آية الكحلاوي:”البطل”… العدل في السماء، والبطل حصرياً في سوريا!


آية الكحلاوي ★
البطل… البطولة الحقيقية في التخلي عن الظهور في الصورة.
البطولة!… من يستحق أن ينال شرف البطولة؟!… هل من يصعد الجبل، وهو يعلم أن الجائزة الكبرى، تنتظره على القمة؟! أم من يصعد الجبل؛ لينقذ ما يمكن انقاذه، وهو يعلم أن الموت المحتم على القمة بانتظاره؟!… البطل هو من يواجه أم من ينسحب؟!… هل لابد أن يكون الإنسان إنساناً بطلاً؟ أم يكفيه أن يكون عادلاً ومحباً؟!… كلها أسئلة أجاب عنها “الليث حجو”، و”رامي كوسا”، قائدا مسلسل “البطل”.
دائماً المسرح هو سر القضايا، والأفكار العظيمة وملهمها… عن مسرحية “زيارة الملكة” للكاتب المسرحي السوري الكبير الراحل “ممدوح عدوان” يقدِّم لنا “الليث حجو”، رفقة “رامي كوسا” مسلسل “البطل” في حلة جديدة، تواكب الساعة، وتصور التغريبة السورية، ومعاناة الإنسان السوري من ويلات الحرب القاسية، التي قُدِّرت عليه… ليضعنا أمام السؤال المصيري والرمزي من هو البطل الحقيقي؟.
البطل الحقيقي
يتناول المسلسل أسرة الأستاذ “يوسف” الذي يقطن قرية في الريف السوري، قبل أن تنتقل الحرب إليها، وبعد أن طالتها الحرب، لتُغَيِّرَ الحرب مصير هذه الأسرة بأكملها، ولا سيما مصير “فرج” منبوذ القرية، والذي اعتبره الأستاذ “يوسف” ابناً له، وجعل نفسه من باب البطولة، مسؤولاً عنه.

من رحم الثقافة العليا، ومقومات البطولة الأسطورية، التي قوامها الأخلاق، وُلِدَ الأستاذ يوسف/بسام كوسا، الذي يُصِرُّ على أن يكون بطلاً ، ويُصِرُّ على أن يكون كل شيء مثالياً… ومن رحم الجهل، ومقومات البطولة الحديثة، والتي قوامها القوة، وُلِدَ فرج الدشت/ محمود نصر ، الذي يتوسم طريق أستاذه العظيم/الأستاذ يوسف؛ ليصبح بطلاً، ولكن بطريقته، التي حققت له انتصاره الشخصي على قريته، التي جَرَّعَتْهُ كأس الدونية والتهميش… فمن منهم البطل الحقيقي؟!
يبدأ المسلسل بالأستاذ “يوسف” مدير المدرسة الإعدادية، الذي يريد أن يجعل من كل شيء حوله مثالياً، كقواعد اللغة العربية التي يُدَرِّسُها… يعطي الأوامر، ويحدد الضوابط، ويُغيث الناس، ويُظهر بطولاته لهم؛ حتى ولو على حساب أسرته… تبدأ بطولاته عندما يُؤوي اللاجئين إلى قريته من القرية المجاورة، التي استَعَرَتْ فيها الحرب، فيقرر أن يسكنهم المدرسة، دون أن ينتظر أوامر الحكومة، ويحمل مسؤولية الأمر على عاتقه… حتى في لحظة ما يقرر أن يقوم بالبطولة؛ حتى لو كلفته حياته… فيقتحم النيران، التي اشتعلت في المدرسة، وينقذ التلميذ العالق، ويصبح هو كسيحاً، ويفقد مهامه كمدير، بعدما فقد القدرة على القيام بها، ولكن هل أصبح بطلاً؟… بالكاد بطولته تكفيه أن ينال احترام أهل القرية، ولكن لا تكفي أن تجعل السلطة تهتم باسمه، وتكتبه صحيحاً على درع تكريمه، فمنحته لـ “يوسف عبد الصالح” بدلاً منه، هو الأستاذ البطل “يوسف عيد الصالح”… في إشارة واضحة أن العمل، الذي قام به مبتغياً البطولة، لم يمنحه إياها، ورغم ذلك يُصِرُّ الأستاذ “يوسف” أن يكون بطل ابنه، ولو للمرة الأخيرة، حينما يحمل الجرم عنه، ويسجن بدلاً منه.

بالانتقال إلى فرج/محمود نصر، الجاهل، البائس الفقير، وليد السجون، وابن سمرا، التي قتلت زوجها… المنبوذ الطريد… ولكنه العاشق المحب، لم يكن يبحث عن البطولة يوماً… كان فقط يريد أن يتقَبَّله الناس، ويحترمونه، ولكنه لم يتلقّى منهم غير الاحتقار والتهميش، فسأل وهو يموت في النهاية عن أخر ما يسأل عنه الإنسان عند الموت… فيسأل قدوته الأستاذ يوسف “بتحبني أستاذ ؟” في بحثه للمرة الأخيرة عن شخصٍ واحد يمنحه الحب والتقدير، قام فرج بأول عمل بطولي له، حينما هرب مع حبيبته، وتزوجها رغما عن أهلها ، ثم عاد حاملا كفنه إليهم… وقام ببطولة أخرى حينما عمل في التهريب، فأصبح يُوَفِّرُ احتياجات الناس، الذين ضَيَّقَتْ عليهم الحرب، وكانت اللحظة الفارقة في شخصيته، حينما انتقلت الحرب إلى القرية، فكان هو من دافع عنها، وردَّ عنها الأعداء، ومنعهم من الدخول، فصار حديث القرية، البطل الجديد، الذي أخذ مكان البطل، الذي انتهى زمانه/الأستاذ يوسف، ولكنه فقد في الطريق براءته بعدما تلوثت يده بالدماء؛ حتى ولو كان في الحرب، فقد أصبح العنف والقوة منهجه، طالما هما من سيجعلان الناس يرونه بعين العظمة والاحترام!… حتى قرر أن يقوم بالعمل البطولي؛ الذي غيّر حياته للأبد، وحدَّدَ مصيره، بأن يتزوج ابنة أستاذه “يوسف” الحامل حملاً ًغير شرعيٍّ ؛ حتى يستر عليها، ويصبح ابنها له صفة شرعية… ولكنه يصطدم في النهاية، بأن كل هذه الأعمال لم تمنحه البطولة والاحترام، الذي لا يرجو غيره، وأنه مازال في أعين الناس، ولا سيما “مريم” التي ضَحَّى من أجلها باستقراره، وأنقذ سمعتها ما هو إلا أنيسيان اسمه “فرج الدشت”!.

وماذا عن المستقبل ؟
مَنْ مِنَ شخصيات المسلسل لم يَسعَ للبطولة؟ الجميع في مرحلة ما من حياتهم، أرادوا أن يظهروا في صورة البطل، وفي لحظة ما، وعند الامتحان الحقيقي، اِكتشفوا أن البطولة الحقيقية، هي في التخلي عن الظهور في صورة البطل.
فعلى الصعيد النسائي نجد مريم/ نور علي، الدكتورة بنت الأستاذ يوسف، التي أرادت وبكل قوتها أن تصبح البطلة القوية، والمضحية؛ حتى ولو على حساب مستقبلها، وهل البطولة أغلى من المستقبل؟ المهم أن تكون البطلة، التي شاركت أهلها مصير الحرب، ورفعت والدها في محنته، رغم أنه في الواقع، وحسب أحداث المسلسل، نجد وجودها مع أهلها بلا فائدة تذكر، هي فقط تريد البطولة، ولو بالتزييف، وعندما أخطأت في الحمل غير الشرعي من خطيبها، الذي توفي أثناء هربه من معسكر الجيش؛ نجدها ألقت بذنب التهمة كله على أهلها، متهمة إياهم بالتسبب في تأجيل موعد زفافها؛ لتختفي سمات البطولة، التي كانت تريد دائماً أن تظهرها، وبدلاً من أن تتحمَّل تَبِعَاتِ فَعْلَتِها ببطولة كما كانت تحب أن تظهر، نجدها تتنازل وتتزوج من فرج الدشت!.

قد تكون هي البطل!
بالانتقال إلى رانيا/هيما إسماعيل زوجة الأستاذ يوسف، برغم انتقادها الدائم لزوجها، الذي يُصِرُّ على التضحية من أجل الظهور في صورة البطل، نجدها تعيش هي الأخرى كبطل حقيقي، ولكن دون أن تشعر، في وسط الحرب الدائرة، والظروف الصعبة، لا تتنازل إطلاقاً لمديرها الفاسد، وتعمل في البيت بكل جهدها، تظهر بطولتها في علامات سيميائية صامتة، دلالة على أنها لا تشعر إطلاقاً أنها تعيش دور البطل، فنجدها في البداية تعود من العمل، بعد ضغط وعمل شاق؛ لتجد المنزل مغموراً بالمياه؛ فتبدأ في تنظيفه، وطهي الغداء في بطولة كبيرة؛ حتى في نهاية المسلسل، يتكرر نفس المشهد، ولكن هذه المرة تبكي منهزمة غير قادرة على القيام بأي شيء، وعلى إثر ذلك، تستدعي أحد العمال لمسح المنزل، الجميل في رانيا أنها تكره البطولة حقاً، رغم أنها بطلة؛ حتى أنها في مشهد البداية، رغم دورها البطولي، لا تقوى على مواجهة صرصور، وفي ديجافو رائع في النهاية، تقرر أنها تقوم بهذا الدور وتواجه الصرصور عندما يواجهها هذه المرة، ولكنها ولكرهها لصورة البطل، تتراجع وتعجز عن مواجهته مرة أخرى، لنجد أن “رانيا” قد تكون هي البطل الحقيقي، رغم عدم شعورها بذلك.
شخصيات تحرك الأحداث!
في مثل هذا العمل الإنساني، دراسة الشخصيات لا تكفيها جمل تبقى مبتورة وإن طالت، فهو لم يقدم شخصيات كاريكاتيرية محفوظة، بل شخصيات حية لها آمال، ويحركها القدر كما يحرك أحدنا في الحقيقة، فحفاظاً على فكرة اللابطولة، وزع المؤلف “رامي كوسا” الأدوار على الشخصيات بالتساوي، فأصبح لا بطل للقصة، ليس هناك شخصية تتفرج، وشخصية تُحَرِّكُ الأحداث، ليس هناك شخصية فعل، وشخصية ردِّ الفعل، بل هناك قدراً يحرك الأشخاص نحو مصائرهم، ومع ذلك كان هناك ممثلون رائعون، أدّوا أدوارهم بحرفية شديدة، ليقول العمل: ليس هناك أبطال، ولكن هناك ممثلون من طراز خاص، يصنعون في مساحة شخصياتهم المعجزات، بداية من الفنان القدير” بسام كوسا” ،الذي لم نشعر أبداً أنه يختلف عن آبائنا جميعاً، ولم تكن مفاجأة أن نرى “محمود نصر” في دور فرج الدشت وكيف تغيَّر فرج بواقعية شديدة، من فرج العاشق الحبيب إلى فرج القاتل المهرب، الذي أقدم على حرق أراضي القرية؛ حتى يستحوذ عليها، فرج الضعيف، الذي يتلعثم، ويتحدث بعين منكسرة أمام الجميع، الذي بدأ به المسلسل، هو نفسه فرج المتلعثم الضعيف في نهاية المسلسل عند موته، ولكن ما بينهما، عالم متكامل من التناقضات من فرج البطل/ فرج الخائف/ فرج الوحش ، هو كل ذلك في المشهد الواحد بفضل محمود نصر، والمتابع للدراما السورية هذا العام، يدرك كم أن سوريا تمتلك قدرة تمثيلية رهيبة اسمها “وسام رضا”، فوسام رضا، الذي قدَّم دور “مجد ” المراهق الطائش الأحمق الذكوري، ليس هو على الإطلاق وسام رضا، الذي قدَّم في نفس الموسم دكتور عماد أستاذ الجامعة، ورجل المافيا والسايكو صاحب الكاريزما العالية في تحت سابع أرض.
الطاقم النسائي لم يَقِلَّ في القدرات عن الطاقم الرجالي، وخاصة “هيما إسماعيل” التي قدَّمت أداء السهل الممتنع في شخصية رانيا، و”نانسي خوري” التي قدمت شخصية سلافة من صميم السيدات السوريات، اللاتي قهرتهن الحرب والنزوح، أقلهن أداء، كانت نور علي في شخصية الدكتورة مريم، ولكنها ظلمت بتواجدها وسط كوكبة من القدرات التمثيلية، ذات الباع الطويل في تقديم الأدوار التراجيدية والدرامية، وهي تأتي حديثاً من خلفية مسلسل لايت كوميدي.
العمق الإنساني للقصة!
قدَّم العمل الصورة في لون أصفر مناسب تماماً للجو العام للمسلسل، فاللون الأصفر بعيداً عن دلالة الدفء والتلاحم بين أهل القرية، هو اللون المناسب لقرية تعتمد أساساً في النهار على ضوء الشمس الأصفر، وتعتمد ليلاً على شعاع القنديل الأصفر، في قرية اعتادت على انقطاع الكهرباء، وكذلك فقد جاء الديكور سواء في بيوت القرية، أو ديكور المدرسة، أو المناظر الخارجية كلها شديدة الواقعية، ولهذا أراد المخرج إظهار هذه الواقعية في إظهار المسافات بين المنازل، والطرق، والتقاطعات، عن طريق حركة الكاميرا.
اِمتازت الحبكة بالتماسك والتحرك نحو النهاية بسلاسة دون عقد كبيرة، يلزمها الهبوط والصعود بتدرج شديد، بل انتقلت بسلاسة في تصاعد بطيء نحو النهاية، ورغم أن الحبكة اعتمدت على الراوي؛ ليشرح أحيانا العمق الإنساني للقصة، ورغم أننا بدأنا من حيث النهاية؛ حيث خروج الأستاذ يوسف من السجن، ولكن الحبكة تعتبر خطية تواكب التطور الخطي للشخصيات.

ماذا فعل ليث حجو؟
بالمجيء لـ “ليث حجو” فماذا يمكن أن يقال في شبل حاتم علي؟ فقد قام “الليث حجو” بتقديم تغريبة أخرى تشبه التغريبة الفلسطينية لـ “حاتم علي” بشخصيات وطموحات وأهداف مختلفة، فرشدي في التغريبة الفلسطينية، الذي اختار السلاح على الهجرة للعلم، هو ليس مروان، الذي هرب من الخدمة العسكرية والسلاح، ليختار الهجرة للعمل والعلم، وهنا يكمن الاختلاف بين رؤية المخرجَيْن، وبين جوهر العملين، فالتغريبة الفلسطينية تسعى لصناعة البطل، والتغريبة السورية في البطل تسعى لهدم صنم البطل، ولا سيما البطل غير العادل، وغير المنصف، وغير الإنساني.
هذا ما تظهره الحبكة على السطح، وتؤوله الدلالات المختلفة لشرح ما يجري في العمق، عبر الرموز المختلفة في العمل، ولكننا سنقف عند حدود الرمز الأبرز في العمل، وهو طفل الدكتورة مريم، الذي هو في الحقيقة ابن مروان المتعلم المحب الهادئ حليف السلام، ولكنه رسمياً ابن فرج الدشت، الجاهل حليف العنف والقوة، ولا يخفى على أحد أن الطفل يرمز إلى المستقبل، فنجده يرمز إلى مستقبل سوريا المبهم، الذي لم تتحدد معالمه قط بعد الثورة، هل سيكون الطفل لفرج الدشت؟ أم سيكون للأستاذ مروان؟ هل سيكون مستقبل سوريا بعد الثورة مسالماً، أم سيكون عنيفاً ودموياً؟! هل تنفع هذه الخلطة؟ أن يكون الطفل لمروان، وفرج معاً؟! هذا هو السؤال الذي طرحه الأستاذ يوسف في النهاية، الذي أدركنا بموت “فرج” أنه هو البطل المقصود، ولكن ليس بحضوره الأول، ولكن بحضوره النهائي بعدما تخَلَّى عن مثاليته، البطل الأسطوري، الذي يُعْلِي الأخلاق والسلام والعدل والمحبة والإنسانية، وهذا هو جوهر مسرحية “زيارة الملكة”.
★ناقدة ـ مصر.