عادل العوفي: لماذا يقزم مسلسل (فلوجة) تاريخ المشرق العربي؟
عادل العوفي★
أضحت عادة أدَمَنَتْهَا قناة الحوار التونسي، منذ سنوات من خلال اللعب على الوتر الحساس، والبحث عن إثارة الجدل في كل موسم رمضاني، يضمن لها استمرارية صنع “البوز”، وبالتالي تستكمل المسلسلات ما بدأته برامجها التلفزيونية، طوال العام من خلال أسلوب القيل والقال، بين الفنانين، أو استضافة أسماء عادية بعضها لاقيمة له، والحرص على إظهارها في ثوب “الأبطال “، ومن يحملون لواء الحرية، والفن في تونس الخضراء.
هذا العام واصلت هذه القناة السير على المنوال ذاته، مع “جرعات تعزيزية ” فوق العادة من خلال مسلسل “فلوجة ” للمخرجة سوسن الجمني، الذراع الأيمن للمحطة، والتي عملت فيها لسنوات كمساعدة مخرج، قبل أن تشق طريقها لوحدها في مسلسل “الفوندو” كأولى تجاربها الخاصة؛ وبعيداً عن رأيي الشخصي بفحوى أعمالها إلا أن الأمانة تقتضي القول، بأن سوسن سيكون لها مستقبل مشرق في عالم الإخراج، أسوة بأبناء بلدها، الذين بزغ نجمهم عربياً، على غرار الراحل شوقي الماجري، ووصولاً للأسعد الوسلاتي، وعبد الحميد بوشناق، وغيرهم؛ وهنا أتساءل: متى ستلتقط شركات الانتاج العربية هذه الموهبة، التي تَعِدُ بالكثير، كي تخرج من النطاق المحلي، وتحلق عربياً؟
لكن بالعودة لمسلسل “فلوجة” الذي يرافقه صخب واسع استنفرت معه حتى الجهات الحكومية، وعلى رأسها طبعاً القطاع المعني بالأمر، ونقصد وزارة التربية والتعليم، وحتى النقابات، التي تصطف لأول مرة مع الجهاز الحكومي، على نفس الخندق، وهم يدقون ناقوس الخطر حول مضمون العمل المسيء للمؤسسات التربوية، ولصورتها، والحرص على وصفها كوكر للترويج للمخدرات، والأقراص المهلوسة، والعنف بين الطلاب.
المؤكد ما صوره المسلسل موجود في بعض المؤسسات، وهي حقيقة لا يمكن دحضها؛ لكن بالمقابل تبدو قناة الحوار التونسي بالذات مصرة على “توثيق” هذه التشوهات، وتضخيمها بطريقة مبالغ فيها، تجعلنا نتخيل كل الشباب التونسي “منحرفين”، بينما الفئة الأخرى التي تغرد خارج السرب، ليسوا سوى “متخلفين”، و”رجعيين” يتلاعبون بالدين كما يشاؤون، كما رأينا على سبيل المثال في مسلسل “براءة” العام الماضي، الذي كتبه، وأخرجه سامي الفهري شخصياً؛ والسؤال المطروح هنا وبقوة: ألا تتحمل القناة نفسها مسؤولية ما آل إليه شباب اليوم، من خلال تقليد بعضهم شخصيات مسلسلاتها مثل “أولاد مفيدة”، وما يدور في فلكها، من خلال إغراق أجسادهم بالوشوم، والتلفظ بالكلام البذيء، وما شابه ذلك من تصرفات مشينة؟ ثم أليس في هذا المجتمع، فئة أخرى تقف في المنتصف، وهي الأغلبية حسب علمنا، متمسكة بالأخلاق، والقيم الأصيلة؛ أليس لهؤلاء نصيب في مسلسلات تلك القناة؟
وبعيداً عن الخطاب السائد حول المسلسل؛ هناك نقطة أخرى مهمة يتجاهلها الجميع اليوم، وتتعلق باسم العمل، وأراها مستفزة للغاية، وتنم عن جهل فاضح، بدأ يتسلل للمحيط المغاربي تحديداً ــ حين نقول المغاربي نقصد تونس والمغرب والجزائر ــ ، فقد أضحى من العادي، أن تسمع في الشارع أحاديث “ساخرة”، وتشبيهات تستهدف أماكن في المشرق العربي، مثل سورية، والعراق، وكأن هذه البلدان ذات التاريخ العريق، لا يصح استحضارها إلا بذكر الحرب، والخراب، والدمار؛ وهذه نقطة خطيرة للغاية، صارت تتكرس في أذهان الأجيال الجديدة تحديداً، وهذا ما زَكَّاه مسلسل “فلوجة” من خلال إظهار سيارة الأستاذة مكتوب عليها “مرحباً بكم في فلوجة” باللغة الإنجليزية.
من المشين حقاً تقزيم مدينة عريقة قاومت المحتلين والإرهابيين بضراوة، وتعرف في التاريخ بمدينة المساجد لكثرتها، على غرار الجامع الكبير المؤسَّس عام (1899) م، وجامع الخلفاء، وجامع أبي بكر الصديق، وجامع عمر بن الخطاب، وجامع عثمان بن عفان، وجامع علي بن أبي طالب، وغيرها الكثير ومجموعها يصل (132) مسجداً؛ ومعنى “الفلوجة ” في اللغة هي الأرض الصالحة للزراعة، حيث تتفلج تربتها حين يمسها ماء السماء عن خيرات الأرض.
كل هذه المعلومات القيمة لا ولن تصل للأجيال الجديدة، في ظل السطحية والتفاهة، التي تجتاح عالم التلفزيون اليوم، والكل يهرول لاستغلال أي مصطلح يخدم التوجه، الذي يريده، ولو على حساب التاريخ، والمعلومة الهادفة، وأيضاً القيم، والأخلاق.
ـــــــــــــــــــــــــــ
★ كاتب وصحفي ــ المغــرب