تشكيل

أسماء الدعاس: لوحات مصطفى بو سنة، توليفة ساحرة من الأساطير، والملاحم، والحكايات

أسماء الدعاس★

من الوهلة الأولى، تربطنا لوحات الفنان التشكيلي الجزائري، مصطفى بو سنة عاطفيا بالعمل، وتحثنا على البحث في تفاصيله.

فلوحاته بمثابة قطع فنية نادرة، بها مزيج من الحضارات، وزخم مشاعر وأحلام وأمنيات وانكسارات وضربات، بريشة تسرد لنا أساطير الشرق، وأهم الملاحم، وأجمل الحكايات والقصائد، وبقايا تاريخ ذهب مع الرياح، لأبطال لم ينسهم الزمن، تلهم الفنان بأجمل اللوحات، بتكوينات وتقنيات ساحرة من مختلف المدارس الفنية.

ومهما كان حزن وإسقاطات تلك اللوحات، فهي تشكل تغذية بصرية للمتلقي، كفيلة لأن تجعله، وللوهلة الأولى لصيقاً باللوحة متأملاً تفاصيلها، مرتبطاً بها.

أبو سنة من مدينة (البرج – بوعريريج) بوابة المشرق، ومدينة الحقول والجبال، التي تنطق بجمال الطبيعة الغارقة بالتاريخ والنضال الشرس، ضد الاستعمار الفرنسي، فكيف لا تكون أعماله بهذه الفخامة، ويفوح منها كل هذا العبق؟!

حينما تستوقفني لوحات عديدة لنفس الفنان، فهذا يعني أنها مختلفة وعميقة، وتستحق التأمل والدراسة.

الفنان مصطفى بو سنة

فأعمال بو سنة، مزيج بين السريالية، والتجريدية، والتعبيرية، والرومانسية، في بعض اللوحات، التي أستشف بها المشاعر، والحالات المزاجية، كما في لوحة عفوة الحائر/ روسيكادا ملكة البحر/ والبحًار الذي لفظه البحر/ والملكة شبعاد تتلو صلواتها الحزينة، وغيرها، إلى جانب استخدامه خامات متنوعة، منها الزيتية، والأكريليك، وتقسيم فضاء اللوحة، تشبهاً بتقنية الفسيفساء.

عناصر شكلت طاقة جمالية وفلسفية، تعكس ثقافة المكان الذي ينتمي إليه الفنان، وشفافية روحه وقراءاته الشخصية، وتفاعله مع الحضارات القديمة، والأدب العالمي، والقصائد الملحمية، والسينما، والاستزادة من تجارب زملائه التشكيليين من مختلف الدول، باتجاهاتهم الفنية المتنوعة.

وذلك لإثراء تجربته الإبداعية، والارتقاء بها فكرياً وجمالياً، بحيث جعلت لأعماله طابعاً إنسانياً وروحياً مؤثراً يميزها، حتى حين تكراره بعض اللوحات، فهذا لا يلغي جمالها، واندهاشنا بها، كما هو الحال في مجموعة ناي الرماد، التي تشبه بعضها إلى حد كبير، ولها نفس الموضوع، والتقنية، والعناصر، والتكوينات باختلاف الخطوط، وتدرجات الألوان، والخلفية في كل لوحة وبعدها التواصلي، ووقعها، وأثرها على مزاج ونفسية المشاهد.

حينما تتأمل أعمال بو سنة، بكل ما تحمله من رؤى، فأنت أمام قارئ نهم، ومدرسة تحث على البحث الدائم، والاطلاع، وتفتح أبواباً للحوار والنقاش.

 لوحاته ملحمة  شعرية، إسقاطاته نوع فريد، يعكس لواقع مرير وبائس، ودرس  ثقافي، وفني، واجتماعي، وسياسي للمتلقي، لها جذور وأسماء وعناوين طويلة، أشبه بقصص قصيرة جداً، ومقدمة تفي بالغرض المنشود، على سبيل المثال لا الحصر: الأعمى الذي أطلق الحمام/ الفتى الذي باع الشمس/ الملكة شبعاد  تتلو صلواتها الحزينة/ عائد من قرطبة قبل إتمامها، وغيرها أخرى مشبعة بالرومانسية، وتفيض روحاً وحياة، مثل: أحلام الناي/ دموع العنقاء/ العطر/  أطياف/  حديث ليلة صيف ..الخ، ولا أنسى لوحات التصوف والزهد، التي تبوح بإحساس يرتقي بنا إلى الروحانية، والحب وجماله، والامتنان للخالق والتأمل في الوجود، وأحيانا يعبر عن أقسى درجات الألم والحزن والعزلة والِانكسار، كما هو في لوحة السائر في الليل/ السائر بالبحر/ راهبة المعبد، وغيرها، وشد انتباهي أن هناك بعض العناوين مستوحاة من أعمال أدبية، مثل: الرجل الذي باع الشمس/ متسول الموت.

فهذه العناوين تجعلنا نستشف قراءاته، وأسلوبه الأدبي، وكتاباته، التي ترافق لوحاته أحياناً!  عناوين يصعب على المتلقي حفظها، إلا إنها مفتاح لباب الحكاية والحكمة.

وحينما يكون الفنان قارئاً مطلعاً ومثقفاً، يضيف الكثير لمسيرته الفنية، ويثري بها كل محب للمعرفة الروحية والمعنوية، ويجعلها أكثر زهواً وجمالاً وحرفية وتأثيراً، وحينما يكون الفنان لديه انتماء لإنسانيته ووطنه وتاريخه وحضارته، عندها ستكون أعماله ذات رؤى، ورسالة ذات قيمة جمالية، تجوب العالم، تشحذ العقول بطاقة إيجابية، ومصدراً يسهم في العلاج النفسي، والتغلب على الضغوطات، ومحفزة للأمل، مما يؤهلها لأن تكون أعمالاً خالدة، والفنان خير سفير لهذا الإرث.

نلاحظ السرد البصري من خلال الرموز، ودلالاتها العميقة، وعناصرها، وأحجامها، وتكويناتها، والألوان المتداخلة والمتدرجة، والاهتزازات والخربشات، التي وثقت حالة الفنان الآنية، والنفسية، وصراعاته، وأفكاره، وعواطفه، التي سكبها في فضاءات اللوحة، بشكل متناغم ومنسجم، فشكلت لنا متعة بصرية، وعملية إدراكية، تتداخل بها مجموعة عمليات عقلية، وذاتية، وسيكولوجية.

في لوحات بو سنة، نبصر مرة ألواناً زاهية حارة، ومرة أخرى تطغى عليها الألوان الباردة، لتشغل مساحات اللوحة، تشعرنا برغبة الفنان لأن يملأ كل فراغ بالفرح، وحفنة أحلام وأمنيات، تضيف رونقاً، وجمالاً، وسكينة، ورومانسية على اللوحة، وتبث الاسترخاء والطمأنينة، في نفس كل متلقٍ، حتى وإن خيم الحزن عليها، وكانت نتيجة صراع الفنان مع ذاته وواقعه!

الخطوط الانسيابية المتداخلة، أو المتعانقة، والمتشابكة، والمتقاطعة، والمشغولة بالمنمنمات، شكلت زخماً بصرياً له اتساع وعمق ملأ الفراغ، وأظهر لنا مهارة الفنان، ودقته حتى بات من الصعب عليه، أن يعيد الكرة في رسم اللوحة، حيث قال: “للوحة شرارتها الأولى، وزمنها النفسي، وشحنتها العاطفية، التي تمنحها لغتها الجمالية، وصورها ورموزها، وكل ما يشكل خصوصيتها الفنية.. على مشاهد اللوحة أن يتقبل العمل كما هو في نسخته الأولى، وفي مختلف السياقات التأريخية والنفسية والجمالية التي انتجته”.

 لهذا لم يستطع الفنان أن يعيد رسم لوحته خيول الريح، التي ضاعت منه في يوم عاصف، وباتت في مهب الريح، ولم يستطع أن يتجاوز إحساس الفقد، وآلامه لضياع هذه اللوحة!

أبرز العناصر في لوحات أبو سنة، تدور عن الإنسان:

فقد أظهر الرجل، إما مخلوقاً خرافياً، أو أسطورياً، ورمزاً للحكمة، والقوة، والتفرد، والجموح، وآخرين بأجساد ضخمة وأعضاء متفاوتة، ربما هي من وحي خيال الفنان، أو استحضرها من ذاكرته، وتتوسط اللوحة، كعنصر أساسي وارتكازي.

 الرجل في نظر بو سنة، يمسك زمام الأمور في الحياة، ويواجه قسوتها وحده، وله نصيب كبير من النضال والشقاء، بينما للمرأة حضور طاغٍ، ومبهر، حيث تحظى باهتمام، وتقدير واعتزاز، ويراها بو سنة، أيقونة الجمال، والعفة، ورمزاً للحياة، والعطاء، والخصوبة، والطهارة، لهذا؛ يصورها لنا في لوحاته كأم، وملكة، وأميرة، وموسم ربيع، ومتعبدة، وأسطورة حب وجمال بروح أمازيغية، في كامل زينتها، وأبهتها، ورونقها الذي لا ينضب، ولا تشوبه أي شائبة!

فلوحاته التي تمثل المرأة، لا نرى فيها أي علامة للشقاء، سوى أنها ذات صمت مهيب، يشير لقدسية المكانة، والترف، والنقاء، ورمز للمشاعر المثقلة، والعشق الذي لن يتكرر! وكما سبق وذكرنا المرأة مهيمنة في أغلب أعمال الفنان، واهتمام بو سنة بالمرأة إما يرجع لأنه؛ محاط بنساء لهن مثل هذه المكانة العظيمة من التقدير، والتبجيل، والاحترام، أو لأنه؛ يفتقد في زمنه المعاصر، لنساء على شاكلة هذه اللوحات، فيعبر عن فقدهن باستلهام شخصيات نسائية من الأساطير، والحكايات، وأشهر المدن والروايات.

هو بكل الأحوال يراها واهبة للحياة، حاضنة للمشاعر الإنسانية، ونصف المجتمع، وأمانه، ونقاءه الذي يضيف إلى أعماله حساسية مفرطة، وذوقاً فنياً رفيعاً.

 وهذا لا يلغي أبداً نظرة الفنان، وإيمانه بدور كل من الرجل والمرأة، فكلاهما متساويان، وشريكان في هذه الحياة، وفي أعماله الفنية، تارة يغوص في أعماق الذات البشرية من خلال تأملاتهم، وإيماءاتهم، وعزلتهم، وحالتهم النفسية ما بين فرح وحزن، وحيرة، وسكينة، وتارة يكشف لنا أحوالهم، ومكانتهم الاجتماعية، والحضارة التي ينتمون إليها، فمنهم الأسطورة كبقايا الرجل الحصان، التي استلهمها من الميثولوجيا الإغريقية، والعامل البسيط كساقي مدن الريح والرماد / والعازف والمتصوف والبحًار، أو ريفي بسيط، بجلبابه الفضفاض كما في لوحة ناي الرماد، يشعرنا بصمته ونضجه، وبقلب، ومشاعر، وعين امرأة.

وحين نريد تقديم قراءة تفصيلية مستفيضة للوحات الفنان بو سنة، يمكن أنْ نرى أنَّ:

– لوحة الملكة شبعاد، تتلو صلواتها الحزينة..

للوهلة الأولى شعرت بحالة السكينة والخشوع، التي عكستها الألوان الجذابة لتبث الطمأنينة، وإن كانت تتلو صلواتها الحزينة! هي محاطة بخلفية فخمة زاهية الألوان، كأنها قطع أحجار كريمة براقة مشغولة بزخم زمني، وبصري، وعاطفي، يعكس تفاصيل المكان، ومكانتها، وحالتها، ففي عصرها وصل الفن أعلى مستوياته من الدقة، والمرأة السومرية أنيقة بزينتها، وثوبها الجميل، وبو سنة أوفى الملكة حقها في تداخلات الألوان، وتدرجاتها، وهذه الزخارف التي شكلت قطع مربعات بتفاصيل فسيفسائية، ربما مستوحاة من رسومات أقدم الأديرة والكنائس، التي اكتظ بها الشرق الأوسط، أو التراث الأمازيغي حيث الحضارة التي ينتمي إليها الفنان، وتسكن عقله الباطن.

ومن خلال عناصر وتكوين اللوحة، جعلني أستشعر طقوسها، وصمتها، وهيبتها، وحزنها، من خلال هالة السواد في عينيها، وإيماءات جسدها الطري، فبدت صلواتها ترانيم موسيقية، وألوانها ما هي إلا ترددات وهجها، وصداها، فاللوحة تفيض جمالاً وعذوبة ..وبو سنة بهذا العمل يعيد قراءة التاريخ برؤية فنية، ما هي إلا إسقاطات على ما آلت إليه الأمور في العراق، ولأنه فنان وله خيال واسع، وملتصق بالجمال، فهو  لا يستطيع  أن يتحرر منه، مما يجعل للمرأة نصيباً كبيراً من اهتمامه، فاختار أيقونة العشق الخالدة، لتكون رمزاً لأقدم الحضارات في العالم.

 والألوان الشفافة إما تعطي للوحة هالة من الرومانسية، أو تقنية استحضار تعود بالزمن إلى الوراء، إلى حيث مهد حضارة بلاد ما بين النهرين، لتحاكي واقعاً ضبابياً بائساً، وحقبة بلا ملامح يدعونا للصلاة من أجلها!

  • خيول شاردة:

الخيول رمز للطموح اللامتناهي والإقدام، هي ليست فقط رمزاً للوفاء والتفاخر …بل تشير إلى حقبة البطولات، والأمجاد، والأبطال، وكما ذكرنا في أغلب لوحات بو سنة، نقرأ التاريخ والحضارات، والأساطير.

  والخيول البيضاء ترمز للسلام، والرخاء، والخير، والنزاهة، والدوائر الملونة ماهي إلا إضاءات زهو وفرح، كأن الفنان يتحدث عن حضارة زاهية، باتت بلا فرسان يليقون بها يقودونها إلى بر الأمان! ومن حركاتها نستشعر عنفوانها، ورشاقتها، وجمالها، والطاقة الكامنة بها، بالرغم من افتقاد وغياب الفرسان من المشهد.

وتركيز اللون الأبيض على بعض أجزاء الخيول، أبرز لنا أحجامها، بل أشعرنا بحركتها، ومواجهتها موجات الرياح.

أما الألوان الشفافة كأنها تعني تبدد هذه الخيرات، والثروات والحضارات، والبطولات لهذا؛ أطلق عليها الفنان الخيول الشاردة، كأنها تائهة، أو منشغلة عن هدفها الحقيقي، وباتت في تصادم مع بعضها البعض! كصراع الحضارات!

لا ينأى بو سنة كثيراً عن هموم الفلسفة ومشاغلها، فلوحاته برمتها هي محاولات، ووجهات نظر، وآراء، وتأملات، لها أبعاد فلسفية، وإنسانية، وتاريخية، وتفاؤلية…. فوجدنا لوحاته منها ما عكس فلسفة تكرار التجربة، والجمال، والحب، والعزلة، والدين، والمكان، والزمان بإسقاطاته السياسية… وكشفت لنا عن رؤى الفنان بما يحيطه ويشعر به، وأكدت على أن اللوحة عالم مصغر لدى الفنان.

  • لوحة البحار الذي لفظه البحر

كم تحمل هذه اللوحة من معانٍ قاسية، لها عمقٌ وبعدٌ إنساني حزين، والعنوان دليل على ذلك فكلمة (لفظه) قاسية لا تليق بمن وهب حياته للبحر، كما أن عناصر اللوحة تعبر هي الأخرى عن مشاعر اليأس، والعزلة، والنبذ، ونكران، وتجاهل خبرات السنين الناضجة، وتعكس مشاعر، ومخاوف غارقة في أعماق ذواتنا، وأعمق بكثير من تلك التي موجودة في أعماق البحار! كم هو مؤلم أن يأتي الغدر، والخذلان، والخيانة، ممن نحبه، ونهبه سنوات من حياتنا.

عمل تجريدي تعبيري، ينقل لنا إحساس وانطباع الفنان، وهواجسه، وأفكاره الخفية حول لحظة الصدمة، التي يعيشها أمثال هذا البحار، ولا أستبعد أن تجسد هذه اللوحة، الغربة والاغتراب عند الفنان المبدع، بمعانيها النفسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وهو في أحضان الوطن.. والبحر بالنسبة للبحار هو الوطن الذي ينتمي إليه، ولا أصعب من أن يرفضك، ويلفظك وطنك، ولا يكترث بأهل الخبرات فيه! كما نرى وجه البحار في وسط اللوحة، ولا أثر لجسده، لقد أراد الفنان أن يشد انتباهنا لوقع هذا الخبر على البحار، ونركز على كبر سنه، ولحيته الطويلة البيضاء، وملامحه الغارقة بخيبة الأمل والوحدة، حيث دَوَّنَ انكسار البحار، ومشاعر الكآبة، التي تعتريه، وخلفية مليئة بالخطوط، وتدرجات الألوان الباردة الجميلة، التي نجد فيها السلام والهدوء والاسترخاء، إلا أنها وظفت لتكون لغة تعبيرية عن حالة البحار، وكآبته، واستغراقه في ذكريات الماضي، ومقتنيات رحلاته الجميلة، وطيور النورس هي الشاهد الوحيد على مشوار الشقاء، وهي الصديق الوفي له أينما توجه في رحلاته البحرية، والمرشد  لبر الأمان حينما يتوه في أمواج البحر، وها هي في أحضانه، تواسيه  في عزلته، وتؤنس وحشته .. وترمز للأمل والوفاء، رغم سوداوية المشهد.

  • لوحة مدن الملح

المرأة عنصر أساسي تتصدر مساحة اللوحة، وكما سبق وذكرنا المرأة في نظر الفنان، هي أيقونة الجمال، ورمز للحياة والخصوبة والسلام، تشعرك هنا بمصداقيتها، وأنها أتقنت الصمت، ومحاكاة البيئة، والكائنات الرقيقة، فالطيور على نقائها وأشكالها تقع!

امرأة ترتدي فستاناً أخضر فاتحاً، لون العطاء والنماء بكامل أناقتها، وزينتها ملأي بالحياة، وعصفورة تحط بسلام وأمان على يدها، وهي تجلس باسترخاء وثبات، تتحدى ملامح المجهول، بالرغم من الألوان الباهتة للبيئة، التي تحيط بها، فوجود مسحة من اللون الأصفر، كفيل لأن يوحي بالقحط كالشجرة الجرداء، هي بيئة لا يسكنها سوي تيارات الرياح، التي تجول المكان، وبيوت حجرية متراصة، تكاد لا ترى من بعيد.. أراد الفنان أن يؤكد على أن المرأة وحدها، قادرة على أن تحيي المكان، وتقود الرَّكْب، وتبث الطمأنينة في كل مَنْ حولها، بمصداقية مشاعرها، ورقتها، وإنسانيتها، وصلواتها الباعثة للحياة، والجالبة الخيرات والأمل، والازدهار…بل هي التي تبني الحضارات.. ولولاها لا تذكر المدن، وستكون هباء منثوراً، وغارقة في الجدب، والقحط، والنسيان.. وقد تكون مدن الملح إشارة إلى المدن، التي نهضت من رحم الصحراء والقحط، وباتت حضارة رمزت إليها المرأة، تتصدر مشاهد الحياة، ومؤشراً على تطور المدن من حال إلى حال.

  • مجموعة ناي الرماد

مجموعة ناي الرماد، أربَعُ لوحات تشبه بعضها بعضاً إلى حد كبير، ولها نفس الموضوع، والإيقاع، والشكل، والتقنية، والعناصر، باختلاف الخطوط، وتدرجات الألوان، والخلفية في كل لوحة، وبعدها التواصلي، ووقعها وأثرها على مزاج ونفسية المشاهد، فالألوان هي الفيصل الوحيد بينها، والمترجم الحقيقي لأجواء العمل.

ولا تولد اللوحة من فراغ، حتى وإن تكررت بشكل نمطي!  فالفنان مدرك للعملية الفنية، واللوحة لها أبعادها المعرفية والوجدانية، وتمر بمراحل حتى تظهر لنا، فهي ليست وليدة الصدفة! لهذا؛ قد يكون التكرار في هذه اللوحات ما هو إلا تخطيطات أولية للعمل، أضافه عليها الفنان واستحسن ما أضافه، قد يكون لها مغزىً، لتحقيق التأثير المطلوب، وجعلها أكثر واقعية، وقد تعبر عن حالة خاصة بالفنان، تتعلق بعوالمه وحياته الشخصية، وقد لا تحمل أي مغزى، سوى أن الفنان ألف تكويناتها الجمالية، واستمتع بتكرار التجربة.. وهناك فنانون كبار سبقوا أبو سنة في تكرار بعض عناصر اللوحة، أمثال فان خوخ، الذي كرر رسم زهرة عباد الشمس في مجموعة كاملة، والتي كانت رمزاً لمراحل حياته، وألهمته عدداً من اللوحات، كذلك تكرار الأسماك الحمراء، لدى الفنان هنري ماتييس.

 بكل الأحوال، قلما نرى التكرار في تجارب الفنانين، لأنها؛ تجربة ذات حدين، قد يفشل فيها الفنان، وقد يتجاوز النمطية فيها بمهارة وإبداع، كما فعل بو سنة.

كما سبق وأشرنا أن الألوان في هذه المجموعة، هي سيدة الموقف، والتي تجعلنا نفرق ما بين هذه اللوحات، وحالة الفنان، والأجواء العامة لكل لوحة.. هناك عناصر مشتركة في اللوحات الأربعة، وهي وجود رجل بملابس فضفاضة، يوحي لبيئة قروية، أو ريفية لا تمت للمدنية بشيء، ممسكاً بآلة الناي، وعلى ذراعه تحط حمامة، وفي لوحات أخرى، وجدنا طائر الهدهد، والرجل يتأمله بوجه جانبي، ومن خلال لعبة الألوان، وتأثيرها اختلف انطباعنا، وإحساسنا بكل لوحة.

فاللوحة الأولى، الألوان الفاتحة، تطغى على اللوحة، وتعطي اتساعاً للمكان، وأهم عنصر فيها، وفي بقية اللوحات هو الرجل صاحب آلة الناي، الذي شغل حجمه كل المساحة، وفي منتصف اللوحة، واللون الأخضر يشد انتباهنا على انتماء الرجل للبيئة الريفية، ألوان جعلتنا نشعر بحالة سلام وانسجام مع ما حوله، فطائر الهدهد يفتح منقاره، وكأنه يسمعه تغريده، أو ينقل إليه أخباراً، أو رسالة ما، وهو يصغي له بكل أريحية.

 مشهد يوحي بالود والألفة، ومحاكاة الطبيعة، والعناصر الخارجية، أما رسم الوجه من جانب واحد، كأن الفنان يظهر لنا نصف الحقيقة، وبما أن مشاعر الإنسان تظهر في ملامح وجهه من حزن وفرح وغضب، إلا أن في بقية اللوحات، الملامح شبه ساكنه، أو جامدة، وماهية الشعور، نستشفها من أجواء اللوحة بشكل عام لهذا؛ شعرت أن الرجل مطمئن في جلسة سلام، وتصالح مع نفسه والعالم، والعيون المغمضة توحي إلى عمق التأمل.. والهدهد طائر محبوب جداً من الفلاحين، وهو رمزٌ للبصيرة، والنضج.

أما اللوحة الثانية التي عنونها الفنان باسم، ناي الأحلام، بدت لي أقرب للحلم على ضفاف النهر، وحيث البيوت المطلة والأشجار الكثيفة، ورجل بكامل هيبته برفقة كائنات رقيقة كالغزال، ووجهاً لوجه مع الطائر الأبيض.. نستشعر انتماءه، والتصاقه بالطبيعة، ممسكاً بآلة الناي، التي على ما يبدو قريبة من الفنان أبو سنة، وتصدح بالتصوف الذي يميل إليه، وتلامس مشاعره، لهذا؛ رافقت لوحاته، كما أن لها حضوراً عند أهل القرى، أو الأرياف.. وخير من يؤنس الوحيد والكئيب، بصوتها الشجي، فآلة الناي تلائم مرهف المشاعر، والعاشق، والحالم، وقادرة على التعبير عن لحظات فرحه، وحزنه، وحرمانه، هي لوحة تعبر عن أحلام الإنسان بالاستقرار والسلام، ورغبته بالاستمتاع بخيرات الحياة، والألوان الباردة والجميلة المتداخلة، أوحت لي بمشاعر الحب، والسكينة، والحنين للوطن، لأن؛ الناي آلة حزينة وشجية، إلا أنها قد تخلق أجواء الفرح في الاستقرار، والأمان، أو تكون محفزة للأمل.

بينما في اللوحة الثالثة، بات المشهد أكثر حدة في الخطوط، ودقة  وحيرة… حيث جرَّنا الفنان لمربع وردي ضيق جداً، يمركز فيه ثلاثة عناصر (الحمامة البيضاء، ووجه الرجل، والناي)..أراد الفنان أن نتأمل الأمل، الذي جلبته الحمامة للرجل البسيط ذي الملابس الرمادية الفضفاضة، القابع في مكان مظلم وكئيب، لا نور فيه ولا ملامح للطبيعة، أو الفرح، سوى حفنة أحلام يقظة، وآلة الناي هي خير مؤنس وجليس وصديق، بينما في اللوحة الرابعة، حيث اللون الأحمر المتوهج، يحيط بالرجل ذي الملابس الفضفاضة، وبوجه جانبي قابع في مكان مظلم، وعلى ذراعه هذه المرة تحط حمامتان، ما جعلني أستشعر شدة  كآبته، وغضبه، ووحدته، وصمته  في غفلة البيوت، أو لعدم إحساسه بالاستقرار، والأمان بالقرب من الناس، لهذا؛ هو وحيد، وبعيد بالرغم أن اللون الأخضر الفاقع، الذي يرتديه، يدل على أنه مليء بالحياة، ولا يخشى المواجهة والتحدي، ولا يخشى تقلبات مَنْ حوله، وصراعاتهم، لهذا؛ لن يستسلم ويتأمل التغيرات القادمة، والناي هنا  طاقة جذب للعيش، بفرح وأمن وسلام.

وتحضرني أبياتٌ شعرية من قصيدة الناي لجلال الدين الرومي، تلائم مجموعة ناي الرماد، وأختم بها هذه القراءة

أنصت إلى الناي يحكي حكايته

ومن ألم الفراق يبث شكايته

ومذ قطعت من الغاب

والرجال والنساء لأنيني يبكون

أريد صدراً مزقاً مزقاً برَّحه الفراق

لأبوح له بألم الاشتياق..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

★ كاتبة ــ الكويــت

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى