إذاعة وتليفزيون

رشا كمال :”البشاير”..جدلية المظاهر والجوهر في عالم متغير.

رشا كمال ★

إذا ما تأملنا في الفكرة التي يتمحور حولها مسلسل البشاير، عن التصادم بين عالمين مختلفين، كل عالم منهما لديه أفكاره وطباعه، وتصوراته المسبقة عن الآخر، التي قد تكون مغلوطة ومبنية على جهل في أحيان كثيرة
يمثل موضوع التصورات الخاطئة النص التحتي لهذا العمل التلفزيوني، مانحًا إياه ثقلًا دراميًا يعكس الأوضاع الاجتماعية، والثقافية والسياسية، وينتقل بالنص من العام(حال المجتمع) إلى الخاص (الأفراد)، ويعكس على نطاق أوسع ضمنيًا طبيعة تلقي مُشاهد التلفزيون، والحد الفاصل بين الحقيقة والخيال.

وبالحديث عن التصورات أو بالأحرى التمثلات الخاطئة، اول ما يتبادر إلى الذهن هو كهف أفلاطون، هذا الكهف الذي ضرب به أفلاطون مثالًا ليقدم نظريته حول المُثل والتمثلات الخاطئة المبنية على آراء قاصرة تتسم بالجهل
ويضرب أفلاطون مثاله عن مجموعة من الأسرى مقيدين داخل كهف مظلم، ولا يرون سوى ظلالًا تظهر على جدار الكهف. يعتقد هؤلاء الأسرى أن هذه الظلال هي الواقع الحقيقي، ولكن عندما يتم إخراج أحد الأسرى من الكهف، يرى العالم الخارجي المشرق، ويدرك أن ما كان يراه داخل الكهف ليس سوى وهم والأسرى: يمثلون البشر الذين يعيشون في العالم المادي، وهم يعتقدون أن ما يروه هو الحقيقة المطلقة.
الظلال: تمثل الأشياء المادية التي هي مجرد نسخ عن الأشكال المثالية.
العالم الخارجي: يمثل العالم المثالي حيث توجد الأشكال المثالية الحقيقية.
إخراج الأسير: يمثل عملية الفلسفة التي تسعى إلى إخراج الإنسان من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة.

يبدأ وحيد حامد الأحداث ببطله أبو المعاطي القادم من الخارج، بعد خمسة عشر عامًا بعيدًا عن أهله وأرضه وقريته، يعود ليجد أن الفلاحين في قريته قد أهملوا أرضهم، وفضلّوا الجلوس والراحة أمام منازلهم، والتنعم باستهلاك السلع الغربية، ومشاهدة التلفاز في المقهى. حتى أهله كان لهم نصيب من التصورات الخاطئة بعدما أصابتهم خيبة الأمل من عودته خالي الوفاض، وهم من عاشوا على أمل إحضاره للتلفزيون الملون، والفيديو، والمروحة مثل حال بقية أبناء القرية المغتربين في الخارج.

بُنيت هذه التمثلات على النزعة الاستهلاكية التي طالت الفلاح، وحتى المواطن العادي في فترة الثمانينيات من القرن الماضي، وهي الفترة التي توغلت فيها النيوليبرالية، وتوحشت الاقتصاديات الكبرى، وجرى استهداف الأشخاص وتحويلهم إلى ماكينات استهلاكية للسلع، وكان لمصر نصيب من هذا الوحش الاقتصادي بعد فترة الانفتاح الاقتصادي في فترة السبعينيات، وتجلت آثاره السلبية على المواطن أيا كانت طبقته الاجتماعية في الثمانينيات – الفترة التي تتناولها أحداث المسلسل- فإتجه الفلاح البسيط إلى هجرة الريف والتوجه إلى المدن الكبرى، أو البحث عن فرصة للسفر للخارج لتحسين مستوى معيشته، وكانت تتمثل آثار الثراء المزيف على العائدين من عودتهم محملين بالسلع والمنتجات الغربية.

يلقي الكاتب الضوء على تلك الآثار السلبية على أهل الريف من خلال شخصية أبو المعاطي الذي كان بمثابة الشخص الذي تنعم بنور الإدراك والوعي، فسعى إلى إخراج أهله ايضا، حتى يروا الحقيقة مثله ويعودوا إلى السريرة الطيبة لأهل الريف البسطاء، ولم يقتصر التنوير الذي قاده أبو المعاطي على حدود أسرته فحسب، بل امتد أيضًا الي البدو، الذي تصارع معهم للحفاظ على ارضه، ثم هداهم إلى طريق الزراعة بدل تصوراتهم الخاطئة ورضاهم بحياة الرعي التي ألفوا عليها آباءهم وأجدادهم.لكن التنوير الحق الذي ساهم فيه أبو المعاطى، كان تعافي سلوى نصار؛لأن رحلة تعافيها والتغير الذي لحق بشخصيتها حملوا المعنى الحقيقي لعنوان المسلسل (البشاير)، وتعريف كلمة بشائر في معجم اللغة العربية هو أصوات الدفوف، وجمع بُشارة وبَشرة، والبشارة هي ما يُبشَّر به من أخبار مفرحة، وهي العطيَّة التي تُعطى للمبشَّر، والبشائر هي طلائع الأمور وأوائلها، يقال بشائر الصبح وبشائر الزرع.،والبشاير عند الفلاح أو المزارع هي بداية الطرح.

في اللحظة التي تقاطعت فيها دروب أبو المعاطي وسلوى، مشهد الحادث الذي تسبب فيه أبو المعاطي عن دون قصد، استغل الكاتب هنا رمزية الموت أي بمعنى الموت الرمزي للسلبيات في شخصية سلوى، والتي تغيرت، وتعافت منها تدريجيًا أثناء أقامتها مع عائلة أبو المعاطي، كما هناك أيضًا نصيب، ومعادل بصري رمزي للتخلي عن التمثلات الزائفة وهو اثناء انقاذها وإخراجها من المياه بعد الحادث، تخلص أبو المعاطي وشقيقه من الشعر المستعار الذي كانت ترتديه سلوى، وطاف على صفحة المياه بعيدًا عنها، كانت لقطة رمزية ركز عليها المخرج لثوان معدودة للدلالة على أنه قد خلع عن هذه الشخصية الهيئة المستعارة، وعاد بها لسجيتها البسيطة، سلوى نصار آتية من عالم المظاهر والتمثلات الزائفة، عالم السينما القائم على الخيالات والظلال لتصوير صورة عن الواقع، وعادت إلى عالم أكثر بساطة، تعافت فيه مما خلفته هذه التمثلات على حياتها، ربما لهذا منحها الكاتب وحيد حامد ثلاثة أسماء قدمت بها نفسها للعائلة، اولهم حنان، واسمها الحقيقي عائشة واسم الشهرة سلوى، والأسماء الثلاثة لهم من المعاني ما يدل على الرأفة، والحياة، وكل ما يسلى عن الكرب والهموم والأحزان، وأهمهم اسمها الحقيقي الذي باحت به لأبي المعاطي، عائشة أي (ذات الحياة) التي عاشت مرة أخرى، وهي فعلًا على حسب معنى اسمها كانت بمثابة الحياة الجديدة التي دبت في قلبه.

بعدما استعادت عافيتها وأدركت أهمية البساطة في حياتها، جاء التغير الذي طرأ على شخصيتها منطقيًا مع عودتها مجددًا إلى عالم المظاهر، لكنها هذه المرة كانت محملة بهدف واضح تسعى لتحقيقه، سواء في فنها أو في حياتها الخاصة.

ينتقل المؤلف في تناوله عن التصورات الزائفة بين الخاص والعام، فالأفراد في عالم المسلسل لهم نصيب كبير من تصوراتهم الخاطئة، بناء على الأحكام المسبقة التي يكونها كل فرد عن الآخر سواء بناء على مظهره، او طبيعة عمله، أو الوسط الاجتماعي أو الثقافي الذي ينتمي إليه
فمثلًا نجد بعد معرفة عائلة شمروخ بحقيقة مهنة سلوى، تقول الحاجة بهية لولدها أبو المعاطي.
بهية : بس يا ابني دي محترمه، وباين عليها بنت ناس
أبو المعاطي: ومين قالك بس يا أماه، إن الممثلين دول مش ولاد ناس.
بهية: حسب السمع.
أبو المعاطي: ااه، والله ما فيه حاجة موديانا في داهية غير السمع ده، سبحان الله نسمع الكدبه من هنا، ونبقى عارفين أنها كدبه، ونفضل نعيد ونزيد فيها، لغاية ما تبقى حقيقة.

بينما يبرز الاستغلال الأبرز للكاتب لموضوع التصورات الزائفة في تعميمها على نطاق أوسع موضحًا الفرق بين عالم السينما ودراما التلفزيون بالنسبة لعملية التلقي.
تناول وحيد حامد حبكة رجل يقابل امرأة في عدد من أعماله السينمائية والتلفزيونية والإذاعية، فمثًلا في السينما هناك فيلم طائر الليل الحزين، وفيلم الإنسان يعيش مرة واحدة، وكلا المثالين السابقين لا يقتصر تناولهما من الجانب الرومانسي فحسب بل ينسج اللقاء في سياق أكبر منه في الأحداث، لكن من الملاحظ أن الكاتب منح نهايات سعيدة لهذه الافلام السنمائية، على عكس الدراما التلفزيونية التي ألفه مثل فيلمه التلفزيوني أنا وأنت وساعات السفر، وكذلك مسلسل البشاير، اتسمت النهايات التي كتبها لهذه الحكايات بالمنطقية، وغلبة الواقع والعقل على الحب والخيال.

وهذا مراعاة من جانب الكاتب لطبيعة الدراما التلفزيونية وسماتها، فهي وإن كانت تصور الواقع، فهي لا تجنح للخيال مثل السينما، يستمتع المُشاهد بالعمل، ليجرى عليه ما يجرى على المشاهد السينمائي من تطهير بسبب العمل التراجيدي أو تغيير بسبب تأثير العمل الفكاهي أو الملهاة، لكن يفضل المُشاهد التلفزيوني أن يرى واقع يشبه واقعه حتى يتماهى معه، ويخرج منه بعبرة ورسالة وهدف في معظم الأحيان.
ومسلسل البشاير أتى بنجوم الصف الأول في السينما، مثل الفنان محمود عبد العزيز، والفنانة مديحة كامل وهم في أوج شهرتهم وقت إنتاج المسلسل، وقدم بهم عمل يضع التمثلات والنهايات الحالمة السعيدة التي اسعدوا بها الكثير في أفلامهم السينمائية في مواجهة أمام الواقع الذي يقدمه التلفزيون.

ويتضح هذا جليًا في واحد من أهم وأبرز الحوارات في المسلسل التي دارت بين أبو المعاطي ، وأحمد أفندي، عندما تمكن الحب من أبو المعاطي، وحاول أحمد أفندي توجيه النصح له لكي يفيق من وهم الحب، كالتالي:
أحمد افندي: أبو المعاطي، انسى.
كأنك كنت بتتفرج على فيلم، طول ما الفيلم شغال وهي قدامك أهي في بالك، لكن لما الفيلم بيخلص والسيما بتنور، ويظهر قشر الفول السوداني، وقشر اللب، وعقاب السجاير تحت الرجلين، وبنطلع لزحمة الشارع، أهو بننسى الفيلم واللي فيه كمان، أبو المعاطي، الفيلم اللي كنت بتتفرج عليه خلص.

أبو المعاطي: أنا أخدتك على هواك، وسمعت كلامك، لكن اللي حصل ده مكنش فيلم سيما، ينتهي لما السينما تنور، فرق كبير أوي يا أحمد بين الحقيقة والخيال، الست دي عاشت معانا يا أخي، فيه فرق كبير أوي، بين الصورة، وصاحبة الصورة يا أحمد، الست دي في السيما صورة، صورة بتتحرك وبتتكلم، لكن وهي عايشه معانا يا أحمد كانت ست، ست بحق وحقيق، كانت روح، عارف يعني إيه روح يا أحمد، يعني حياة، اسمع يا أحمد يا جوز اختي، الفيلم بتاعي أنا، عرض مستمر.

توضح الجمل الحوارية السابقة حقيقة التصورات الزائفة، والفرق بين طبيعة وتأثير فن السينما عن تأثير فن التلفزيون، سندرك أن العمل التلفزيوني أو الدراما التلفزيوني تحاول في جوهرها التمعن فيما وراء بريق الصورة لاستشفاف الحقيقة، فها هو عمل تلفزيوني بنجوم سينمائيين، يقدمون عملًا يلقي الضوء على التصورات الزائفة وآثارها السلبية على الفرد والمجتمع، مقدمًا تصورًا واقعيًا للحياة، وهكذا تمكن الكاتب من استغلال نوع الوسيط الذي يقدم عمله من خلاله، وراعى متطلباته وأخلاقياته، وقدم عملًا هادفًا يحمل معاني جميلة عن الهدف في الحياة، والحلم، والغاية من الكد والعمل، والأهم الكشف عن الوجه الآخر للمُثل المزيفة.يمكن القول إن مسلسل “البشاير” ليس مجرد دراما اجتماعية، بل هو عمل يتأمل في صميم العلاقة بين الحقيقة والخيال، وبين التصورات الزائفة والواقع. من خلال شخصية أبو المعاطي، الذي مثل نور الإدراك، وشخصية سلوى نصار، التي خاضت رحلة تعافي من زيف المظاهر، أضاء الكاتب وحيد حامد على الفجوة التي قد يخلقها الجهل والأحكام المسبقة، سواء على المستوى الفردي أو المجتمعي.

استطاع المسلسل أن يوظف عناصره بذكاء، ليضع المُشاهد أمام مرآة حقيقية تعكس أبعاد التصورات الخاطئة، مشددًا على أهمية الوعي والعمل كأدوات للتغيير. وبهذا، “البشاير” يقدّم رسالة تتجاوز حدود الحكاية، داعيًا إلى النظر في عمق الأشياء، والتخلي عن الزيف، والبحث عن جوهر الحياة في بساطتها وحقيقتها.


★ناقدة ـ مصر.

 

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى