رأي

علاء الجابر: مؤسسة شومان، ليست وزارة ثقافة.. بل أكثر!

علاء الجابر★

لو فكر كل واحد من الأثرياء العرب، بأن يتبرع بنسبة 1% من ثروته، في دعم الأنشطة الثقافية، لأصبحنا من أكثر الأمم تقدماً في العالم، لكن وللأسف الشديد، قلة قليلة منهم من يفكر بالجانب الثقافي على مستوى الوطن العربي كله، لعل من أحد البارزين منهم، الراحل عبد الحميد شومان ( 1888- 1974) الذي ترك وصية لأبنائه لإنشاء مؤسسة عبد الحميد شومان، المختصة بدعم المجالات الثقافية والبحثية، حيث تم تأسيسها بعد وفاته بأربع سنوات على يد ابنه عبد المجيد، وظلت تزدهر حتى اليوم، وصولاً لحفيده، الذي يحمل اسم جده عبد الحميد.

عبد الحميد شومان الحفيد وخلفه صورة عبد الحميد الجد

(ليست وزارة ثقافة، بل أكثر)… هذا ما خطر في ذهني، وأنا أحط الرحال في مؤسسة شومان، التي تحتل مبنى كاملاً بطوابقه الثلاثة، بالإضافة إلى سطح المبنى والسرداب، ورغم أن المبنى صغير في حجمه كما يبدو من الخارج، إلا أنك تفاجأ بخلية نحل حقيقة بين أرجائه، سواء من العاملين في المؤسسة، أو من مرتادي مكتبتها، والمشاركين في أنشطتها وفعالياتها، جميعهم يتنقلون بين أقسام المبنى، بهمة ونشاط.

اللوحات الفنية لكبار الرسامين في كل مكان في المؤسسة

فندق 5 نجوم!

جاءت زيارتنا لمؤسسة شومان ضمن مبادرة (أصدقاء المكتبة)، التي تترأسها الصديقة أمل الرندي، الزيارة التي أشرت لها في مقال سابق بعنوان (أصدقاء المكتبة في بلاد النشامى.. بين أطفال المخيمات والمدارس).

ريتا زيادة، محمد جمال عمرو،حياة الياقوت،أمل الرندي،علاء الجابر،مهند الرطروط أمام المكتبة العامة للمؤسسة

 ما إن دخلنا بهو المبنى، الذي تحسبه لفرط أناقته، فندق 5 نجوم، حتى استقبلنا مسؤولو الأمن بهندامهم الراقي، ومنذ خطوتنا الأولى نحو السلالم، كان في استقبالنا بكل تواضع الأستاذ موفق ملكاوي، مدير المنتدى الثقافي والجوائز الأدبية، الذي عرّفنا على طبيعة العمل في القسم المخصص للجوائز.

مهند الرطروط وريتا زيادة

بعدها أنار المكان بِطَلَّتِهِ الأنيقة، رئيس قسم العلاقات العامة، مهند طلال الرطروط.. الذي رافقنا على مدار أكثر من ساعتين في جولتنا في المركز الثقافي المتعدد الأنشطة، بدءاً من مكتب منسق برنامج البحث العلمي والجوائز، ومسؤولتها الراقية، ريتا زيادة، التي استقبلتنا بود وكرم كبير، حيث أهدت لكل عضو في المبادرة، مجموعة من الإصدارات الفائزة بجائزة شومان لأدب الأطفال، الجائزة الواسعة الصيت على المستوى العربي، والتي يمكن اعتبارها أحد أهم وأشهر جوائز ادب الأطفال العربية، لم تكتف ريتا بذلك، بل دعتنا والأستاذ مهند، لاحتساء المشروبات الساخنة في مقهى الروف المخصص لموظفي المركز، وبعد تبادل الحوار عن طبيعة مبادرة أصدقاء المكتبة ومسارها، والتعرف على طبيعة عمل المركز، تنقلنا في أجنحة المركز المتعددة؛ ما بين قاعات خصصت للورش الموجهة لبعض العاملين في المركز

قاعة الورش والندوات

وقاعة السينما التي تضم مجموعة كبيرة من الأجهزة السينمائية الأثرية القديمة، والتي وكما أشار الأستاذ مهند، تقدم برنامجاً متواصلاً لعرض الأفلام، حيث يرافق كل فيلم ندوة تعقيبية يشارك بها مؤلف أو مخرج الفيلم، وناقداً سينمائياً يتولى التعقيب على الفيلم، ورغم أن قاعة السينما تضم أكثر من 100 مقعد، إلا أنها غالباً ما تصبح مزدحمة وغير كافية، لذا يتم الاستعانة بشاشة كبيرة في سطح المبنى (الروف)، لعرض الفيلم في نفس الوقت لبقية الجمهور.

بين موفق ملكاوي ومهند الرطروط بجانب قاعة السينما

ما المشكلة إذا تناول مشروبه في المكتبة!

على الجانب الآخر عَرَّفنا مدير مكتبة شومان العامة، الأستاذ غالب مسعود، على آلية العمل في المكتبة، التي كانت مزدحمة بالقراء من كل الأعمار والتوجهات، بحيث لا تكاد تجد مقعداً فارغاً فيها، ولعل الأمر اللافت لِلانتباه، وعلى عكس السائد في كل المكتبات، أن رواد المكتبة كانوا ينعمون بتناول مشروباتهم الساخنة، أو الباردة أثناء وجودهم داخل المكتبة، سواء أثناء الكتابة، أو على المقاعد الأخرى المريحة، التي كان يسترخي عليها البعض محتضنين كتبهم، بجانب ذلك، لاحظت على الزاوية الأخرى من المكتبة، واحداً من أشهر المقاهي في الأردن، لتقديم كل منتجاته من مشروبات، ومأكولات لرواد المكتبة بسعر التكلفة.

غالب مسعود يشرح آلية بعض جوانب العمل في المؤسسة

ولأني كثيراً ما أرى أغلب المكتبات العامة، تمنع روادها من تناول الأطعمة، بقرارات جوفاء، لا تشجع على ارتياد المكتبة، سألت الرطروط: في حين يتشدد أغلب القائمين على المكتبات مع الرواد، وخاصة فيما يتعلق بالمأكولات والمشروبات، أجدكم لا تمنعونهم عن ذلك، حتى على طاولات القراءة، وأمام أجهزة الكمبيوتر التي تملأ المكتبة!؟ رد الرطروط بكل ثقة: ما المشكلة إذا تناول رواد المكتبة مشروباتهم وهو يقرأون؟ نحن نريد أن نجعل من المكتبة مكاناً للمتعة والفائدة، لا مكاناً طارداً للشباب، ثم إننا تعلمنا مع السنوات، أنك إن أعطيت الشباب الثقة، وتحمل المسؤولية، أعطوك أضعاف ما تتوقع.

اقرأ بالطريقة التي تحب في مكتبة شومان فلا أحد سيمنعك!

اِقرأ واكسب جوائز!

أما إذا فكرت بالانتقال إلى ردهة المكتبة، فستجد فيها تقليداً مميزاً، يُعرف بـ (تنسيب الكتب)، ويقضي هذا التقليد بأن يرشح أي أديب معروف، بعض الكتب لرواد المكتبة في مكان مخصص لذلك، يتم فيه عرض الكتب التي رشحها، وإتاحتها للقراءة، أو الاستعارة من قبل رواد المكتبة.

اقتراحات أمينة المكتبة من الكتب

من بين ما شاهدته من أفكار إبداعية كثيرة في المبنى، يعرض المركز العديد من اللوحات التشكيلية، لكبار الفنانين الأردنيين، والعرب ممن اقتنت المؤسسة أعمالهم، خاصة لوحات مروان قصاب باشي، الفنان السوري، الذي أعشق أعماله، بعد أن تعرفت عليه من خلال ما كتبه عنه الأديب السعودي المبدع الراحل، عبد الرحمن منيف في كتابه (رحلة الحياة والفن)، بالإضافة إلى الكثير من الأعمال الفنية الأخرى، التي امتلأت بها ردهات، وقاعات المؤسسة،إضافة لطاولات أخرى، خصصت لمحبي لعبة الشطرنج، وخزانات تحتوي كنوز من الطوابع القديمة القيمة.

حتى نشاط الشطرنج موجود في المكتبة

نسيت أن أذكر أن المكتبة أصدرت قراراً رائعاً، يقضي بمنح النقاط لمن يقرأ أكثر في مسابقات القراءة التي يقيمها المركز، ومن ثم منح الرواد الأكثر قراءة، جوائز قيمة، مثل أجهزة الحاسوب، والكتب، وجوائز أخرى عديدة.

لا مكان خال في المكتبة العامة

مكتبة لمبيت الأطفال!

أما مكتبة الأطفال فتلك حكاية أخرى؛ فهي ليست مجرد مكتبة تضع كتباً للأطفال على أرففها، بل عالم سحري، يرتاده الطفل منذ اللحظة التي تطأ فيها قدماه أرضها.

مهند ومحمد داخل مرسم الأطفال

حيث يدخل إليها من خلال باب صغير يتناسب وحجمه، ويعيش فيها ساعات من الاندماج في تصفح الكتب وممارسة الأنشطة العديدة المتنوعة، ما بين المسرح، والرسم، والعرائس، وغيرها من الأنشطة، التي تمتلئ بها المكتبة.

أمينة مكتبة الأطفال ربيحة أبو غيث

بل إن المكتبة ابتدعت نمطاً جديداً، لم يسبق أن سمعت عنه في جميع المكتبات التي ارتدتها في العالم، حين خصصت ليلة المكتبة للأطفال، وهو تقليد يطلب من أولياء الأمور، إبقاء أطفالهم ليوم كامل حتى اليوم التالي، للاستمتاع بما تقدمه المكتبة من أنشطة، ومن ثم النوم في نفس المكتبة من خلال مقاعد مخصصة لهذا الغرض، مما يجعل كل هؤلاء الأطفال تحت مسؤولية العاملين في المكتبة، لتلك الليلة الفريدة بما فيها فائدة ومتعة وكسر للمألوف، بقيادة القائمين عليها، ربيحة أبو غيث، ورهف نصار ومحمد.

اهداء كتبي الخاصة وكتب الأمانة العامة للأوقاف لمكتبة الأطفال للقائمات على مكتبة الأطفال ربيحة أبو غيث ورهف نصار

أشرطة الفيديو .. مقاعد وطاولات!

كسر المألوف في مركز شومان، تجده أيضاً في ممارسة إعادة التدوير بشكل عملي، دون أي استعراض، أو محاضرات تنظيرية، حيث تلاحظ بسهولة، المواد التي تم فيها إعادة تدوير أشرطة الفيديو VHS، التي لم تعد تستخدم، والاستفادة منها عبر صناعة الكثير من الطاولات والمقاعد، بل وحتى القطع والتحف الجميلة، التي تم توزيعها في ردهات المركز، وفي المقاعد الخارجية المحيطة بالمبنى.

أشرطة BHS تحولت الى أعمال فنية جميلة ضمن خطة التدوير في المؤسسة

كتب في ثلاجة الشارع!

حين تغادر تلك الأرض السحرية التي تدعى (مؤسسة عبد الحميد شومان)، وتعتقد يقيناً أن رحلتك قد انتهت، فاعلم أنك مخطئ تماماً، فلا زال هناك نشاط تابع للمركز بشكل عام، والمكتبة بشكل خاص ينتظرك خارج أسوار المركز، حين تبصر ما يشبه ثلاجة الأغذية، التي تجدها في الأسواق المركزية بأبوابها الزجاجية، وما إن ترفع عينك الى الأعلى، حتى ترى يافطة مكتوب عليها (مكتبة الرصيف)، وتقترب منها وتفتح أبوابها، لتجدها مليئة بالكتب، وحين تتساءل: ما السر؟!، يجيبك أفضل مرشد رافقك في تلك الرحلة، مدير العلاقات العامة مهند الرطروط: بكل بساطة مكتبة الرصيف سياستها، أن تختار كتاباً تحبه من مكتبة الرصيف، وبالمقابل تضع مكانه كتاباً خاصاً بك، سبق أن قرأته واستغنيت عنه، أي أن تلك المكتبة، تعتمد على نظام المقايضة أو التبادل، كتاباً بكتاب.

مكتبة الرصيف

رسالة لأثرياء العرب

ما إن ابتعدت عن ذلك المبنى السحري، الذي يضم كل تلك الأفكار الإبداعية الخلاقة، ولا يقوده إلا عدد قليل من الموظفين المخلصين، الذين ودعتهم بالمحبة والتقدير لكل هذا النشاط والحيوية، التي جعلتهم يحولون مبنى قد يتشابه مع كثير من المباني في الوطن العربي، لكنه تحوَّل على أيدي مؤسسه، وقلة مؤمنة بدور وأهمية العمل الثقافي والفني إلى جوهرة ثقافية لا تنير ليل الأردن فحسب، بل كل دروب المعرفة في الوطن العربي، وترسل رسالة مهمة لكل الأثرياء العرب ممن لم يقدموا لحد الآن شيئا ذو منفعة عامة ثقافية كانت أم غيرها: متى تفعلون بأموالكم ما فعله عبد الحميد شومان؟!

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

★ رئيس التحرير

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى