سينما

آية الكحلاوي: حيدر… كيف انتقل هاملت إلى كشمير؟

آية الكحلاوي★

ساهم الشاعر والأديب الإنجليزي وليم شكسبير في مد وإثراء المحتوى السينمائي والتلفزيوني والمسرحي على مر العصور في كل العالم، وأحيانا نجد بعض تلك المعالجات تغلبت على قصة شكسبير الأصلية لولا أنه يحتفظ بفضل السبق، ومن بين تلك المعالجات تتراقص في أعيننا في غنج وزهو معالجة فيشال بهردواج لهاملت في حيدر الذي قدمه للسينما الهندية في ٢٠١٤ من بطولة شاهد كابور.

فنجد هذا الفيلم تفوق على هاملت من حيث الحبكة والمبررات المقدمة بجانب فنيات السينما التي حلقت بالقصة من حيز ضيق لحيز أرحب، إن هاملت المسجون في قضاياه العائلية اعتنق القضايا الكبرى في حيدر وهذه نقطة قوة أخرى اكتسبها حيدر ليعلو بها على هاملت.

يعرف فيشال بهردواج مخرج فيلم حيدر بغرامه بنصوص شكسبير، حتى أن اثنين من أهم أفلامه كانوا اقتباسا من شكسبير، فقد سبق قبل حيدر أن أخرج في ٢٠٠٣ فيلم “مقبول” الذي استوحاه من ماكبث ثم اتبعه بعد ثلاثة أعوام بفيلم “اومكارا” الذي استوحاه من عطيل، ولكنه في حيدر استطاع أن ينقل التحولات الشخصية والجنسية والإنسانية من هاملت إلى حيدر بجانب تأكيده واحاطته القصة بغلاف سياسي انساني حقوقي، أن جعل هاملت/حيدر كشميريا يعاني وعائلته وشعبه مما عانى منه الكشميريين على مر السنين الطويلة، ولكنه سما وأبدع وغاير عن الأعمال الكثيرة التقليدية التي تناولت كشمير من وجهة نظر المعتدي/المستعمِر (الحكومة الهندية) الذي كان يركز في دراماه على الصراع بين الهند وباكستان على الإقليم المسلم إشارة إلى معتقد أغلبية سكانه، فتجاوز هذا الصراع  فأنصف الكشميريين بأن ركز على الإنسان في كشمير والانتهاكات التي تقع في حقه.

من العجيب أن لا ينل هذا الفيلم حقه في الأوساط العربية سواء في التلقي أو النقد، رغم أن الإنسان العربي يقع تحت اضطهاد مماثل في فلسطين، فاستلاب الأرض واحد والمعاناة نفسها، ويبقى السؤال، لماذا مثل هذه القضايا تغيب آنيا عن الوعي والذوق العام العربي؟!.

الزمكان في حيدر

اختار فيشال بهردواج المكان والزمان بذكاء ووعي شديدين، فنجده عاد للعام ١٩٩٥ حيث التمرد والثورة المسلحة في كشمير وخاصة سرينجار الجزء الواقع تحت سيطرة الحكومة الهندية فتفاجئنا ببيئة خصبة تتمدد فيها محاور صراع هاملت الأصلية بشكل أكثر احتدام وواقعية، وقد أتاح الزمان والمكان المختارين في الفيلم القدرة للمخرج بهردواج والذي شارك في الكتابة مع بشارات بير أن يربط حيدر/هاملت بالبيئة والأحداث السياسية المحيطة وأن يشركه في هموم وقضايا أكبر بدلا من حسره في قضايا ذاتية عائلية.

قصة الفيلم

فنجد الفيلم احتفظ بالإطار العام للمسرحية ولكنه خالفه المضمون، حيث نجد أن حيدر/هاملت يعود من جامعته في الهند إلى كشمير في ذروة احداث التمرد  بعدما علم أمر اعتقال والده بتهمة الخيانة واختفاءه قسريا، ويبدأ في رحلة البحث عنه تساعده في ذلك ابنة مسئول الأمن في كشمير أرشي/اوفيليا والتي اكتسبت في الفيلم جوانب واقعية شديدة حيث أنها تعمل كمراسلة صحفية، ويتم التواصل مع حيدر من جانب المتمردين ليعرف منهم حقيقة ما حدث لوالده والتعذيب الذي تلقاه قبل قتله ورميه في نهر جوليم، ويعرف منهم أيضا ما هو أهم حيث أن عمه الذي يعمل كمخبر للحكومة الهندية هو من أوشى بأبيه لرغبته في الزواج من أمه، وتبدأ من هنا رحلة حيدر للانتقام .

والفيلم ارتقى عن كل ما هو فانتازي وخيالي وجنسي، فنجد أطراف الصراع برزت أكثر فأكثر في الفيلم، حيث على الضفتين المتقاتلين نجد المتمردين والثوار في جهة وعلى الجهة الأخرى السلطات الهندية وبينهما حيدر بين حجري الرحى، فهاملت الذي أخبره شبح والده بحقيقة اغتياله تحول لحيدر الذي اجتذبه قائد التمرد روحدار الذي كان شريك والده في معتقل ماما2 ليخبره بحقيقة موت والده وتورط عمه وأمه في موته، فكان روحدار والمتمردين هما المحرض الأول لحيدر على الانتقام ليكون وجها لوجه مع الحكومة الهندية في كشمير بعدما فاز عمه بالانتخابات مستغلا مأساة أخيه والد هاملت للترويج لنفسه.

ومن هنا ركزت قصة الفيلم على حقوق الإنسان في كشمير بعرضه التعذيب في المعتقلات ومحاولة تجفيف النسل للمسلمين في كشمير بخصي المعتقلين وحالات الاختفاء القسري، إن والد حيدر نفسه تم اتهامه بالخيانة لأنه قام بمهامه كطبيب بعدما عالج أخلاق حسين قائد التمرد.

الأغاني والاستعراضات

من أهم ما يميز الأفلام الهندية هي الرقصات والأغاني الإستعراضية فنجد أن الفيلم الهندي كالفطيرة التي لابد من حشوها بالمكسرات، ففي الغالب الأشمل من أجل عدم التعميم نجد أن هذه الاستعراضات حشو لا طائل منه، لكن في حيدر الأمر مختلف، فالفيلم أولا لم يحتوِ إلا على استعراض واحد تم استغلاله فنيا ودراميا بشكل أكثر من رائع أفاد الحبكة وجعلها أكثر تماسكا، حيث تم استبدال التمثيلية التي قدمها هاملت لكشف خيانة عمه باستعراض أكثر من رائع يقدمه حيدر في حفل زفاف والدته وعمه ليتأكد من خلاله من كلام روحدار بخيانة عمه وأمه لوالده، فنجد في هذا الاستعراض توظيف الشبح رمزيا من خلال الدمى، ففي الخلفية تتركز دمية كبيرة لشبح بوجهين، وجه طائر ببغاء جميل إشارة لعمه الذي ينقل الكلام والوشاية التي اقترفها في حق أخيه، ورويدا رويدا يستدير هذا الوجه لنرى الوجه الآخر وهو وجه شبح ووحش مخيف في إشارة لوجه عمه الخفي الداخلي الذي بكل وحشية قدم أخيه قربانا للموت من أجل الفوز بزوجته التي شغفت قلبه.

بجانب هذا الاستعراض تم توظيف أيضا مشهد حفار القبور في هاملت، بمشهد لمقابر جماعية للمختفين قسريا وحفارين القبور أنفسهم ينتمون للمتمردين وينضم لهم هاملت، ويتم تقديم أغنية so jao  بمعنى اخلد للنوم ويتحدثون فيها عن الموت وهم يحفرون قبورهم في الجليد.

توظيف التراث الكشميري

عند الحديث عن فنيات الفيلم من أزياء ومكياج واكسسوار وديكور وموسيقى واستعراضات سيلفت انتباهنا توظيف بهردواج التراث الكشميري في الصورة السينمائية التي قدمها، من أول توظيفه للرقص والأداء الاستعراضي المميز لشعب كشمير في الاستعراض الوحيد للفيلم bismil حتى اللغة، فشريط الصوت لا تخلو معظم جمله الحوارية من كلمات عربية كثرتها تلفت الانتباه، بجانب تركيز الكاميرا على الرسم العربي للحرف، فنجد لوحات عدة تحمل كلمات كتبت بالحروف العربية، إشارة لتراث كشمير بالتواجد العربي فيها وأصل وثقافة شعبها.

هذا بجانب الموسيقى التي وضعها بهردواج بنفسه والتي تقترب بشكل كبير من قالب الموسيقى العربية.

أما الأزياء فلم تخالف حقيقة كشمير ولم تعادها، فتفاجئنا بأرشي/أوفيليا محجبة وكذلك غزالة ميير والدة هاملت وكل نساء الفيلم، فبخلاف البدلة الكاكية للجيش الهندي كانت الأزياء جزء يشير لهوية كشمير.

العصا السحرية لبهردواج

امتلك بهردواج عصا سحرية قدم بها العناصر السابقة في خفة الساحر من خلال لمسات اخراجية ماهرة وتقديم كادرات عظيمة تشكيليا كالتي اشتهر بها كبار المخرجين في العالم من حيث توزيع العناصر الجيد لإعطاء تعبيرات صامتة تؤثر العقل قبل أن يؤثر الحوار الأذن، فاشتغل بهردواج على هذا التنويع والتشكيل البصري بشكل جذاب وملفت.

فمثلا في هذا الكادر نلاحظ صفين من المؤدين وضعهم الجسدي يحيل للاختناق فهما يخنقان ويحصران الدمية التي تمثل والد هاملت من الطرفين وهو في وضع ضعف وانكسار ظاهرة في انحناء جسد الدمية ورخوتها بينما يحاصر من الخلف بوحش مخيف، شبح أكبر منه حجما ويسيطر عليه من الخلف بأن بسط ذراعيه للإحاطة به  هو أخيه كورام الذي طمع في زوجته فتخلص منه بأن قدمه وليمة للسلطات الهندية بطعنة من الخلف بعدما أخبر عنه أنه يخفي قائد التمرد في منزله، ومن المدهش في هذا الكادر عدم استبعاد حيدر منه، فحيدر يتصدر هذا الكادر بل هو الذي يقدمه لأنه يدل عن وجهة نظره في الخيانة التي تعرض لها والده بل أنه مطالب بالانتقام من هذا الوحش المخيف.

المنعطفات الجنسية في هاملت

حافظ الفيلم على النقاط الرئيسية في الفيلم كالمبارزة وموت والد اوفيليا وخيانة الأب وزواج الأم من العم مع تقديم بيئة مختلفة ووقائع مختلفة، ولكن المنعطفات الجنسية في الفيلم بدت مشوشة وكأن بهردواج مع بشارات بير كانا محتارين هل يقدمونها أم يتجاهلونها وخاصة أن الصراعات المقدمة في الفيلم كافية لتأجيج هاملت/ حيدر واشتعاله، وظهر هذا التردد في تقديم المنعطفات الجنسية لحيدر المتمثلة في مشاعره تجاه أمه، فالفيلم قدم علاقة طبيعية تماما بين أم وابنها منذ أن كان مراهقا حتى عودته من الدراسة، والغيرة والغضب من حيدر لعمه كان مبررا بشكل رائع، حيث أقام المخرج مشهد بالفلاش باك كبيرا ليوضح العلاقة المقربة والكبيرة بين حيدر ووالده، الذي فهمنا من خلاله أنه أشد قربا من والده عن والدته، فالغضب الكبير من العم تم تبريره بغير المبررات الجنسية تجاه الأم، ولكننا في مشهد النهاية تفاجئنا بتقرب الأم غزالة من حيدر وصلت لدرجة تقبيله من فمه، في محاولة منها لجعله يلقي سلاحه ويستسلم، ولكن حيدر لم يستجب لهذا الإغراء، فما الداعي لهكذا مشهد وقد ظهر غير مبررا؟

وهكذا فقد كان الفيلم حالة متكاملة معبرا عن السينما التي تقدم ما هو انساني وتوعوي بما هو جمالي وفني فنجحت الخلطة، وخاصة بمجهود الكادر التمثيلي بقيادة شاهد كابور الذي أدى حيدر/ هاملت في براءته وحياديته ثم حيدر/ هاملت في جنونه وتمرده ثم حيدر/هاملت في انتقامه، ولكن يبقى بدون شك دور كورام/ كلاديوس عم حيدر الذي أداه القدير كاي كاي مينون هو الاعظم على الإطلاق بإطلاقه شحنة من الانفعالات عبر الوجه وكأنها تخرج من القلب مباشرة.

غير أن رسالة الفيلم التي قيلت صراحة في نهاية الفيلم أفسدت مصداقيته، فالرسالة التي يريد بثها الفيلم هي ” الانتقام يولد الانتقام.. الانتقام لا يحررك” وكأن مشاكل حيدر التي قضت عليه كانت بسبب رغبته في الانتقام! وليست مأساته تكمن في إنسانيته المهانة وملاحقاته الأمنية، فكل المآسي التي تم عرضها في الفيلم  تم نسيانها في النهاية وتم تذكر فقط شؤم الانتقام، فظهر كدعوة لشعب كشمير للاستسلام مما أفقد الفيلم المصداقية في النهاية، ودائما هي الدعوة للمظلوم أن يستسلم وترك الظالم في شره مستطيرا.

ونتيجة لرسالة الفيلم المغايرة تماما لرسالة هاملت شكسبير فقد تغيرت نهاية حيدر أيضا عن نهاية هاملت، حيث بقي حيدر على قيد الحياة بعدما اقتنع أن الانتقام لا يحرره.

ومن هذا التوظيف الجيد لهاملت اتضح أنه ليست شخصية جامدة لا تصلح إلا للبيئة الدنماركية التي خلق فيها، بل شخصية إنسانية مرنة تستطيع التأقلم مع كل بيئة تستدعي حضوره، وقد أجادت السينما الهندية في استقباله وتقديمه بشكل أكثر مأساوية، وهي الطريقة نفسها التي استقبله بها العرب حينما استدعاه ممدوح عدوان في هاملت يستيقظ متأخرا عبر نفس الوسيط المسرحي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

★ ناقدة ــ مصــر

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى