مشاركات شبابيةموسيقي

رؤى العنزي: مين شادية؟!.. ومين سعاد حسني؟!

رؤى العنزي★ 

ذات يوم .. كنت أدندن أغنية للفنانة شادية .. وإذا بشاب بعمر الـ ٢٦ سنة وشابة بعمر الـ ٢٤ معي في العمل يقولان لي: “شو هالأغاني الغريبة يلي بتضلي تغنيها”.. قلت لهما _والاستغراب يبدو ظاهراً على وجهي_ : “عم غني لشادية” .. قالوا لي: “مين شادية”؟.

اِستغربت سؤالهم مجدداً واعتقدت أنهما يمزحان، فمن لا يعرف “شادية”!!!. رغم ذلك وضعت فيديو الأغنية التي أدندنها على موقع اليوتيوب لأسمعهم إياها، وإذا بزميلتي تقول لي: “اي مو هي تبع ريا وسكينة”.. قلت لها: “اي” .. فسألتني: “ليش بتغني؟!” .. وهنا لم أستطعْ تَحَمُّلَ الأمر.

مشهد من مسرحية ريا وسكينة

حين عدتُ إلى المنزل، كنتُ أفكر طوال الوقت بأنني كفتاة بعمر الثانية والثلاثين سنة، لستُ ببعيدةٍ كثيراً عن العشرينات.. فرغم أني ولدت سنة ١٩٨٩ للميلاد، ورغم حبي لفترة الثمانينيات، فأنا أعتبر نفسي من جيل التسعينيات؛ حيث لم أشهدْ سوى أربعة أشهر من آخر سنة في الثمانينيات.

إذًا كيف حدثت هذه الفجوة!

الفجوة هنا لا علاقة لها بعمر الإنسان. إنها فجوةٌ اجتماعيةٌ وفنيةٌ ،خُلِقتْ بسببِ ظروفِ البلاد السيئة مؤخراً، كل ما فكرت به أن التاريخ القديم والحديث، مهما كان بسيطاً أو عظيماً، يتم محيه، والفجوة هذه تمحي معالم كل شيء كان قبلها.

مشهد من فيلم صغيرة على الحب

وكحادثة أخرى، أذكر مرة فتاة كانت تستمع إلى ريمكس لأغنية “يا بحر الهوى” التي غنتها الفنانة “سعاد حسني” في فيلم “صغيرة على الحب”. الأغنية تم تعديلها، لتصبح أغنيةَ مهرجاناتٍ، تفاجأتُ وحزنتُ على الأغنية.

أنا أتفهم فكرة أن المرءَ أحياناً يحتاجُ لسماع أغنيةٍ بلا معنى ولا موسيقى، تطربُ لها الأذنُ… أفهمُ الرغبةَ في سماع شيءٍ بسيطٍ، يُبهجُ القلبَ، ويبعدُ ضغوطَ التفكير، ولكن ليس من الجميل أن يتم نسفُ جُهدِ شخصٍ وخصوصاً إذا كان فناناً، ويُستَخف بنتاجه أو فنه بهذه الطريقة، لدرجة أن تصبح الأغنية مشهورة بشكلها السخيف هذا، ولكن الأفظع قادم فقد قلت: “ليش هيك عاملين بالغنية”!!. فتقول لي الفتاة: “ليش هي الغنية لحدا؟.” قلت: “هي لسعاد حسني وكتير حلوة”، فقالت “مين سعاد حسني”؟.

الموضوع بالنسبة لي أصبح جدياً جداً؛ فأنا معتادة على فكرة الاستماع لعبد الحليم حافظ صباحاً مع فنجان القهوة، والاستماع لفيروز ليلاً. الاختلاف عن الذوق السائد هنا ليست المشكلة، لكن كما قلت أنا معتادة على أن أستمع لعبد الحليم ،ومعتادة على أن يقول لي البعض بعمر العشرينات: “حطيلنا شي بيفرح” أو “حطيلنا شي جديد”

أنا أتفهم تماماً اختلاف الأذواق؛ لكني لم أستطع أبداً تقبل تلاشي الموروث والإرث المهم “الفن الحلو اللي عم يخلص”

لاشك بأن لكل بدايةٍ نهايةٌ في عالمنا المكتوب، له حتمية النهاية قبل بدايته، ولكن.. سواء آمنتَ بذلك أم لا.. فأنت على يقينٍ، بأنه على الأقل في هذه الحياة.. “كل شي رح يخلص”

بين الـ “عم” والـ “رح” اختلافاتٌ نفسية.. فالـ “رح” هي معرفتك الأكيدة، بأن حياتك على الأقل ستنتهي يوماً ما، لكنك تعيش أيامك بفرح، أو باقتناع، أو بلا مبالاة.. دون التفكير المستمر بذلك اليوم، الذي “رح” تنتهي فيه حياتك.

أما “كل شي عم يخلص” الجملة هنا؛ تدل على شعورك البائسِ بأن كل ما حولك ينتهي، وبالتالي ستنتهي أنت.. وهنا أتحدث عن المعنى النفسي للحياةِ، لا الموت والحياة بالواقع.

بوستر أغنية كل شي عم يخلص

الفنانة ماجدة الرومي -على سبيل المثال- في أغنية “كل شي عم يخلص” الأغنية هنا لا تتحدث عن وفاة الشخص بحد ذاته، وإنما بانتهاء مظاهر الحياة متمثلة بالأمل، النجاح، وتحقيق الأهداف، والسلام، والحب، والكثير من العناصر التي تمنحنا شعور الرغبة في الحياة.

وهنا – لدى الأشخاص الذين فقدوا شغف العيش – ستجدون فئتين متعاكستين؛ الفئة الأولى التي تشبه الأغنية؛ وهي فئة تظهر يأسها ونكرانها للواقع ومرارته، وترفض العيش في واقع يدمر كل ما حولها حتى بات كل شيء في عيونها.. “عم يخلص” ولا سبيل للإحساس بالحياة؛ لكنها في داخلها مع كل مرة ترفض هذا الواقع، تناديه في خفاء وتقول: “خدني حبيبي عجل خدني الدنيا عم بتغيب”.

تنادي منقذها الذي سيقدم لها معنىً جديداً للحياة، ويحول عمى الألوان، إلى ربيع أخضر.

أما الفئة الثانية؛ فهي التي تُشعرك بأن الحياة طبيعية والواقع يسير في خطٍ مستقيم، تنتظر غودو؛ أو بمعنىً أوضح، تنتظر ذاك الأمل ،وتلك الطاقة الإيجابية، والحياة الوردية.. رغم أنهم في أعماقهم يعرفون جيداً.. بأن غودو لن يأتي.

أنا من الفئة الأولى.. فئة تماثل الدون كيشوت؛ الفئة التي تعيش عالماً لا يشبهها.. وتنادي بصوتٍ عالٍ ذاك الماضي.. لأنها ترفض الواقع الذي تتواجد فيه.

لقد كنت متقبلة لفكرة أنني أصبحت فتاة في الثلاثينيات، لا تجد أحداً قريباً من عمرها، تتحدث معه عن الفن الذي أحبته حتى حصلت على بكالوريوس المعهد العالي للفنون المسرحية، وإن لم تعد تنطق مصطلحات، مثل ستانسلافسكي، ومسرح العبث، وألكترا، ومسرح المضطهدين، حتى غودو لم أعد قادرة على شرح حالة معينة بكلمة واحدة كـ غودو.. إذ يجب عليَّ أن أشرح من هو غودو قبل أن أنطق بهذه الكلمة، وهنا يضيع المعنى أصلاً.

لم أعد أعيش المسرح، فكل من كان معي في المعهد العالي للفنون المسرحية لم يعد موجوداً في البلد، وأصبح كل من حولي بعيداً جداً عن اهتماماتي الفنية والمسرحية.

عبد الحليم حافظ

لم أكن أتوقع أن هذا الإرث الفني الذي يحمل هوية من اجتهدوا، ليصنعوا فناً يشبهنا أصبح عند فئة كبيرة غير معروف أساساً.

أتخيل نفسي وأنا مسنة، أجلس على الشرفة، أستحضر صوت عبد الحليم، لأنه لم يعد يوجد له أي تسجيل.. يعني.. حتى الصوت.. “عم يخلص”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

★ خريجة دراسات مسرحية ــ سوريا

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى