ساره عمرو: (Nowhere) حاوية في عرض البحر، للحامل أم للمشاهد؟

ساره عمرو★
لم تخلق الحياة، لتكون مُسيَّرة من قِبَلِ البشر، فبرغم ذلك، هناك فئات تتعمد تشكيل أيدولوجيات الحياة كما يحلو لها، متدارين خلف ستار المبادئ، التي تنص على التحرر من المستنقع، في حين أنهم هم من خلقوا كياناً للمستنقع، فباتوا يحاربون ما خلَّفوه من فساد ودمار، على حساب البسطاء!…فباتت الحياة، كسفينة تتفكك عمداً، ليتساقط منها ركّابها إلى اللامكان…
خلال الأيام الماضية، أطلقت منصة نتفليكس، فيلماً جديداً إسبانياً بعنوان Nowhere، وتداوله رواد السوشيال ميديا، بعنوان (حاوية في عرض البحر)، الفيلم من إخراج ألبرت بينتو، وتأليف إيرنيست رييرا، وبطولة آنا كاستيلو ، وتمار نوفاس
تدور أحداث الفيلم بشكل واقعي، عن هروب رجل وزوجته بشكل غير شرعي خارج البلاد، عن طريق حاويات في البحر، بسبب ما حلَّ بها من ظروف منكوبة، أدَّت لتضييق المعيشة عليهم، حتى في أبسط حقوقهم كالطعام والشراب، لكن الرياح تسير كما يشتهي ناظروها، بسبب الفوضى، ينفصل الزوج (نيكو) عن زوجته ( ميا) ويتحرك كل منهما في حاوية مختلفة، تتوالى الأحداث، لتجد الزوجة نفسها وهي حاملة في طفلتهما، في داخل حاوية في عرض البحر، لا يحاوطها سوى علب بلاستيكية، وسماعات الهواتف الذكية، والكثير من الماء…
تُعَدُّ تيمة الفيلم مكررة في فكرة البقاء وسط الموت، في محاولة لإيقاظ الفطرة البشرية في التعايش والبقاء، على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة….ولكن برغم تكرار التيمة، إلا أن هذا التكرار، لم يكن بشكله التقليدي، حتى في معاني الأحداث، والرموز التي ذكرت، كان لها دور، في إبراز الرسالة التي يسعى الفيلم لترسيخها، فنرى لدينا سيدة حامل في عرض البحر، لا طعام معها، ولا ماء يكفيها، وهاتف ببطارية توشك على النفاد، والخوف الممزوج بسواد المحيط والماء، هو كل ما يحاوطها، ينتظر المشاهد أن يرى التكنيك الخاص بها، في التعايش ومقاومة الموت، وهو ما يُعَدُّ أول عنصر جذب بالمناسبة، لأن الفكرة نفسها، مثيرة للاِهتمام، ومحركة للأعصاب، تجعلنا نتساءل، كيف ستتصرف تلك السيدة ، وهي حامل في عرض البحر، حبيسة في حاوية شحن!.
في البداية كل السُبل التي حاولت أن تقوم بها طبيعية، ولم أجد ماهو مميز لسيدة حامل في وضعها أن تفعله، أو حتى إنسان عادي، فكل ما تفعله، أو سيفعله أي شخص مكانها، هو محاولة البقاء على قيد الحياة، وبالتالي الغاية هنا ستبرر ألف وسيلة، فهي تقتصد في الطعام والشراب المتبقي معها، تحاول افراغ الماء من ثقوب الحاوية وتحاول سدها، تستكشف الشحنات الموجودة في الحاوية معها، كلها أفعال طبيعية، ويظن المشاهد أن الفيلم سيستمر على نفس الوتيرة، إلا أنه بتحريك الأصابع نحو شريط الفيلم، نكتشف أننا مازلنا فقط في البداية، لنتفاجأ، كضربة الموج المفاجئة، أن السيدة تلد!…تلد بالفعل داخل الحاوية، وبمفردها في عرض البحر، وهو ما يُعَدُّ عنصراً جذاباً آخر، في العمل يثير سؤالاً عند المتفرج، ماذا ستفعل تلك السيدة هي وطفلتها؟…خصوصاً أنه لا طعام تتناوله، ولا حليب تجده الرضيعة، نرى برغم خوفها وضعفها، واستمرارها في محاولات البقاء على قيد الحياة، في الحقيقة هناك رمزية مهمة جداً في فكرة الولادة في عرض البحر، فبجانب هروبها من الجحيم، تمثلت الرمزية في فكرة البعث من جديد، وجاء التأكيد على ذلك، عندما كانت تحكي الأم لطفلتها الرضيعة معنى اسم نواه، والذي قد قرر الأب تسميتها به، وقالت ” نواه يعني الحياة الأبدية …تعلمين مثل قصة النبي نوح وسفينته”، في إشارة منها لبداية حياة جديدة، بدأت بمشقة، لأن الأصل كان شاقاً، وجحيماً ، ولم يكن جنة، وبالتالي للاِستقرار ثمن، وهو المعاناة حتى الوصول تماماً مثل سيدنا نوح عليه السلام، وهو ما حاولت الأم أن تبثه للرضيعة، من خلال الهمس والنظرات المليئة بالأمان، أيضاً فكرة الولادة داخل البحر، قد تشير لفكرة نقاء الجيل، الذي نأمل أن يكون مستقبلاً، باعتبار أن الرضيعة، ولدت حرفياً داخل الماء، وهو ما يشير إلى فكرة التعميد في العقيدة المسيحية التي تمحو الذنوب، أي أن الرضيعة التي لا ذنوب لها، أصبحت عنوة تتطهر من ذنوب العالم، الذي جاءت له دون اختيارها، وهو إشارة للجيل القادم من الأطفال، الذين يعاصرون الدمار والفساد الحالي، ويتطهرون من ذنوب طالتهم، ولم يرتكبوها.
لم ينتهِ الجانب الديني عند هذا الحد، فكما جاءت فكرة التعميد، وفكرة سفينة نوح، التي تجسدت في السيدة وابنتها الرضيعة في عرض البحر، جاءت رمزية النبي يونس عليه السلام في الحوت، الذي كان يحاوطهم، وكأنه يحميهم، فخافت منه الأم في البداية، وفي النهاية كان الحوت مرشداً لها ولاِبنتها عندما تاهت في الماء، حيث تعمد الحوت رمي الفتاة الرضيعة بالماء، لتستدل الأم عليها من صوت بكائها، ثم رحل في سلام بعدما اجتمعت الأم بابنتها، أيضاً هناك رمزية لسيدنا موسى عليه السلام في عبور البحر، للوصول لبر الأمان.
أغلب المهاجرين غير الشرعيين، هم حوامل وأسر، يجعلنا هذا نتساءل، هل التضييق في أرض الواقع على الفطرة نفسها ( الزواج؟) أم على مبدأ التكاثر نفسه، وزيادة الأعداد؟….فكل هؤلاء مهاجرون بسبب الظروف القهرية، التي فرضتها الدولة، مما أدى لخلق مجاعة، وفجوة في الاِحتياجات الأساسية، فباتت النسوة الحوامل، يهاجرن برفقة أزواجهن، وعائلاتهن، لبداية حياة جديدة في مكان أفضل، وهذا يجعلنا نتساءل، هل الفيلم رسالة لما يحدث في العالم الآن؟ هل هو تمهيد لما سيحدث مستقبلاً؟…فبرغم رمزية الفيلم، التي تعبر عن حياة جديدة ، وهي حياة ما بعد الطوفان، المُمَثَّل في الفساد والدمار، من خلال عبور البحر…إلا أنه لا يتوقف عند هذا الحد، فالفيلم يحمل العديد، والعديد من الرسائل، التي ما إن دققنا النظر، وركزنا بسمعنا لعلمناها، وربما كانت إشارات لماهو واقعي، وربما كانت تحذيرات لما هو مستقبلي، لكن الأكيد أنها ليست خيالات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
★ناقدة-مصر