د.صميم حسب الله: السرد الخشن في (الجدار) الناعم.


د.صميم حسب الله★
لم تكن فكرة الخلاص من الضحايا، اِبنة اللحظة الراهنة، وإن كانت حاضرة اليوم بمسميات عدة، ليس آخرها تلك الإبادات الجماعية، التي تعود أسبابها إلى فرض السيطرة على الآخر المختلِف في الجنس أو اللون أو الدين أو الطائفة أو العِرق أو القومية، فضلاً عن صناعة الوباء (الكوفيد19) ومتحوراته، التي لم تزل تفتك بالضحايا، والهدف هو إقصاء الآخر من مجتمع هذا الكوكب، وصولاً وعلى نحو عكسي إلى (سفينة الحمقى) التي أشار إليها (ميشيل فوكو) في مدونته الفلسفية (تأريخ الجنون في العصر الكلاسيكي)، والتي كانت تبحر إلى المجهول للخلاص من الضحايا، الذين رفضهم المجتمع في العصور القديمة، بوصفهم (مجرمين أو مجانين أو معتلين أو خطائين)، فاختارت السلطة إطلاقهم في سفينة لا ربان فيها، ولا هدف ترحل إليه، سوى تحقيق غاية السلطة في التخلص من وجودهم في الجسد الاجتماعي.
ولم ينتهِ الرفض الاجتماعي للضحايا بتهجيرهم في سفن لا ميناء ترسوعليه، بل عملت السلطة على تأسيس أمكنة مزدوجة الشكل والمعنى؛ لتحقيق فكرة الإقصاء الاجتماعي، من دون أن تثير تساؤل المؤسسات المعنية بحقوق الإنسان، تمثَّلت مواطن التهجير تلك، بمستشفيات تأسست على شكل معتقلات، وسجون قاسية، لا يَتِمُّ فيها التفريق بين مجرم يستحق (العقاب)، ومريض يحتاج إلى (المراقبة)، فالضحية كائن معتل الجسد والنفس، لا يمتلك قدرة السيطرة على أفعاله، أو سلوكه في المجتمع؛ لذلك وجب الحفاظ عليه في مؤسسات تعنى بالمراقبة حفاظاً عليه من إيذاء نفسه، أو إيذاء الآخرين.
وقد اختار فريق مسرحية (الجدار) الإبحار في سفينة الضحايا؛ ليكون (حيدر جمعة) كاتباً، و(سنان العزاوي) مخرجاً، وفي السينوغراف (علي محمود السوداني) ، وفي التمثيل (يحيى إبراهيم، آلاء نجم، لبوة عرب، رضاب احمد، ريهام البياتي، إسراء العاني، زمن الربيعي، نعمت عبد الحسين، رنا لفتة، دريد عبد الوهاب، فيروز طلال، أيمن الشاهين، أماني حافظ، عراق أمين، عبير الخفاجي، شيرين علي نعيم، أسيل أحمد، ونخبة من طلبة معهد الفنون الجميلة) وفي التأليف الموسيقي (رياض كاظم) وفي تصميم الأزياء (زياد العذاري)، ومن إنتاج دائرة السينما والمسرح الفرقة الوطنية للتمثيل للموسم 2024، و قدمت هذه المسرحية على قاعة مسرح الرشيد في بغداد مؤخراً.
الملفوظ النصي الخشن
بدا واضحاً أن الملفوظ النصي، الذي تأسس على مدونة الكاتب (حيدر جمعة) قد انشطر في بداية العرض إلى قسمين مختلفين في التعبير والتوصيف، فقد اختار كل من المخرج والكاتب أن يكونا جزءاً من العرض بوصفهما فاعلين يقدِّمان الحالة والأسباب، التي تحولت فيها هذه المجموعة البشرية إلى ضحايا؛ فاختار كل منهما أسلوباً مغايراً في التعبير، فالمخرج (سنان العزاوي)، اِختار التعبير عن حجم (المؤامرة) التي دفعت بالضحايا إلى مكان العرض المنفى (السجن/ المشفى) ودفع بالفرضية إلى مؤامرة عالمية يقودها فرسان العالم الأول للإطاحة بضحايا العالم الثالث، في تصور لاختزال هذا العالم في النماذج، التي اختارها المؤلف فحسب، أو كأنه صراع بين (هُم/ نَحن) في لغة هي الأقرب إلى لغة البحوث، أو التقارير المُدَوَّنة في المؤسسات الإعلامية، مستفيداً من القاموس اللغوي واسع بالمصطلحات والتعبيرات والتوصيفات، التي تغزو المدونات الفكرية والفلسفية بطروحاتها الما بعدية والكولونيالية، وغيرها، مبتعداً عن لغة الدراما، التي تختلف عن غيرها من مفردات التواصل مع الآخر/المتلقي، فيما جاء الملفوظ النصي للكاتب (حيدر جمعة) على نحو مغاير تماماً، وكأنه نطق بلسان الضحايا، أو على نحو أكثر دقة، كأنه أراد التعبير عن كل ما سيجري على خشبة المسرح، وذلك بتوظيفه لمختلف الملفوظات، التي اتسمت بالخشونة، من اجل امتصاص وقع الصدمة، التي قد تصيب المتلقي، والتي تكشفت فيما بعد على لسان الشخصيات، من جهة أخرى فإن البنية النصية، التي تشَكَّل عليها نص المؤلف، تعود إلى المزاوجة بين البناء الأفقي المونودرامي الأحادي، الذي تتمكن فيه كل شخصية من سرد حكايتها وأسباب تحوُّلها إلى ضحية، والبناء المتشظي، الذي يحيل إلى بنية نصوص مسرح ما بعد الدراما من جهة اخرى، إلا أن النص وقع في تكوين شخصيات متشابهة على مستوى النتيجة ، وإن بدت مختلفة على مستوى (الحكاية)، والهدف هو تحوُّل الشخصيات إلى ضحايا فقط، من دون أن يمتلكن فعل المقاومة، فكل الحالات، التي تعرضت لها النساء هي حالات خالية من فعل الرفض، وكأن المرأة لا تمتلك القدرة على التعبير عن السخط أو الرفض، وكل ما تشَكَّل على المستوى الأدائي، جاء للتعبير عن الانكسار والبوح بالفضيحة، سيما وأن النص لا يتحدَّد بزمن ماض، أو إحالة الى المستقبل، بل هو معني بالمرأة الآن وهنا، فَثَمَّةَ حالات رفض ومقاومة، تصدَّت لها المرأة في ظل العديد من المتغيرات والتحوُّلات، التي عصفت بالبنية الاجتماعية، كشفت عن قدرة المرأة في الوقوف بوجه الأزمة ومواجهتها بقوة؛ حتى وإن تحولت إلى ضحية في حالات مختلفة، إلا أنها كشفت عن سلوك يُعَبِّر عن رفضها لفكرة الاستسلام والتحوُّل إلى ضحية مستلبة الإرادة، فلم يؤشر النص في شخصياته إلى ذلك الأنموذج من الضحايا، اللاتي تعرضن للعنف والقهر والاغتصاب وتشويه السمعة، بل نجد أن النص اتكأ على شخصيات استسلمت لحالات القهر والعنف الاجتماعي والأسري، في تكرار لعديد من الحالات، التي لم يكن ثَمَّةَ حاجة لتكرارها على المستوى النصي، بل كان من الضروري البحث عن نماذج أخرى من الضحايا، بدلاً من تكرار حالة (زنا المحارم) وإن جاءت بتوصيف مختلف إلا انها عبَّرت عن حالة محدَّدة وشاذّة في المجتمع، فهل تختلف فكرة (زنا المحارم) إن كانت بين (الأخ والأخت، أو بين الأب والابنة) ؟
لتتحوَّل مآسيهن إلى سرديات (نستولوجية خشنة) لا تثير عاطفة الضحايا، اللاتي يتشاركن المكان نفسه، بل ظلت الشخصيات في عوالمها الخاصة، وكأن إعادة الحكاية هو اشتراط وفرض وضعه القائمون على المكان/المنفى في لعبة أدوار دائرية لا نهاية لها، هو أشبه بحالات التطهير المزمنة لشخصيات بدت وكأنها في جلسات علاج نفسي يُراد به الخلاص من أسباب تحوُّلها إلى ضحية، فالتكرار اللفظي الخشن ظل مرافقاً للشخصيات؛ حتى تحوَّلت الخشونة في اللفظ إلى سلوك تتبنَّاه الشخصيات، وصارت خشونة اللفظ جزءاً من بِنيتها، التي عبَّر المؤلف عنها في مفتتح نصه الخشن، وكأن الحكايات المسكوت عنها لا يمكن أن تُسْرَد إلا بتحويل الشخصيات إلى مسوخ لفظية لا يُراد للمجتمع/المتلقي التعاطف معها، وإلا كيف يتم التعاطف مع الحالة، وما آلت إليه الشخصية، ففكرة الضحية بدت حاضرة وواضحة، إلا أن خشونة التعبير اللفظي، وعلى نحو متكرر أفقد المتلقي إحساس التعاطف مع هذه الشخصيات، بل إن فكرة العزل عن المجتمع ضمن فرضية مكانية بدت ضرورة، من أجل أن لا يتأثر المجتمع بذلك الملفوظ؛ حتى وإن جاء على لسان الضحية، الأمر الذي أسهم في خلق حالة من التناقض بين ما ذهب إليه المخرج في منطوقه اللفظي الأول، وبين ما صار عليه حال الشخصيات، فبدلاً من أن تكون الفكرة هي مواجهة المجتمع بسلوكياته المتطرفة عنفاً وجنساً مُحَرَّماً، صارت فكرة الحفاظ على ما تبقَّى من البنية الاجتماعية، أكثر أهمية من حال الضحايا، الذين صار لزاماً على المجتمع عزلهن؛ لكي لا يتأثر المجتمع كله، من منطلق مفاده (لا تربط الجرباء قرب صحيحة خوفاً على الصحيحة أن تجرب)، فالتطرُّف في الملفوظ الخشن، أسهم على نحو واضح في خلق شخصيات تنسجم مع المكان، الذي تم احتجازهن فيه.
من جهة أخرى، فقد استطاع المؤلف خلق تنويعات نصية أسهمت في التأكيد على قدرته في خلق بِنية نصية، تمتلك القدرة على التحوُّل، وصناعة الدهشة؛ وعلى نحو مغاير عن التشكلات المونودرامية، التي اعتمدها في بِنية الشخصيات، وقد تَمثَّل ذلك في مواضع عدة، منها حالة التحوُّل في شخصية (المرأة المتدينة) في واحد من أجمل التحوُّلات النصية، فالضحية هنا أرادت الاستثمار في المكان، والتخفي داخل (الشكل الديني)، الأمر الذي أفرز حالة من الصراع الدرامي، الذي دفع بالمتلقي إلى التواصل مع تحول الشخصية/الضحية، وكما في حالة (الرجل/المغتَصب)، الذي أحدث تحوُّلاً في حالة رفضه اجتماعياً، أو قبوله كضحية سببها المجتمع نفسه، ذلك أن فكرة التحوُّل في بِنية الشخصية، وملفوظها على نحو أساس، بوصفه الأداة التعبيرية المرافقة للسلوك الجسدي، قد أسهما معاً في خلق تنويعات على الشخصيات من دون الدخول في نمط الأداء المونودرامي، الذي يزول تأثيره بعد نهاية السرد الخشن، ويعود ذلك كله إلى أن المؤلف لم يسعَ إلى خلق صراع بين الشخصيات في داخل المكان، إلا في حالات قليلة، واكتفى بأن تكون الشخصيات في حالة أزمة مع الحدث الماضي، الذي كان السبب في تحويلهن إلى ضحايا، ولم يتبدَ لنا حضور الطرف الآخر للصراع، سواء على مستوى النص، أو في الاشتغال الإخراجي، بل اقتصر الأمر إلى حضور شخصية (المهرج/الجوكر) التي ارتبطت بالمكان، وهي شخصية اختار المؤلف أن يصفها لفظياً بالمهرج، بينما ظهرت على مستوى الشكل أقرب إلى الجوكر، وهي شخصية ملتبسة على نحو كبير، فما تُمَثِّلُه هذه الشخصية من إحالات وتحولات مختلفة، ظل غامضاً ابتداءً من غياب الملفوظ النصي عنها، إلا فيما قيل في وصفها (مهرجو السلطة) على لسان إحدى الضحايا، وهي إحالة أسهمت في زيادة الالتباس، فإذا كان (المهرج/ الجوكر) قد امتلك ذلك التوصيف، فإين هي السلطة الفعلية إذن؟ وكيف بدا حضورها في المتن النصي، وهي مخفية غامضة، سيما وأن المهرج قد ظهر في بعض المشاهد خارج المكان (السجن/ المشفى) في لحظة استعادية، يراد بها تصويره كأنموذج لصورة ذلك (الأب/المغتصِب) في واحدة من لقطات (الداتاشو) المثيرة، وبما عليه من علامات دالَّة أفرزها الزِّيّ(الدشداشة البيضاء، وغطاء الرأس) الذي أحالنا إلى أحد أشكال رجال الدين في مشهد (اِغتصاب الأب لابنته) فإذا كان الأب هو السلطة، فإن النص كان بحاجة إلى إظهاره مع باقي الشخصيات، كل بحسب طبيعة علاقته (بالشخصية/الضحية) ، أو بتصوير نماذج حاضرة للسلطة خارج أدواتها المتمثلة بـ(المهرج، مطربة الأوبرا، الرجل/المغتصَب).
فضلاً عن ذلك فإن الشخصية، التي ظهر عليها (الجوكر/ المهرج) تمتلك مرجعيات عدة في الثقافة الغربية، وقد أسس المخرج على حضوره في خطابه الافتتاحي، محاولاً التأكيد على تصديره بوصفه مهيمناً على العالم الثالث، أو رمزاً من رموز الهيمنة العالمية، وهو أي الجوكر ، (ونؤكد هنا على مسمى الجوكر) ونتخلَّى عن المهرج؛ لأن ثَمَّةَ اختلافات في التعبير والتوصيف لهذه الشخصية، التي قد تتشابه في ملامح الشكل، إلا أنها مختلفة في السلوك والمعنى، كما أن (المهرج) يتَّسِمُ بطابعه الكوميدي، ويتزين بأنف مستعار أحمر اللون، وشعر مستعار ذي الوان زاهية، تنحصر وظيفته في إثارة الضحك، وبعكسه فإن الجوكر، الذي ظهر في عديد من النماذج لأفلام (باتمان) بدا مغايراً متَّسِمَاً بقدرته على صناعة الشر والتحريض عليه، وقد ظهر مؤخراً بوصفه أنموذجاً للشخصية المقهورة، التي تثور على واقع الحياة المزرية، بما فيها من قهر واستبداد يمثِّله النظام الغربي، وهي الحالة التي ظهر عليها الجوكر مع الممثل (خواكين فينيكس) الذي جسَّد الشخصية في فيلم حمل الاسم نفسه، وهو بجزأين، إلا أن (الجوكر) في العرض المسرحي، حمل الشكل النقيض، فهو من ناحية الشكل والهيئة شبيه بشخصية (الجوكر /خواكين) إلا أنه من ناحية السلوك، فهو الشرير المستبد، الذي تتخَّفى السلطة خلفه.
وثَمَّةَ إشارة لا بد منها تتعلق بحضور شخصية القرين مع الضحية (لبوة عرب) الأمر الذي أحدث فجوة في طبيعة علاقة باقي الشخصيات وشكل الصراع، فَثَمَّةَ شخصيات ظل فيها الصراع مرتبطاً بالأحداث الماضية، التي تستعيدها من دون وجود لطرف الصراع الآخر، الذي أثار غيابه تساؤلات عدة من بينها، لماذا اختار المؤلف تغييب الجلاد ، والتركيز على حضور الضحية، إذا اعتبرنا أن مغتصبي تلك الشخصيات، لم يكونوا مجهولي الهوية كما هو الحال مع مرتكبي الجرائم من الملثمين، الذين يمارسون أقسى الأفعال الإجرامية من دون أن يتعرَّف عليهم أحد، إلا أن الشخصيات، التي يشار إليها في ذاكرة العرض هم (أب، وأخ، وزوج)؟ هل ثَمَّةَ إحالة أراد المؤلف الإشارة إليها للتأكيد على أن السلطة هي التي تحمي المغتصبين؟ هل تدعم السلطة (المخفية) برمزيتها المتمثلة بالجوكر (زواج المحارم) وغيرها من الأفعال، التي يرفضها المجتمع؟ وإلا ماذا يعني أن يتِمَّ نفي الضحايا لارتكابهن أفعالاً شاذَّة من دون أن يكون للجناة حضور شاخص في المتن النصي، أو العرض على حد سواء، وكأن ما حصل هو سلوك اختياري لم يتِمَّ إجبارهن على فعله، أين الفاعل، الذي ارتكب تلك الجرائم؟ وإذا لم يكن ثَمَّةَ تواطؤ بين السلطة، ومرتكبي أفعال الاغتصاب، وغيرها من أفعال قاسية، فإن النص قد وقع في إشكالية تَمَّ التأكيد عليها في المعالجة الإخراجية، وبخاصة في مشاهد (ثورة الضحايا)، وقسوة السلطة عليهن، لتنتهي فرضية النص، بإصابة الضحايا، الذين قاموا بالثورة على المكان/المنفى بالعمى، وخضوعهن لسلطة الجوكر، من دون أن يكون ثَمَّةَ إشارة للفاعل الحقيقي، الذي دنَّس أجساد الضحايا، لماذا أخفت السلطة، مرتكبي السلوكيات المنحرفة في هيمنة ذكورية صريحة، وتَبَنَّت سرديات الضحايا في خطابهن الخشن؟
وبالعودة إلى مرجعيات مسمى العنوان (الجدار) الذي ارتبط بالعديد من الأدبيات، إلا أننا نجده أكثر تقارباً مع فيلم (الجدارThe Wall/) للمخرج الإنكليزي (آلن باركر)، سيما ما يتعلق بحضور الأفكار تدين المجتمع من جهة، فضلاً عن المتن الموسيقي المتمثل بأغاني فرقة ((Pink Floyd، وبما يقابلها في العرض على مستوى الغناء الأوبرالي في نص المؤلف متمثلاً بشخصية (المرأة القرد) بقناعها المشوه، إلا أن ذلك كله لا يَدَعُ مجالاً لخلق حالة التشابه، التي قد تُفْهَم بأن النص مقتبس أو مُعَدّ، بل هي أفكار ومضامين مختلفة، اِلتقى بعضها، وتنافر بعضها الآخر، أما بالنسبة للنص المسرحي (الجدار) فنجد أن العرض قد ذهب بالعنوان إلى مسمًى تعددي آخر، فرض على المؤلف تعديل عنوانه إلى (الجدران) لما توافر فيها من تعددية في الشكل والاشتغال داخل فضاء العرض، ففكرة الجدار لا تحيل إلى التعدد، بل تذهب باتجاه الكشف عن جدار فيه الكثير من الإزاحة لمعانٍ مختلفة، كان المؤلف قد أسس لها في المتن النصي، منها ما ارتبط بما يقع خلف الجدار، أو ما يتشكل عليه الجدار من مفهوم صلب يتأسس عليه فرض العزلة، وغيرها من العلامات الدالَّة، التي اجترح النص عديداً منها كما هو مبين في نص العرض، متمثلاً في صورة (السكرين) الأولى في مفتتح العرض، في تقرير حاول المؤلف فيه توصيف المكان باللامكان، بينما اختار المخرج رسم علامات دالَّة على مكان، أو أمكنة عدة مستفيداً من تعدُّد الجدران.
فضاء الجدار الناعم
في البدء علينا أن نعود بالزمن إلى لحظة تحوُّل المنظر المسرحي من شكله المرسوم، إلى شكل مجسم ذي أبعاد ثلاث، تأسست على وفقه فكرة حضور الجدران، التي اكتسبت خشبة المسرح بسببها عديداً من المقترحات والرؤى الإخراجية المتنوعة، لايستطيع المشتغلون في المسرح القديم، أو المعاصر، التأكيد على أن فكرة الجدار هي من بنات أفكارهم، بل اختلف كل منهم في طريقة توظيفه لتلك الجدران، اِبتداءً من شكلها في المسرح الطبيعي مع المخرج (أندريه أنطوان) الذي خلق جداراً رابعاً وهمياً من أجل عزل الممثلين عن صالة الجمهور، في واحدة من متبنيات المسرح الإيهامي، وصولاً إلى المخرج (برتولد بريخت)، الذي عمل على كسر الجدار الرابع (الإيهامي) من أجل تحقيق غايات عدة، من بينها التأكيد على التفاعل بين ما يجري على خشبة المسرح، والجمهور من أجل إثارة الجدل وتفاعل العقل، فالتجديد بتوظيف (الجدار) يعود إلى حساسية الرؤية الإخراجية، التي تبناها المخرج (سنان العزاوي) في استعادة تقنيات بريخت، التي قد تبدو قديمة بالمقارنة مع طروحات المسرح المعاصر، وهيمنة الما بعديات في الاشتغال الإخراجي، إلا أن المقترح الإخراجي في العرض، تأسس ابتداءً على فكرة كسر الجدار الرابع وإشراك الجمهور مع الشكل، الذي بدا مبهراً في لحظة التلقي الأولى، وظل كذلك في رحلة التلقي بزمنها الممتد إلى (150 دقيقة) يُحْسَبُ للمخرج فيها قدرته على ضبط الإيقاع على نحو جمالي، وإن كان الشكل بتوصيفاته الجمالية، يحيل إلى عديد من العروض، التي تضج بها وسائل التواصل الاجتماعي، لاسيما ما تعلَّق منها بتلك العروض المسرحية، التي أفاد مخرجوها من توظيف الجدران، أو في أشكال بعض الشخصيات، التي بدت واضحة في هذا العرض، الذي شكَّلت عديداً من الصور مقاربات بصرية مع تجارب مسرحية، أفاد مخرجوها من حضور الجدار، ولا يتبقَّى سوى التوظيف الإخراجي لكل عرض مسرحي، يمتلك خصوصية المغايرة عن غيره من التجارب الإخراجية المعاصرة، سيما وأننا نعيش في فضاء عولمي لم تَعُدْ فيه حقيقة الأصل حاضرة، بل هي نسخ لأصول غائبة.
لم يغادر المخرج فرضية الاشتغال (البريختي) مع بداية لحظات العرض الأولى، بل على العكس، بدأ بالتأكيد على أنها ليست فكرة عابرة يُراد بها سرقة بعض اللحظات من المتلقي، إلا أنها ليست من متبنيات المخرج الأصيلة، فقد استهلكها عديد من المخرجين في بادرة تحقيق المفاجأة للمتلقي، أو محاولة ضبط إيقاع التلقي، ودخوله في أجواء العرض، وقد استشعر المخرج ذلك الزمن الممتد، كاشفاً عن حضور (الراوي) بنوعين مختلفين، جاء الأول متمثلاً بسرد ملامح (المكان /المنفى) مثبتاً على لوحة (السكرين) وانقسم الثاني إلى نصين مختلفين في المضمون متطابقين في الشكل، تمثلا بشخصيات(الراوي/المخرج) و(الراوي/الكاتب)، وكأنهما يجسدان شخصية يُراد لها أن تكون غريبة عن العرض، إلا أنها شخصيات حملت عديداً من الدلالات والمعاني، سيتكشف لنا فيما بعد أسباب توصيفها الافتتاحي في الجدار.
اِعتمد المخرج في تأسيس الفضاء البصري للعرض على خلق معادل لوني للمكان المفترض، الذي تشكَّل على وفق منطوق (فوكو) الفلسفي، والمتمثل بخلق أمكنة مزدوجة الشكل، ومختلفة المعنى والغاية، فالشكل الذي ذهب إليه المخرج في العرض، يحيل إلى مكان محكم العزل، هو أقرب إلى المصحة النفسية، بوصفها شكلاً ناعماً بالمقارنة مع ما تحيل إليه الصلابة، التي يَتمثَّل فيها مسمى الجدار، سيما ما يتعلق منها بتأسيس الجدران العالية، واختيار اللون الأبيض، ومشتقاته لشكل الجدران والأرضية من أجل فرض الإحساس الناعم على نزلاء (المنفى/المصح)، ولا يُعَدُّ ذلك تصوراً متخيلاً للمكان/ المصح، بل إن المخرج عمل على تأكيد فرضية ذلك المكان/ المصح، عن طريق الفتحات، التي بدت للوهلة الأولى موزعة على الجدار على نحو عشوائي، اِرتبطت وظيفتها الأساسية بالسلوك الأدائي للممثلة (إسراء رفعت) أو أنها تسهم في كسر الشكل الجامد للجدار، أو قد تكون منفذاً تِقْنياً يتخذه السينوغراف؛ ليتسلل منه الضوء إلى المكان المنعزل، إلا أن التفكر في كل تلك الافتراضات، دفع باتجاه وظيفة أخرى لتلك الفتحات، تُمَثِّل في كونها فتحات للمراقبة، توضع على أبواب المؤسسات الرقابية، سواء كانت مصحات، أو سجوناً يُراد بها مراقبة السجين/المريض، لذلك تحوَّلت تلك الفتحات إلى علامات دالَّة على أن الأبواب، هي ليست للخروج خارج فضاء العرض، بل هي للدخول إلى غرفة السجن/المصح من أجل أن تعود الشخصية إلى عالمها المنعزل عن الشخصيات الأخرى، التي امتلكت كل منها منفاها المنعزل والخاص بها، بعد انتهاء فعل الشخصية في فضاء العرض المتمثِّل بفضاء الباحة الخاصة بالمصح/السجن.
وبالعودة إلى التقنيات (البريختية)، التي عمل المخرج على توظيفها على مستوى فضاء العرض، أو المفردات، التي تبنَّتها الشخصيات، نجد أن توظيف (المايك الصوتي) لإصدار أصوات بدت مغايرة عن الأداء الصوتي للممثلين، فضلاً عن اعتماد المخرج على تغريب الشخصيات عن طريق الأقنعة، التي أضافت إلى الشخصيات دلالات متنوعة سواء مع (مطربة الأوبرا)، بقناع القرد الدالِّ على السلوك المراوغ، والأزياء الجلدية، التي تحيل إلى شخصيات (أفلام البورنو الغربية) ذات السلوك (السادي)، وبالعلاقة المتلازمة مع (المايك الصوتي) الذي تشير علامته الدالة إلى القدرة على فرض الهيمنة الصوتية على أفراد المكان/ المنفى (المصح/السجن)، فضلاً عن توظيف المخرج لعديد من المفردات، التي اكتسبت طابعاً تغريبياً عن فضاء العرض، نذكر منها (قدر الطعام) الذي لا يلائم الشكل البصري، الذي تأسس عليه فضاء العرض؛ حتى وإن كانت وظيفته ضرورة تُعَبِّر عن حاجة الشخصيات إلى الأكل في المكان المعزول، إلا أن المخرج لجأ إلى ذلك النوع من (قدور الطعام) التي تنتمي إلى البيئة المحلية، إنما هي إحالة سعى من خلالها إلى إعادة تفكير الجمهور إلى أن أشكال الشخصيات المختلفة، إنما هي من مُخْرَجَات البيئة المحلية، وما تبدو عليه من تغييرات في الزِّيّ والسلوك، يعود إلى هيمنة (العالم الأول) الذي تبنَّاه المخرج في خطابه الافتتاحي، فضلاً عن توظيفه لعديد من الأقنعة الدالَّة على طبيعة الشخصيات، سواء كانت من الضحايا، أو السلطة وخفاياها، كما هو الحال في قناع الفيل، أو قناع الفأر، وغيرها.
باب المنفى
أسس المخرج جزءاً رئيسياً من رؤيته الإخراجية، بالاعتماد على وجود الأبواب في جدران العرض، بمعنى آخر، فإن بوابات المنفى جاءت للتعبير عن حالة النفي داخل المنفى (المكان/المصح/ السجن) فَثَمَّةَ مكان واقع بين الجدران الثلاث، وهو منفًى بطبيعة الحال كما تم توصيفه في خطاب المخرج/الراوي في بداية العرض، وثَمَّةَ منفًى يقع خلف الجدران، وهو عالم خفي اعتمد فيه المخرج على إطلاق مخيلة التلقي لما يقع فيه من ممارسات قمعية تجاه الضحايا، وما يقع تحت مؤشر المتخيل، قابل للتأويل، أو النفي، وقد اختار المخرج الركون إلى تأكيد المتخيل في واحد من المشاهد الدالة على حجم الفاجعة، التي تحوَّلت فيها (الضحايا/ المرضى) داخل (المكان/ المشفى)، إلى مجرمين داخل سجن حُكِمَ عليهم بالموت، بدلالة ازيائهم ذات اللون الأحمر، والشكل المعرّف، وهو تحوُّل إخراجي ذو دلالات عميقة، وبخاصة ما تكشف عنه في لحظة (ثورة الضحايا) على السلطة، أو من يمثِّلها في محاولتهم لتحطيم الجدار؛ ليكشف لنا المخرج تلك الأيادي الخفية، التي كانت تمارس القمع خلف أبواب المنفى، والتي صار حضورها داخل الفضاء المتشكل بين الجدران، ضرورة للقضاء على مثيري (الشغب) من الضحايا وصولاً إلى مشهد القنص، الذي منع الضحايا من الحركة، وأصابهم بالعمى، وهو أحد المشاهد المثيرة من الناحية الإخراجية والسينوغرافية، إلا أنه حكم على الضحايا بالعمى جَرَّاء ما اقترفه الأخرون بحقهم، ولتنتهي لعبة الخفاء والتخفي بين من هم داخل المنفى، أو داخل السلطة؛ لتُفتح البوابات على مصراعيها؛ لتتم إزالة الضحايا المعاقين بالعمى من المكان، من أجل وصول ضحايا آخرين من دون التعرُّف على الجاني المتخفي خلف الجدار الناعم.
الأداء المكسور
اِشتغل المخرج على تأسيس منظومة أداء متنوعة عمل فيها على خلق المزاوجة بين الأداء، الذي يتشغل بحسب الحالة/الحدث، والتقنيات الأدائية، التي يغادر الممثل فيها فكرة التجسيد، متحوِّلاً إلى التقديم وصولاً إلى توظيف تقانات أدائية مختلفة، بمعنى أن الممثلين تمكنوا من المزاوجة بين الحالة النفسية، التي تنتمي إلى الأداء النفسي، الذي يعود إلى (ستانسلافسكي) وقد تكشف ذلك في حالات المونولوجات المونودرامية، من أجل خلق التأثير في المتلقي، وسعياً لتأكيد حالة الشخصية/الضحية، من جهة أخرى فإن تبنِّي المخرج لتقنيات (بريخت) لاسيما ما تعلَّق منها بكسر الجدار الرابع، نجده حاضراً في أداء بعض الشخصيات، فضلاً عن تأكيد المخرج على اتساق الفضاء مع الشكل الأدائي المتأثر بمقتربات (مسرح ما بعد الدراما)، بمعنى أن المخرج لم يركن إلى منظومة أدائية محددة، بل اختار التنوُّع في بناء سلوك أدائي لكل ممثل/ة، بما ينسجم مع الحالة/الحدث، الذي تتفاعل معه الضحية، بالرغم من أن جميع الضحايا يتقاسمن فكرة السرد الأدائي لوقائع حدثت في زمان ومكان مختلفَيْن، فضلاً عن عدم وجود طرف الصراع الآخر، اِختار المخرج غيابه عن العرض، وحضوره في ذاكرة المؤدي، الأمر الذي احتاج فيه الممثل/ة إلى امتلاك قدرات أدائية متنوعة، تمكنه من وصف الحالة، التي صارت الضحية عليها.
لذلك سنعمل على دراسة كل ممثل بحسب الحالة/ الحدث الأدائي، وتحوُّل الشخصية على نحو فردي، ويعود ذلك إلى أن التأسيس الأدائي، الذي قدَّمه المخرج والمؤلف في فرضية العرض؛ للكشف عن الأداء التمثيلي المكسور لحالات التصدع في جسد الضحايا.
ذاكرة الاغتصاب المبكر
إرتبط التأسيس الأدائي لشخصية (الرجل/المغتَصب)، التي جسَّدها بحرفية عالية الممثل (يحيى إبراهيم) بمرجعيات راسخة في ذاكرة الشخصية، وعلى الرغم من عدم تكشف تلك الذاكرة في سلوك الأداء، وهو مقصد أدائي يراد به خلق حالة التحوُّل مع الشخصية (الكراهية/التعاطف) فللوهلة الأولى لم تكن الشخصية تنتمي إلى الضحايا بما لديهن من جراح تسبب بها الآخر، إلا أن تلك الشخصية بدت أقرب إلى تلك الشخصيات، التي تستعين السلطات القمعية بها لأغراض يراد بها تهشيم صورة الآخر المختلف عنها، وقد استعان الممثل (يحيى إبراهيم) بعديد من الأدوات التعبيرية، التي ينتمي بعضها إلى التغريب نذكر منها، تأسيس علاقة مع المتلقي على نحو مباشر، من أجل تكسير الحاجز النفسي لهذا النوع من الشخصيات، التي لم تُقدَّم على خشبة المسرح بهذه الصيغة من قبل، ولم يكتفِ الممثل بتلك المفارقة الأدائية، بل إن الشكل الذي بدا عليه الممثل يحيل إلى ذلك النوع من الشخصيات الغروتسكية، ذات الملامح الخشنة والسلوك الناعم، فقد ظهر (يحيى إبراهيم) بلحية كثيفة، وقوام صلب، يناقض تماماً ما تبنَّاه من سلوك الشخصية، التي تُعَدُّ النعومة من أبرز ملامحها، والتي استطاع أن يُجَسِّدها بقدرة الممثل الاحترافي، الذي حافظ على منظومة الأداء، إلا أن ما يؤخذ على المخرج في تصوُّر أحد أزياء، أو أقنعة هذه الشخصية، هو أنه زِّيّ مستنسخ من أزياء شخصية سينمائية جسَّدتها الممثلة الأميركية (أنجلينا جولي)، بالرغم من أن الإحالات، التي منحها الزِّيّ للممثل كانت فاعلة، وأسهمت في الكشف عن الشكل التغريبي، الذي تفاعل الممثل معه، إلا أنه يظل في النهاية شكلاً منسوخاً ليس للمخرج، أو مصمم الأزياء أيّ إضافة في ابتكاره.
من جهة أخرى، فإن التحوُّل في الشخصية، التي تعرَّضت في الطفولة إلى حالات اغتصاب متكررة، صارت معها مدمنة على الاغتصاب من دون أن تدرك أنها تمتلك بنية جسمانية، وقدرة جنسية تنتمي إلى النوع/ الذكر، وهو ما استطاع الممثل التعبير عنه في تحوُّل أدائي، أسهم في تحويل التلقي من الكراهية إلى التعاطف، وتحويله من متواطئ مع السلطة إلى أحد المطالبين بالخلاص من المنفى القسري.
ذاكرة الرقص والإنكار
بدت الشخصية، التي جسدتها الممثلة (آلاء نجم) أكثر انتماءً من غيرها لفضاء المنفى، فمنذ اللحظة الأولى، كشفت الممثلة عن قدرة أدائية متفردة، سواء على مستوى تجسيد الشخصية، أو على مستوى علاقتها بالمكان/ المنفى، فهي أشبه بتلك الشخصيات، التي تظهر مسيطرة على (السجون/المصحات) بوصفها نزيلًا دائماً لتلك الأمكنة، مستفيدة من حالة الاسترخاء الأدائي، التي منحتها للشخصية التي جسدتها، لاسيما تحوُّل الشخصية من الثبات إلى الحركة الراقصة، وعلى نحو مستمر في تفعيل جمالي للإيقاع، بالرغم من أن حركاتها الراقصة، لم تكن متسقة مع الموسيقى ذات النزعة الأوبرالية العالمية، بما يقابلها من حركات الرقص الشرقي، وكأن ثَمَّةَ حضارتين تتصارعان ؛ لإثبات أيهما الأصلح للبقاء، حضارة الشرق بتقاليدها العتيقة، أم حضارة الغرب بتطورها التكنولوجي المهيمن.
المحارم يزنى بها (1):
كشفت الممثلة (ريهام البياتي) عن قدرتها الفائقة في التعبير عن حالة الشخصية، التي تعيش حالة مخاض مستمر وحيرة أبدية، مخاض تسبب فيه الأب من زنا المحارم، اِنتهى بأداء هستيري متكرر، عاشته الممثلة للتعبيرعن حالة الوجع والفقد المزمن لصورة ذلك الأب، الذي كان علامة مضيئة في حياتها، بوصفه رمزاً عاشت على رؤياه، وحالة الفقد لأطفال المحارم، الذين تتخلص من وجودهم في حياتها، وبالرغم من فعل الأداء الحركي والصوتي المؤلم والمؤثر، إلا أنه ظل أداءً خالصاً لضحية تستذكر جلادها/ الأب، شخصية تؤدي الصراع مع نفسها، وتلوم على نفسها، وتضرب جسدها الخَطَّاء/البريء على حد سواء من دون أن تثور وتغضب من سلطة أبوية شاذة استباحت عفتها؛ حتى اللحظة الأخيرة التي مات الأب فيها، وهي تصرخ فرحاً وفجيعة بموته في المرحاض، من دون أن تتمكن من مواجهته، فالنص اختار الحرث في ذاكرة المحارم، بدلاً عن مواجهتها.
المحارم يزنى بها (2):
صورة أخرى من صور المحارم، التي تم الإطاحة بعفتها، وإن جاءت هذه المرة على نحو مختلف فالضحايا هم (أخت وأخ) والمتسبب هو المخدرات، التي طيَّرت عقول جيل من الشباب؛ حتى صار الزنا بالمحارم، أشبه بالموضة التي يراد بها تصدُّر (الترند)، وقد جسَّدت الممثلة (لبوة عرب) شخصية الأخت المغتصَبة، التي طبعت بأدائها عديدًا من الذكريات المؤثرة لشخصيات، تشارك معها فضاء الأداء في منظومة، تم اختزال الأداء اللفظي فيها على نحو كبير، وحضر الفعل التعبيري بديلاً عنه في إحالات متنوعة من بينها، ذلك الأداء المتقن والدالُّ والعميق في مشهد الرسم على الجدار؛ للتعبير عن رسومات الحلم والأمل في عالم أفضل على جدران المنفى الناعم، والتي كان القرين يعمل على محوها، قاصداً ألا تكون ثَمَّةَ ذاكرة صورية في المكان/المنفى لضحايا السلطة (الخفية)، بل يقتصرالأمر على ذاكرة سردية سرعان ما تزول بفعل الزمن، وتسارُع الأحداث، فضلاً عن علاقة أدائية مع (المايك الصوتي)، الذي اتخذ شكلاً، ووضعية طبيعية مع شخصيات (مطربة الأوبرا) أو (الكاتب، والمخرج) إلا أنه مع الممثلة (لبوة) صار ملتصقاً بالأرض، ويشبه طريقتها في التمثيل بجسد منحنٍ، وكأنها إشارة إلى أن تلك النماذج/ الضحايا، لا يمكن أن تسمح السلطة لها بأن ترفع صوتها؛ حتى وإن استعملت مكبراً للصوت؛ وحتى ذلك الأداء، الذي بدا للوهلة الأولى خارج جسد العرض، ومنظومته الأدائية، والمتمثِّل برفع الممثلة (لبوة) عن طريق السلك المعدني في فضاء العرض، إلا أنه شكَّل لحظة فارقة من لحظات الإطاحة بالجسد/الضحية في إشارة رامزة إلى ما تَمَّ إنتاجه في الفوضى، التي اختارتها وصنعتها السلطة (الخفية)؛ لتصفية حساباتها مع المختلفين معها.
ذاكرة الحلم بزورق مثقوب
اِختار المخرج تأسيس فرضية مغايرة للأداء، مع الممثلة (إسراء العاني) عن غيرها من شخصيات/المنفى، فالفاجعة؛ التي ألَمَّتْ بها مُرَكَّبة، لا تتسق مع فكرة الأداء التقليدي، فالتنكيل بها، وتحويلها إلى سلعة يتِمُّ تبادلها في حفلات الصخب والمجون، من دون أن يكون لها قدرة على الرفض؛ حتى صارت خاضعة محطمة، وهي تؤدي سلوكاً تعبيرياً مزدوجاً بين الموت غرقاً، والحياة كسلعة يتبادلها حراس السلطة في سهراتهم الليلية، ذلك الأداء، الذي جعل من الممثلة (إسراء العاني) تكشف عن قدرة فائقة الجودة على المستوى الحركي، وبخاصة في تبنِّيها لعلاقة أدائية مع الجدار، الذي تحوَّل إلى محاولات متكررة للهروب من القاع، الذي سقطت في قعره؛ لتتحوَّل فكرة البحر في واحد من المشهديات البصرية والأدائية المتفردة، في التعبير عن مرحلة الهجرة بقوارب الموت بصورة غير مباشرة ظلت فيها (إسراء) المرأة الضحية المتشبثة بجدار الحياة المثقوب، فضلًا عن مشهدها الصوتي، الذي تصرُخ فيه بوجه السلطة الخفي، في أداء هستيري منسجم مع حالة الشخصية، وذاكرتها/ الحلم.
الحياة /المسخ
تبنَّت الممثلة (رضاب أحمد) سلوكاً يعتمد على الأداء الداخلي، الذي ينسجم مع طبيعة الشخصية/الضحية، بتوصيفاتها الحركية، وصراخها الهستيري المنسجم مع مآلات الشخصيات /الضحايا، اللاتي اعتمدن ذاكرة السرد ومعهن (رضاب) في توصيف المأساة، إلا أنهن لم يتشابهن في التعبير كما هو حال (رضاب)، التي تَمَّ مسخها من ضحية اختارت الانتحار في المنفى، على البقاء خاضعة بين جدرانه الناعمة، واختار المخرج إعادة تشكيلها، ومسخها إلى الرجل، الذي كان يمارس معها أمراضه، ونزعاته السادية، وكأن حالة الموت شنقاً لم تخلصها من كوابيس الجلاد، الذي ظل غائباً تحت جناح السرد.
ذاكرة التشوه، والتنمر الجسدي
الشكل الهجين، الذي تَكَشَّفَ عن صوت أوبرالي لا يشبه فضاء الضحايا، بل هو صوت قامع لهن، توصيف دقيق لشكل السلطة وقسوتها، كل ذلك تمثَّل في أداء الممثلة (نعمت عبد الحسين)، وقد ساعد اداؤها في التأكيد على بشاعة السلطة، وقدرتها على التخفِّي صوتياً وجسدياً.
ولم تكن فكرة الخروج بالضحية خارج المتن المحرم، والتي تجسَّدت في شخصية الممثلة (رنا لفتة)، التي قادها التنمر من شكلها، ورغبتها في الأكل، إلى أن تتحوَّل إلى ضحية تساق مع الضحايا، وقد تبنَّت سلوكاً أدائياً ،بدت فيه تميل إلى الجنون أكثر من حضورها في سرديات الملفوظ الخشنة، مستفيدة من جسدها البدين، الذي بدا واضحاً أن المخرج، قد اختار الممثلة بناءً على تطابق شكلها مع متبنيات الشخصية الطبيعية.
الجسد الديني، وذاكرة الزيف
ببراعة كبيرة، اِستطاعت الممثلة (زمن الربيعي) التمسُّك بسلوك الشخصية، التي شكَّلت ظاهرة أدائية وجمالية، فضلًا عن كونها الشخصية اللغز، ذلك أنها تمسكت بأداء حركي تعبيري، مستفيدة من بناء منظومة صوتية، بمواصفات خاصة في محاولة لتوظيف تقنيات التغريب، التي أسهمت الأزياء ذات المرجعيات الشرق أسيوية في تشكُّلها للوصول إلى شخصية ذات مرجعيات دينية، ظلت لغزاً داخل جسد العرض، باستثناء العلامات، التي كشفتها (السبحة) المباشرة، إلى أن جاءت لحظة التحوُّل الادائي الفارقة، التي كشفت فيها قدرتها على التخفِّي داخل الجسد الديني، من أجل الوصول إلى مآربها، التي عَبَّرَت عنها بسلوك مغاير تماماً عن ذلك، الذي تبنَّته طوال حضورها الأدائي، وهو تحوُّل جمالي، اِكتسبت فيه الممثلة خصوصية بالغة الأهمية.
الجوكر/ ظلال السلطة:
اِختار المخرج شخصية أيقونية؛ لتجسيد ظلال السلطة، ذلك أن السلطة لم تكشف عن نفسها، وظلت متخفية في أعماق الجدار، وما ظلالها، التي تجسَّدت على نحو فردي عن طريق الممثل (دريد عبد الوهاب)، أو على نحو جماعي في (نخبة من طلبة معهد الفنون الجميلة) إلا أنها توصيفات لحالة القمع، التي أطاحت بالضحايا في مواضع مختلفة من العرض.
تمسَّك الممثل (دريد) بشخصية الجوكر الأيقونية، التي بدا واضحاً أن اختيار المخرج للممثل يعود إلى تشابه في البنْية الجسمانية للممثل، والجوكر بصورته السينمائية؛ حتى أن الممثل تبنَّى ذات الحركة، والسلوك الغامض في التعبير عن مراوغة السلطة، ومكرها.
سينوغرافيا الجدار، ومرايا الخراب
بدا واضحاً تنوُّع الاشتغال السينوغرافي في تشكيل الجانب البصري للعرض المسرحي، مع حضور السينوغراف (علي محمود السوداني) الذي امتلك خصوصية عالية الجودة، تمثَّلت في توصيفات عديدة، يأتي في مقدمتها جماليات الفضاء البصري، الذي اعتمد فيه على تفعيل منظومة الإضاءة على نحو دقيق، من دون مبالغات بصرية، الأمر الذي أضفى بُعداً تأويلياً لمشهديات الصورة، التي أسس المخرج لها ضمن مقترحاته الإخراجية.
وقد أسهم توظيف تقنيات (الداتاشو) على نحو لافت للانتباه والتفكير، وبخاصة ما ارتبط منها في تأسيس فضاء مخاتل للفضاء الأساس ، الذي تشَكُّل عبر منظومة الضوء، ذلك أن إعادة إنتاج الاشتغال المتمثل بـ(الداتاشو) كشف عن عوالم متنوعة، ساعدت الملفوظ السردي في التعبير عن ذاكرة الضحايا، وبخاصة في مشهد (غرق الأطفال)، الذي تحوَّل فيه الشكل البصري إلى فرضيات جديدة للمعنى خارج حدود الضحية، وصولاً إلى ضحايا السلطة الخفية، فالعوالم التي تَمَّ إنتاجها خارج فضاء العرض، بدت مؤثرة في مواضع عدة، لاسيما في مشاهد تنكُّر الجوكر/ الأب في مشهد اغتصاب(الابنة)، الذي جسَّدته الممثلة (ريهام البياتي)، وكأن السينوغراف أراد المزاوجة بين ذاكرة الماضي على نحو بصري، بالتزامن مع الأداء القاسي للشخصية (الأم /الطفلة) وقد أضفى حضور شخصية (الطفلة) في العرض بُعداً جمالياً، وهي تتخفَّى خلف أبواب المنفى المستقبلي، الذي وقعت فيه بوصفها (الأم /الضحية) في ثلاثية بصرية لها وقعها الدرامي، وهو اشتغال لم يتكرر كثيراً مع باقي الشخصيات، فضلاً عن تحوُّل (الداتاشو) من العالم المخاتل إلى الحاضر الآن في مشهد (البحر) الذي تفاعلت فيه الممثلة(إسراء العاني) على نحو حركي تفوقت فيه على المنطوق السردي، باستثناء لحظتها الانفجارية أمام (مايك) السلطة.
ولم تكن صورة (الجوكر)، الذي تحوَّل إلى واحد من (القياصرة) في مشهد لتقنية (الداتاشو) مؤثراً بالرغم من قصدية اختيار الزمن التأريخي في إحالة يُراد بها تغريب الزمن، الذي وقعت فيه تلك الأحداث، أو بوصفه تعبيراً عن شكل السلطة الرمزي، الذي لم يضف متغيراً لما كانت عليه في حالة التخفِّي.
كما أن حضور الزِّيّ المسرحي للمصمم (زياد العذاري) في العرض، أكسب العرض دلالات جمالية، وفكرية عميقة، وبخاصة تحويل أزياء الممثلين في المشهد الأخير، إلى زِيّ الإعدام، زِيّ اللون الأحمر، من جهة أخرى فإن تنوع الزِّيّ المسرحي جاء منسجماً مع كل شخصية للتعبير عن الحالة الأولى، التي وصلت فيها إلى المكان/المنفى، فقد أضاف الكثير من العلامات الدالَّة للشخصيات، وإن كن جميعاً من الضحايا، إلا أن التباين الطبقي، بدا حاضراً في أزياء كل منهن.
أما الموسيقى، التي اشتغل على تأليفها وتوليفها (رياض كاظم) فقد كان لها حضور فاعل، وبخاصة في تحوُّلها من الموسيقى المباشرة، المتمثل بعازفة البيانو/الضحية، التي بدت حكايتها ملتبسة على المستوى النصي، ذلك أن إحساسها العميق بالعزف الحي، دفع بالمتلقي إلى التعرُّف على حكايتها قبل أن تكشف عنها في سرديات تعودّنا عليها في سياق العرض، إلا أن المؤلف كشف لنا عن حكاية مغايرة لا تعود إلى شغفها بالموسيقى، التي تحوَّلت مقطوعاتها إلى أوجاع أشبه بأوجاع الضحايا، بل افترض المؤلف حكاية مغايرة لأثرها الموسيقي.
من جهة أخرى، فإن المقطوعات الموسيقية، التي حمل بعضها مرجعيات عالمية، تَمَّتْ إعادة توليفها بما ينسجم مع مقترح العرض، جاءت فاعلة ومؤثرة في مواضع كثيرة من بينها، العلاقة التي تأسست مع الممثلة (آلاء نجم)، التي كانت الموسيقى ترافقها في تبنِّي السلوك الأدائي الخاصِّ بالشخصية/الضحية.
★ناقد ـ العراق .