مسرح

د. داليا همام :احتلال الأرض … اغتصاب

 

د. داليا همام★

تنتبه الذات لتعدد الأزمنة حين يشعر الفرد بوجود الزمن ذاته وحضوره الثقيل وقدرته على العبث بمصائر البشر وحين ندرك في لحظة أن كل شيء مصيره العدم ، وأن الزمن فقط هو المستمر اللانهائي المتجدد يصبح الوعى المكثف بالغربة مؤكد على شعور الذات بلحظتها الآنية ، فيبتعد الماضي أو تنمحي الذاكرة ويتم حجب الماضي ، تلك حالة يقدمها المخرج إبراهيم الفرن في عرضه المسرحي” اغتصاب” تأليف سعد الله ونوس.
قدم العرض على قصر ثقافة الأنفوشي بالإسكندرية، ويعتمد المخرج في عرضه بشكل أساسي على الأفكار الزمنية فمن خلال إثنين من الرواة وعبر وجهتي نظر يقدم لنا المسرحية و شخصية لفارعة (مشيئة رياض)، تعرف المتلقي الحكاية فهي فلسطينية عاشتها وكانت شاهدة عليها ، ومن خلال شخصية الدكتور (إسلام محمود) نعرف الحكاية من وجهة نظر طبيب إسرائيلي ، وبالإعتماد على الرواة يمكن إيقاف زمن الفعل المسرحي والتعليق عليه، ويستطيع المخرج أن يجعل الرواة ضمن حالة سينوغرافية لافتة للنظر فكل شخصية منهما داخل برواز متحرك يتقدم من عمق خشبة المسرح إلى الأمام، وفي الخلفية عبر الشاشة والإضاءة يمكنك رؤية العلم الفلسطيني وأطفال الحجارة وحمام السلام ،ومن الجدير بالذكر أن هذا البرواز أو الإطار الذى تتحدث من خلاله شخصيات الرواة يحدد الحيز المكاني لهم فهم شهود على الأحداث يستطيعون التنقل عبر الزمن بشكل يسير، فالبرواز يعد حلا إخراجيا به قدر من الخيال يضع الرواة في حالة من المرونة التي تسهل حضورهم واختفائهم، ذلك أنهم شخصيات تشارك في الأحداث الدرامية في الماضي ، وتحكيها للمتلقي في الحاضر،ولحظة وجود هذه الشخصيات في البرواز تتأكد كمتلقي إنها هنا تتحدث كراوي للحكاية.

تصوير: أحمد محي الدين
تصوير: أحمد محي الدين

يرصد المخرج الحالة التي استهدفها المؤلف سعد الله ونوس من خلال شخصية الدكتور وهو ذاته أحد الرواة فيقدمه كطبيب نفسي يروي للمتلقي حكاية لأسرة إسرائيلية عائلها رجل أمن يقوم بإعتقال شخصية إسماعيل (أكرم نجيب )وهو شاب فلسطيني يتم تعذيبه بأبشع الوسائل وتُغتصب زوجته الحامل أمامه لإجباره على الاعتراف ، وفي المقابل تقوم شخصية الفارعة المرأة الفلسطينية برواية حكاية إسماعيل الشاب الفلسطيني حديث الزواج وكيف أنه ناشط في خلية فلسطينية أعتقل من الجانب الإسرائيلي ولم تكن عروسه تعرف أنه ضمن خلية فلسطينية تدافع عن الأرض” ذلك الحدث وتبعاته يعد الحبكة الأساسية في المسرحية ” وصلب الأحداث وهو جوهر الصراع الذى يدفع الأحداث للأمام ” وحينما تكتمل الحكاية بالنسبة للمتلقي يتوقف الراوي عن الحكي فقد استنفذ المتن حضوره ، ووصل الحكي إلى غايته المنشودة ، وعلى المتلقي أن يرى الأحداث الدرامية في هيئة فعل على خشبة المسرح فتتجسد الحالات النفسية المختلفة لشخصيات المسرحية فكما تُغتصب زوجة إسماعيل البطل الفلسطيني تُغتصب زوجة رجل الأمن الإسرائيلي فقد استجابت لصديقه الكاذب وهو أيضا رجل أمن شارك في اغتصاب زوجة الفلسطيني ، لكن ثمة فارق جوهري بين المرأتين وهو أن الفلسطينية لم تذهب بإرادتها وكان ذلك تنكيل بها وبزوجها البطل ، بينما الإسرائيلية تعانى من الوحدة وابتعاد الزوج المضطرب فأستغل زميله ذلك فهو مجتمع متجذرة فيه الخيانة ، إن حالة الجانب الإسرائيلي تؤكد على تشرذم هذا المجتمع الدخيل.

تصوير: أحمد محي الدين
تصوير: أحمد محي الدين

يقدم المخرج الحالات النفسية المختلفة للشخصيات الدرامية ويؤكد من خلال خطوط الحركة ( دال ) واضح على حدة الصراع القائم بين الجانبين ويعتمد التأكيد على هشاشة وضعف الشخصيات الإسرائيلية برغم ما يروجه من صورة ذهنية لدى الآخر هي في جوهرها غير حقيقية فما تراه زائفا وقشرة خارجية تخفي كائن مهشم يتملكه الخوف، فزوجة رجل الأمن تشعر بالوحدة وتصاحبها الهواجس فقد يؤدى التعرض المستمر للخوف إلى حدوث إضرابات انفعالية وهذا ما قدمته رحيل (فاطمة أحمد) ، فكان أدائها يمزج بين الخوف والرفض لما تعيشه مع زوجها المضطرب هو الأخر حيث يقدم المخرج “إبراهيم الفرن” مشهد التعذيب للمناضل الفلسطيني وزوجته بشكل يؤكد على سادية المحتل الأمر الذي قد لا تتحمله النفس البشرية وهو ما يشير إليه الدكتور النفسي وهو يروي الأحداث فلم يتحمل الزوج / رجل الأمن الإسرائيلي هذه الحالة فأصابه الضعف النفسي والجسدي،لذلك لجأت زوجته لصديقه جدعون ( عادل سعيد) الذي أدى الدور الموكل اليه بشكل يكمل الصورة التي أراد المخرج التأكيد عليها.
تدور المسرحية في فلك الأحداث الفلسطينية وترصدها من جميع جوانبها وتؤكد بشكل أساسي على عدالة وأهمية القضية الفلسطينية ،وتنتهي المسرحية مشيرة إلى أن الأرض عربية رغم قسوة القائم فيها .
الممثلون “أريج، عبد الرحمن عيد، مينا أسامة ، رمضان أبو شنب، أحمد عماد، سوزي الشيخ ، أحمد عامر ، مروان محمود” قدموا جميعا الأدوار الموكلة إليهم بتوافق مع طبيعة بناء الشخصيات والتي في النهاية تخدم الحدث الدرامي.
قدم الدراماتورج د.أيمن الخشاب والدراما الحركية سمر القصاص ، والإعداد الموسيقى أحمد الخشاب ، محمد إبراهيم، فيديو مابينج محمد المأمونى .

تصوير: أحمد محي الدين
تصوير: أحمد محي الدين

ومن الجدير بالذكر أن عنصر الإضاءة يعد من أهم العناصر في عرض اغتصاب ذلك أن خشبة المسرح في العديد من أجزاء العرض تعد خالية تماما الا من أجساد الممثلين، وبذلك شكلت الإضاءة الفضاء المسرحي وأحالت المتلقي إلى العالم المراد الإشارة اليه داخل العرض، وقد قام بتصميم وتنفيذ الإضاءة أحمد طارق ، أما الملابس والديكور لإبراهيم الفرن وقد كان الديكور معبرا عن دراما العرض المسرحي على الرغم من ميله الى التجريد فهو يعبر عن المكان ويحيل اليه دون التأكيد على التفاصيل ، وعلى سبيل المثال معتقل التعذيب الإسرائيلي به مركز قيادة وهو عبارة عن مستوى متنقل يتم الصعود إليه عبر درجات سلم ، وهو ما يشير ضمنيا إلى فكرة الاستعلاء في مجتمع قائم على عدم التوازن.
عرض اغتصاب من العروض الجديرة بالمشاهدة والتأمل ويكشف عن المسكوت عنه ويؤكد عليه.

تصوير: أحمد محي الدين
تصوير: أحمد محي الدين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

★ ناقدة فنية – مصر 

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى