تشكيل

د أحمد جمال عيد:ما الذي يجعل اللوحة العربية تتحدث بلسان غريب ؟!

د.أحمد جمال عيد

في زوايا الصمت المغموسة بألوان الحيرة، هناك تلك اللوحات التي تتسلل من قلوب الفنانين العرب، لوحاتٌ تملك طاقةً غريبة، غامضة، وصوتًا يتحدث بلسانٍ أشبه بلغات الأحلام. بين أحمرٍ يصرخ وأزرقٍ يهمس، نجد أنفسنا أمام عوالم تخطفنا من أرض الواقع إلى فضاءات لا تحمل قانونًا ولا تتبع زمنًا. فكيف يُبدع الفنان العربي في نقلنا إلى هذه العوالم؟ ما السر وراء تلك اللوحات التي تجسد واقعًا غير مألوف، والتي تحوّل الحلم إلى ألوان والخوف إلى خطوط؟

الحلم والحقيقة: فنون تتجاوز الزمان والمكان

عندما نقف أمام لوحة لفنان كـ شاكر حسن آل سعيد، نجدنا أمام انعكاسات فلسفية تتجلى في كل خط وتفصيل. في لوحاته، هناك مزيج بين الماضي والحاضر، بين ما هو مألوف وما هو خارق للمألوف. شاكر، كأحد رواد الفن العراقي الحديث، نقل لنا عبر أعماله رؤية ميتافيزيقية تجعل المتلقي غارقًا في تساؤلات فلسفية. في إحدى أشهر لوحاته التي تحمل عنوان “الغياب”، تتجسد الفراغات كمساحات صامتة، لكنها مليئة بعمق روحي وروحانية. يسألنا شاكر: ما الذي يعنيه الوجود حقًا، وما قيمة الغياب؟ هل اللوحة التي تعجّ بالألوان هي الحقيقية أم أن فراغها هو حقيقة الروح؟

الديك الفصيح شاكر حسن ال سعيد



تابات الجدار شاكر حسن ال سعيد

غموض اللغة الفنية: عندما تنطق اللوحة بالشعر والصمت.


لا يُعد الغموض في الفن التشكيلي العربي صدفة، بل هو انعكاس للواقع المعقّد والمتداخل للمجتمعات العربية. لنأخذ مثالاً آخر، الفنان المصري حامد ندا، الذي اشتهرت لوحاته بأجواءٍ أسطورية مليئة بالشخوص المتماهية مع الطبيعة والمحيط. لوحاته، مثل “المنسية”، تحمل عيونًا ترقب المشاهد في صمت، شخوصًا بأجساد متكسرة وملامح مبهمة، تقودك لتسأل: هل نحن أمام قصة أسطورة قديمة، أم واقع نعيشه ولكن بصورٍ رمزية؟ حامد ندا، عبر استخدامه لعناصر كالأقنعة، يجسد لنا حالات من الهروب من الحقيقة، ومن البحث عن معنى وجودي وسط عالمٍ تغلفه الضبابية.



التسجيل الصادق والتفسير الميتافيزيقي عند حامد ندا


السوريالية الشعبية عند حامد ندا


التعبير عن الحلم كمقاومة للواقع

في كثير من الأحيان، تُعد اللوحة العربية تجسيدًا للحلم كوسيلة مقاومة لواقع مثقل بالتحديات. ضياء العزاوي، الفنان العراقي، مثال واضح على هذا الأسلوب، حيث أنه استخدم لوحاته ليعبر عن آلام المنفى وقسوة الغربة، بألوانٍ جريئة وصور تستدعي أحلام الحرية. في عمله “يوميات جبل”، نجد مشاهد مأخوذة من الأساطير، جبالٌ تتحدى الجاذبية، وألوانٌ تلامس السماء، كلها تبدو كحلم مقاوم للظلم والمعاناة. يرمز الحلم هنا إلى الأمل، إلى محاولات التحرر من قسوة الواقع، وكأن العزاوي يقول إن الحلم هو ملاذنا الأخير عندما تضيق بنا الأرض.




العمل للفنان التشكيلي ضياء العزاوي



ليال عربية – ضياء العزاوي




الطائر الأزرق – ضياء العزاوي

عند النظر إلى أعمال الفنان العزاوي بشكل عام، نواجه لوحة تتسم بالغموض، مزيج من الألوان والخطوط والأشكال المتداخلة في تناغم بصري مثير. تهيمن الألوان الحادة والجريئة على العمل، حيث يبرز الأحمر الصارخ خلف نافذة محددة بإطار أسود، وتطغى على المشهد نظرة جانبية لوجه تتخلله ملامح خشنة، تجاور رأسًا مفعمًا بالألوان المتنوعة. أما الأسفل فيكتسي بألوان من قوس قزح، على شكل خطوط طولية، لتضفي على المشهد حيوية وتباينًا.

في هذا العمل نحن بصدد تأويله، اعتمد العزاوي على تقسيم المشهد إلى عدة مستويات بصرية، ولكل مستوى منها نغمة لونية وشكلية خاصة. الوجه الجانبي الموجود في إطار النافذة يحمل في ملامحه آثارًا من الفن البدائي، مزيج من السكون والغموض. هذه النافذة بدورها تبدو كأنها تعزل الماضي عن الحاضر، أو الروح عن الجسد، حيث تبرز هذه الثيمة بوضوح عبر الخطوط السوداء التي تحدد الإطار.

أما الرأس متعدد الألوان في مركز اللوحة، فهو يبدو كتعبير عن تعدد الهويات، وتداخل الأفكار أو الأحلام، حيث نرى تقطيعات لونية وزخرفية تكسر الشكل التقليدي للوجه. اللوحة توحي بأن هناك انشطارًا داخليًا، صراعًا بين الماضي والحاضر، بين الداخل والخارج، وبين الذات والعالم. الخطوط الطولية الملونة في الأسفل توحي بالأمل والتجدد، فهي ليست إلا لمسة أخيرة تنبض بالحياة بين مشاهد الفوضى، وكأنها انفراجة من الأمل وسط الصراعات النفسية.

ضياء العزاوي، بعمله هذا، يسعى لاستكشاف ما وراء السطح. فاللوحة ليست مجرد ألوان وأشكال؛ إنها رمز لصراع إنساني أزلي. الإطار الأسود المحيط بالوجه داخل النافذة يرمز إلى الحدود التي قد يفرضها المجتمع أو الزمن على الروح البشرية، في حين يعبّر الوجه الجانبي عن تلك الأجزاء الدفينة من الذات التي تراقب العالم بنظرة تحمل في طياتها الحنين والألم.

الرأس المتعدد الألوان قد يكون تمثيلًا للإنسان المعاصر، المليء بالأفكار والذكريات والتجارب المتراكمة. أما الألوان القوسية في الأسفل، فهي إشارة إلى الأمل والتجدد، وكأن العزاوي يرسم الإنسان بوجهيه: الوجه الذي يراقب من بعيد ويفكر، والوجه الذي ينبض بالألوان والأحلام.

تتجلى عبقرية العزاوي في هذا العمل من خلال مزج العناصر المختلفة بأسلوب يجمع بين الجرأة والتوازن. استخدام اللون الأحمر الحاد في الخلفية يبعث الطاقة والشعور بالعزلة في آن واحد، كأنه مشهد من حلم أو ذكرى قديمة. التباين بين الألوان الهادئة والحادة يعزز من درامية العمل ويضفي عليه طابعًا سرديًا عميقًا، وكأن اللوحة تروي حكاية مشحونة بالعواطف.

عبر هذا العمل، يمكن القول إن ضياء العزاوي قد نجح في تقديم تجربة بصرية وشعورية معقدة، تعبر عن الصراعات الداخلية للإنسان، وربما عن ازدواجية الإنسان بين ما يظهره وما يخفى. اختيار الألوان المتداخلة والأشكال المتنوعة يجسد الروح المتعددة الأوجه، ويخلق توازنًا بين الفوضى والجمال، ليقدم لنا عملًا فنيًا يحمل بعمقه رمزية غنية بالمعاني.
هذا العمل ليس مجرد لوحة، بل قصيدة بصرية؛ قصيدة صامتة تهمس بما لا يُقال، وتدعونا لرحلة تأملية نحو دواخلنا، لنقف عند تفاصيله ونتساءل عن قصصنا الخفية، تمامًا كما تتساءل الألوان والخطوط في حضرة اللوحة.




العمل للفنان التشكيلي ضياء العزاوي

الحقيقة المتجسدة في الحلم: ما بين الواقعية والسوريالية
الأعمال التشكيلية العربية أحيانًا تتخذ طابعًا سورياليًا لتهرب من الواقع، كما هو الحال مع الفنان اللبناني مصطفى فروخ، أحد رواد الحداثة في الفن العربي. فروخ، الذي تأثر بالفن الأوروبي ولكنه بقي متمسكًا بأصالته، كانت لوحاته مزيجًا بين الواقع والسوريالية. لوحته “امرأة تنتظر” تلتقط تفاصيل امرأة تنظر إلى الأفق بعينين ممتلئتين بالانتظار، يحيطها فضاءٌ بلا حدود. ينقلنا فروخ إلى حالة من الغموض العاطفي، فهل هي في انتظارٍ للحب؟ للعودة؟ أم للخلاص من قيودٍ خفية؟ إنه رمز للحقيقة المغلفة في حلم، لحياة لا تُعاش إلا في صمت اللوحة.





امرأة تنظر – مصطفى فروخ




الحاج يعقوب – مصطفى فروخ

الحلم كحقيقة بديلة

تلك اللوحات التي تبدو غريبةً، ناطقة بلغة لا نستطيع فك رموزها بسهولة، ليست إلا تعبيرًا عن حقيقة غارقة في ذات الفنان وروحه. فالفنان العربي، عبر لوحاته الغريبة، يبحث عن طريقة لتحويل ما يشعر به إلى كيانٍ مرئي، كأنه يقول لنا: “هذه هي حقيقتي، لكنها ليست لكم، إنها حقيقةٌ تشبه الحلم.” الحلم هنا ليس هروبًا من الواقع، بل هو مرآة له، يسبر أغواره ويسرد تفاصيله بشكل لا واعٍ، فتتجسد الألوان كأسرارٍ عميقة، والصمت كلغة قادرة على البوح بما تعجز عنه الكلمات.

بذلك، تظل اللوحة العربية، بلغتها الغامضة وألوانها التي تسافر بنا نحو الحلم، انعكاسًا لأسرار عميقة وجذور ممتدة، قد يكون فهمها عسيرًا، لكنها دائمًا مليئة بالسحر والتساؤل.


★ناقد وتشكيلي ـ مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى