالح المالحي قد تعرض لظلم كبير من خلال منع أو عدم نشر أعماله الفنية أو مشاركتها في المعارض الدولية. بل كان معظم جهده شخصيًا وعلى مستوى بسيط جدًا. نذكر هنا أنه عندما سافر إلى الكويت للعمل في مدارسها كمعلم لمادة التربية الفنية، شارك في العديد من المعارض والمؤتمرات التي كانت تُعقد في دولة الكويت. وكانت أعماله تتراوح بين الواقع الذي يعكس البلد الذي يعيش فيه، وبين لوحاته التي كانت تمثل قضيته المحورية، وهي القضية الفلسطينية. حيث كان ينشر لوحاته ليعرض ويوضح للناس معاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الصهيوني.

قصة شعب:1976

في إحدى مقولات الفنان صالح المالحي عن لوحته التي تحمل عنوان “قصة شعب”، قال: “لا لن يعيق مسيرتنا موقف الثوريين النظريين، وسيبقى الشعب العربي إلى جانب الشعب الفلسطيني في كفاح البطولة، وإن شعبنا يحفر تاريخه على صدور مقاتليه منذ 60 عامًا، لن يكون عرضه للفناء في هذا العالم.”
وقد عبر المالحي عن هذه اللوحة مستخدمًا الأسلوب التعبيري الرمزي التجريدي، محققًا إنجازًا تشكيليًا في غاية العفوية والجمال. لعل ما يلفت الانتباه في العمل هو صدقه وعفويته، ورؤيته للقضية الفلسطينية التي تكتسب بُعدًا إنسانيًا وحضاريًا في نفس الوقت. إنها حالات إنسانية تشترك في نفس القضية المأساوية، وتتحلى بالأمل الكبير الذي عبر عنه الرموز مثل المقاتل، الأطفال، البيوت، والساحات التي تحيط بالعمل الفني. هذه العناصر تتكامل لتشكل كتلة فنية متجانسة، توحد معناها في العمل ككل.

أراد المالحي أن يصور المأساة والأمل في الخلاص في آن واحد، وقد تجسدت هذه الحالة في عدة أشكال في اللوحة. والرسالة التي تؤكدها هذه اللوحة في النهاية هي ارتباط الإنسان الفلسطيني بأرضه ووطنه، وأنه لن يكون قابلاً للذوبان في أي مجتمع، ولن يقبل بأي بديل عن وطنه. كما صور الفلسطيني بكل مكوناته، على أنه شيء يلتف حول القتال والبندقية، وكأنها جزء لا يتجزأ من القضية المحورية وهي المقاومة ضد الاحتلال الغاشم.

عند التدقيق في العمل الفني، نلاحظ أن الفنان استخدم اللون وانكساراته وتدرجاته بشكل عفوي لإيصال بعد ثالث للمشهد الذي نراه أمامنا، مما يعمق المعنى البناء التشكيلي للوحة. وقد جسد المقاتل الشجاع الذي يحمل بندقيته في نضاله ضد الأعداء، حيث اختار له الفنان اللون الأبيض المخلوط بالأزرق، ليعكس معنى عميقًا أراد إيصالته للمشاهد. كما ركز الفنان على المقاتل بشكل لافت، مع تفاصيل تحمل معاني كثيرة، بينما كانت العناصر الأخرى في اللوحة تكمل المعنى الذي ركز عليه الفنان.
وعند التدقيق في العمل الفني نلاحظ ان الفنان استخدم اللون وانكساراته وتدرجاته المعبرة بعفويه بقصد الإيحاء للبعد الثالث

روضه ويافا 1976:

الوصف: صوّر الفنان صالح المالحي امرأة تتصدر مركز اللوحة، وفي مقدمة الصورة يظهر قارب وبيوت. وقد ربط هذه العناصر ربطًا محكمًا مع بعضها البعض. ثم زيّن الخلفية بشجرة برتقال مثمرة. ركّز الفنان على صورة المرأة، التي جسدها على أنها شقيقته “روضة”، واعتبرها رمزًا للمرأة الفلسطينية التي تعمل وتزرع وتربي الأولاد، وتبني وتكدح، وتبيع وتشتري. هي امرأة صامدة، مقاتلة ضد الاحتلال، ورمز للشجاعة والكرامة. وقد أظهر وميز “روضة” من خلال التنوعات اللونية، مع تسليط الضوء على وجهها وصدرها، لتُظهر رضاها وقوة شخصيتها. درس الفنان المساحات اللونية والضوء بشكل دقيق، ليبرز العناصر الأهم في اللوحة.
غلب اللون الأخضر ودرجاته في اللوحة، ثم أُستخدم البرتقالي والبني بدرجة أقل، مؤكدًا التناقض اللوني المتنوع باستخدام الأبيض وظلاله داخل التكوين العام للوحة. هذا التناقض أضفى نوعًا من الهدوء اللوني المنسجم مع المشهد المصوّر لـ”روضة”، التي تمثل التضحية، والإيثار، والطمأنينة، والسلام، والحب، الممزوجين بحب العيش الصعب والمقاومة ضد الاحتلال، ومعاناة الحياة بينه.

التفسير: عند التمعن في العمل الفني، يمكن للمشاهد ملاحظة العناصر الواضحة ثم مزجها لفهم المفهوم الذي أراده الفنان. يجسد الفنان شخصية “روضة” ويحولها إلى أيقونة للمرأة الفلسطينية التي لا تمل ولا تكل. هذه الصورة تمثل المرأة الفلسطينية في صمودها وكفاحها.

التنبؤ: يُمكن للمشاهد فهم المعنى والرمزية التي أراد الفنان إيصالها من خلال جمع العناصر الداخلية للوحة ودمجها بشكل متقن. كل عنصر في اللوحة يعمل مع غيره ليعكس الرسالة التي يسعى المالحي لنقلها، مما يجعل العمل الفني متميزًا وجذابًا، ذا معنى ورمزية عميقة.

الحكم: نرى أن الفنان صالح المالحي، من شدة حبه للقضية الفلسطينية وتعلقه بها، قد جسّد كل ما يمكن تجسيده في هذا العمل. كان استخدامه للمرأة في صورة شقيقته “روضة” تجسيدًا واقعيًا ورمزيًا في آن واحد. وقد قال عن عمله الفني أن “روضة هي موناليزا فلسطين”. من خلال هذه اللوحة، منحها العمق الإنساني والصياغة المتجددة، حيث أظهر البناء المتكامل للعناصر التي توحي بعظمة المرأة الفلسطينية، وعلو شأنها ومكانتها في المجتمع الفلسطيني.

روضة وراء القضبان 1976:

الوصف: يتضح من العمل الفني أن الفنان صالح المالحي أراد أن يظهر المرأة الفلسطينية بشجاعتها وصلابتها، وعدم خوفها حتى في السجن. فصوّر “روضة”، شقيقته، كرمز للمرأة الفلسطينية، مُظهِرًا ثباتها، حيث تظهر يداها ممسكتين بقضبان السجن، ورأسها مرتفع للأعلى، وعيناها مفتوحتان بكل فخر وعزة. وقد ربط الفنان بين المقدمة التي تمثل السجين والسجان، وبين الخلفية التي تمثل “روضة”، مع شجرة البرتقال المثمرة بالأعلى، مما يوحي بالأمل والتعلق بالمكان، إضافة إلى التضاريس التي تميز المكان. وبذلك، يأتي البناء التشكيلي ليخدم جماليات اللوحة ومحتواها مع التركيز التعبيري على وجه “روضة”.
كما أظهر الفنان المالحي الزي التقليدي للمرأة الفلسطينية، مع الحجاب الأبيض، ليدل على رمزية هذه العناصر وأهميتها، حيث تعكس ارتباط “روضة” بأصل المكان. ثم نرى القلادة في منتصف صدر “روضة”، التي تحمل خارطة فلسطين باللون الأحمر، مما يبرز العنصر الأهم في اللوحة ويربطه ببقية العناصر في التكوين، لتكون جميع العناصر متجانسة ومتداخلة مع بعضها البعض.
التفسير : أراد الفنان صالح المالحي من خلال هذا العمل الفني أن يُظهر صلابة المرأة الفلسطينية. فـ”روضة” في اللوحة تُمسك الحديد بأيدٍ قوية، وهي تقف شامخة أمام سجنها، مظهرة شجاعة أكبر من سجانها وأعلى منها من حيث التحرر. كما يلاحظ المشاهد أن كل الأشكال التعبيرية التي أراد الفنان إظهارها أصبحت ممكنة من خلال استخدامه للخط اللامتناهي، الذي يعكس استمرارية الحياة وحركتها الدائمة، مما يبعث شعورًا بالأمل والتفاؤل. الألوان التي استخدمها المالحي تكشف عن براعة الفنان وعمقه التعبيري، مما يوضح للمشاهد تفاصيل دقيقة عبر البعد الخيالي واللامتناهي. وتركز اللوحة على تصوير شجاعة وقوة “روضة” كرمز للمرأة الفلسطينية المجاهدة، المربية، الصابرة، والمثابرة.

الحكم: سخر الفنان صالح المالحي جميع العناصر الفنية داخل هذا العمل الفني باستخدام الرموز التوضيحية والسيميائية لدلالات عميقة. من خلال هذه الرموز، يظهر تأثير المرأة الفلسطينية، كما يعرضه الفنان للمشاهد عبر اللوحة الفنية. عند النظر في الزي التراثي الفلسطيني، والقلادة التي تحمل خارطة فلسطين، بالإضافة إلى الخلفية التي تظهر شجرة البرتقال المثمرة (التي ترمز إلى مدينة حيفا في فلسطين)، نلاحظ أن الفنان قد أدهشنا بتشابك العناصر الرمزية بطريقة مبدعة للغاية. هذه العناصر تداخلت بشكل متناسق ومتجانس لتعطي اللوحة قوة وجمالًا، مما يجعلها من أعظم الأعمال الفنية التي طرحها المالحي، والتي سلط الضوء من خلالها على القضية الفلسطينية بتفاصيلها الكثيرة.
لقد اهتم الفنان بتوظيف الرموز الحيوية التي تثير الإشارة والايحاء، فالعناصر داخل العمل تحمل دلالات ورموزًا تشرح الكثير مما قد يعجز عن شرحه الكلام. من خلال لوحاته، رسم المالحي حلمه وحسه الفني، مُغرقًا في رسم لوحات مشبعة بروح فلسفية، متعانقة مع مدلولات رمزية متعددة ومتنوعة، لكنها تتقاطع في بؤرة واحدة: القضية الفلسطينية. وهذا يُظهر كل شيء يهدف إلى نشر الوعي وتوعية العالم بالقضية الفلسطينية.
كما وظف المالحي الرموز والمعاني والدلالات لتصوير مختلف عناصر الشعب الفلسطيني، مثل الفلاح، المقاتل، المرأة، الطفل، الطالب، إضافة إلى الرموز الأخرى كالأرض، حقول القمح، شجرة الزيتون، والعمارة الفلسطينية التراثية. كل هذه العناصر مجتمعة تروي قصصًا عن الأفراح والأتراح، والمناسبات الدينية والوطنية، وعن المجتمع الفلسطيني الذي يرتبط بحضارته القديمة، ويتجدد باستمرار حتى يومنا هذا.
لوحات حبر على زيت

المرضعة 1983

شجرة الشهيد 2002

الخاتمة
من المؤسف أن نرى أن العديد من الفنانين في الوطن العربي قد تعرضوا للظلم والغبن في حياتهم الفنية، ولم يُعطوا حقهم الكامل في التعريف بأعمالهم والاعتراف بمساهماتهم العميقة في تطوير الفن على مستوى عالمي. ورغم الإبداع الكبير الذي قدموه، والذي يتفوق في العديد من الأحيان على الفن الأوروبي من حيث القيمة الفكرية والتاريخية، فإنهم لم ينالوا من التقدير ما يستحقون. فالفنان صالح المالحي، على سبيل المثال، كان واحدًا من هؤلاء الفنانين المبدعين الذين تعكس أعمالهم الروح الوطنية العميقة، والقيم الإنسانية التي تتجاوز حدود الزمان والمكان.

كان المالحي يرى في فنه رسالة عظيمة، ليس فقط تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، بل تجاه العالم أجمع. فالفنان لم ينظر إلى قضيته كأمر شخصي أو مجرد حادث تاريخي عابر، بل جعل من القضية الفلسطينية قضية قومية وإنسانية شاملة، تتطلب أن يتم إظهارها في كل مكان وفي كل وقت. ومن هنا نجد أن أعماله الفنية كانت تشكل وثائق تاريخية بصرية لها من القوة والصدق ما يجعلها تتجاوز حدود الزمن. فهي ليست مجرد لوحات فنية عابرة، بل هي توثيقات دقيقة تروي تفاصيل الحروب والمآسي، الأفراح والآلام، الآمال والهزائم. فكل عمل من أعماله كان بمثابة رسالة متجددة تحمل في طياتها معاناة شعب كامل، وتطلعاتهم للحرية والكرامة.

أحد أهم عناصر تميز أعمال المالحي هو قدرته الفائقة على توظيف الرموز والدلالات الفنية التي تسلط الضوء على القضية الفلسطينية. كانت لوحاته مليئة بالرمزية، تتنقل بين التراث الفلسطيني، الطبيعة، والواقع الاجتماعي للشعب الفلسطيني الذي يعاني من الاحتلال. وقد أسس من خلال لوحاته ما يمكن أن نطلق عليه “اللوحات التي تقودك إلى فلسطين”، فهي لا تقتصر على مجرد إظهار صور الحياة اليومية للمواطن الفلسطيني، بل كانت تحمل بين طياتها رسائل عميقة تكشف عن محاولات الاحتلال لطمس هوية الشعب الفلسطيني وتغيير الحقائق التاريخية. كانت تلك اللوحات بمثابة صرخات في وجه العالم، تدعو الجميع إلى التوقف أمام الحقيقة والتفكير في الظلم الذي يتعرض له هذا الشعب.

إحدى الرسائل الجوهرية التي حملها الفنان صالح المالحي في لوحاته هي الكشف عن حجم التزييف الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي، الذي يحاول أن يسلخ الأرض الفلسطينية عن هويتها ويضعها تحت سيطرته. كان المالحي في كل لوحة يقدم شهادة جديدة، وكان فنه بمثابة أداة قوية لنشر الوعي وفضح كذب الاحتلال وتضليله. كانت لوحاته تفضح هذا السلوك التعسفي وتنقل صورة حية لما يحدث على الأرض الفلسطينية من انتهاكات وحروب ومحاولات لطمس التراث الفلسطيني. ومن خلال هذا، كان المالحي لا يهدف فقط إلى سرد التاريخ، بل كان يسعى إلى تحفيز العالم على التفاعل مع الواقع الفلسطيني والتفكير في آثاره الطويلة الأمد على المنطقة وعلى الإنسانية جمعاء.

أما عن الفنان صالح المالحي نفسه، فهو لم يكن مجرد فنان عادي، بل كان شاهدًا حيًا على الأحداث التي مر بها الشعب الفلسطيني، وكانت حياته الشخصية مشبعة بالتجارب الصعبة التي جعلت منه فنانًا صاحب رؤية واضحة وعميقة. فكل عمل من أعماله كان يعكس إيمانه العميق بالقضية الفلسطينية وحرصه على نقل هذه القيم من خلال لغة الفن إلى الجميع. لم يكن المالحي مجرد فنان يرسم من أجل الفن فحسب، بل كان في كل لحظة من لحظات عمله الفني يشعر بأنه يؤدي واجبًا قوميًّا وإنسانيًّا. وقد دفعته هذه المشاعر إلى أن يظل وفياً لقضية وطنه في جميع أعماله، رافضًا أن يضع فنه في دائرة الانغلاق على ذاته أو محيطه المحلي.

في الوقت الذي كان فيه الاحتلال يحاول أن يُنكر تاريخ الشعب الفلسطيني ويشوه صورته أمام العالم، كان المالحي يقاوم هذا التزييف من خلال لوحاته التي كانت تتحدث بلغة صادقة عن معاناة الشعب الفلسطيني. فالفنان لم يقتصر في توثيقه على مجرد الحروب أو العنف، بل تناول كل جوانب الحياة الفلسطينية، من الفرح والأمل إلى الحزن والوجع، وقدم مشهدًا فنيًا متكاملاً يعكس واقعًا مستمرًا من الألم والأمل في ذات الوقت. وهذا ما جعل لوحاته ليست فقط موجهة للمعنيين بالقضية الفلسطينية، بل كانت دعوة للعالم كله للتأمل في هذا الصراع المستمر من أجل الحرية.

لم يكن الفنان صالح المالحي فقط يعمل على توثيق التاريخ، بل كان يسعى أيضًا لتقديم رسائل متجددة من خلال أعماله الفنية. كانت لوحاته بمثابة أدوات لنشر الوعي والتثقيف، حيث استطاع من خلالها أن يكشف بذكاء عن الروح الوطنية لشعبه، ويبرز شجاعة المرأة الفلسطينية ودورها الفاعل في المقاومة، وكذلك معاناة الأطفال والشباب الفلسطيني الذين يتعرضون للقمع والاضطهاد بشكل يومي. فكل عنصر من عناصر لوحاته كان يتناغم بشكل مثالي مع العناصر الأخرى ليشكل رسالة قوية لا يمكن تجاهلها.

وفي ظل هذه الإنجازات، نجد أن الفنان صالح المالحي قد خدم قضيته بطريقة لا يمكن لأحد أن يستهين بها. فقد برع في استخدام الفن كوسيلة توثيقية ونضالية في الوقت ذاته، متمكنًا من إيصال رسائل قوية إلى العالم أجمع. كانت أعماله الفنية بمثابة جسر يربط بين الماضي والحاضر، بين الإنسان والأرض، بين الهوية والذاكرة. هذه الأعمال تجسد ليس فقط إبداع الفنان، بل أيضًا نضاله المستمر في مقاومة محاولات الاحتلال لطمس هوية فلسطين وشعبها.

وفي الختام، لا يمكننا أن نفي هذا الفنان العظيم حقه في التقدير والإشادة بما قدمه من أعمال لا تقدر بثمن، التي خلّدت قضية فلسطين وحافظت على ذاكرتها حية في قلوب الأجيال القادمة. فقد كان الفنان صالح المالحي، من خلال فنه، شاهدًا على مرحلة تاريخية مليئة بالتحديات، كما كان مرشدًا للأجيال الجديدة ليتعرفوا على مآسي شعبهم، وللتأكيد على أن القضية الفلسطينية ليست مجرد حدث تاريخي عابر، بل هي قضية حية تستحق أن يُسلط عليها الضوء في كل زمان ومكان.

من خلال أعماله، استطاع أن يجعل من فنه أداة مقاومة، وكان بمثابة مرشد روحي يضيء الطريق لأولئك الذين يسعون لفهم القضايا الكبرى للعالم العربي وفلسطين على وجه الخصوص. وبهذا، تبقى أعماله خالدة، تتحدث باسم الأجيال القادمة، وتظل مشهدًا حيًا من معركة الفن مع الاحتلال والتزوير والتاريخ المزيف.

وختامًا، لا يمكننا إلا أن نقول إن الفنان صالح المالحي قد ترك إرثًا فنيًا عظيمًا، ومساهمة تاريخية لا تقدر بثمن في دعم القضية الفلسطينية وإيصال صوت الشعب الفلسطيني إلى العالم بأسره. هذا الإبداع الفني سيظل علامة فارقة في تاريخ الفن العربي، ولا شك أن الأجيال القادمة ستظل تذكره بكل فخر واعتزاز لما قدمه من توثيق فني سيكون مرجعًا هامًا في مسيرة النضال الفلسطيني، متمنين لفلسطين الحرية والاستقلال.
المراجع:
“صالح المالحي” لغازي أنعيم.. لوحة منسية تقود إلى فلسطين
https://al-akhbar.com/Literature_Arts/366373/posts
معرض المالحي في “جلعد”.. ملحمة الأرض والإنسان – جريدة الغد.
الطليعة العددان 1017-1065
استحضار المكان – دراسة في الفن التشكيلي الفلسطيني المعاصر.


باحث في مجال التصميم البصري.


مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى