د. سعداء الدعاس: بانوراما مهرجان الشارقة للمسرح الخليجي
د. سعداء الدعاس ★
أيام جميلة تلك التي قضيناها أثناء المشاركة في فعاليات مهرجان الشارقة للمسرح الخليجي قبل أيام، في ظل حسن الضيافة الإماراتية، التي ازدانت بالشباب الخلوق والبشوش في التنظيم، بتعامل راقٍ، وأسلوب ودود، ومتابعة طوال أيام المهرجان.
من جانب آخر، أكثر بريقاً، لا يمكن الحديث عن الشارقة دون التطرق لفخامة المنشآت التي أزهرت بها تلك الإمارة، حيث تتجلى فيها العناية الكاملة بفن العمارة، باعتبارها قطعة فنية، لا بقعة مكانية. ولعل أكثر ما لفت انتباهي في قصر الثقافة المضيء، قاعة الندوات التطبيقية، التي تمنيت أن نتمتع بمثلها في الكويت، باعتبارنا -حسب اعتقادي- أول دولة خليجية تنتهج آلية الندوات التطبيقية للعروض المسرحية، بدلاً عن القاعات الطارئة التي تُقام فيها الندوات التطبيقية منذ أن كنتُ طالبة إلى اليوم.
في المقابل، لم تتخلَّ الشارقة عن إرثها، الواضح في تفاصيل البشر قبل الحجر، حيث المزيج الجميل بين خصوصية المكان وأصالة الشعب، ذلك الذي لم يتغير منذ زياراتي الأولى والمتتالية بدءاً من 2012، أثناء مشاركتي ضمن لجان الاستراتيجية، وندوات مسرح الهواة والمسرح المدرسي التي أقامتها الهيئة العربية للمسرح، وقد تناولت ذلك الإرث في مقال نُشر في مجلة الكويت حينها.
أما الرحلة الأخيرة التي رشحني لها وأقنعني بالمشاركة بها -بعد اعتذاري- رئيس فرقة المسرح العربي، الزميل أحمد فؤاد الشطي، فقد خلفت لدي العديد من التصورات، وكدّست في ذهني الكثير من الذكريات، فتوقفتُ لألتقط الإضاءات، وأفحص بعيني الهفوات، لأرصد كل ذلك ضمن هذه البانوراما السريعة.
الصحبة الحلوة
ما جعل من أيام المهرجان استثنائية، تلك اللقاءات الجميلة، والحوارات الجانبية الثرية مع العديد من الأسماء المميزة التي أثرت المهرجان، فتسيّدت أمل عبدالله تلك الجلسات الحميمة بذكرياتها الغنية بالتفاصيل، وأسلوبها الشيق في السرد، بمشاكسة لطيفة من ليلى أحمد التي تُشكل بحديثها السلس مصدراً للاهتمام، بخفة دمها التي لا يقارعها بها أحد، وبقدرة خارقة على خلق حالة من البهجة حتى في قمة مناقشتها للقضايا الجادة أو المواضيع الإشكالية، وهي التي عُرفت بمواقفها الجريئة والواضحة.
على جانب آخر، استمتعتُ بحوارات غنية اشتعلت بوعي وصدق العديد من الزملاء والأصدقاء، أذكر منهم د.خليفة الهاجري، أحمد الشطي، فيصل العبيد، د.ابتسام الحمادي، خالد البريكي، انتصار الحداد، فتحية الحداد، عذاري العوضي، بجانب تفاصيل يومية ممتعة رفقة صديقتَي الدراسة زهراء المنصور ود.خلود الرشيدي مع ابنة أخيها الجميلة “محبوبة”.
مع كل يوم من أيام المهرجان، تتشعب الحوارات، فنكتشف من خلالها نقاء د.عبدالرحيم الصديقي، وصراحة عبدالله الشحي، ووعي محمد العامري، وشفافية د.لطيفة البقمي.. وتظل تنقلك تلك الحوارات إلى مناطق أعمق، بدءاً باللحظات العظيمة التي يقشعر لها البدن إثر تفاصيل تكتنزها ذاكرة فهد ردة الحارثي، حول آلامه التي تابعها الوسط المسرحي باهتمام أثناء فترة الغيبوبة، وانتهاء بالجرأة التي دثّرت كلمات عماد الشنفري وهو يروي بعض الحقائق والمواقف الصادمة، مروراً بجلسات يحفها (الإفيه) المصري في حوارات مليئة بالذكريات المشتركة مع أصدقائنا المصريين أولاد البلد؛ محمد الروبي، هبة بركات، هاني عفيفي، إسلام إمام، خالد رسلان، وسام أسامة، وباسم عادل.
ندوات تفوقت على العروض
المتابع لفعاليات المهرجان يدرك بيسر أن الندوات التطبيقية كانت أبرز ما فيه، في ظل الضعف العام لمعظم العروض ووقوعها في فخ الرتابة والتكرار، أخص هنا ندوة العرض الإماراتي والعماني، اللتين حظيتا بعدد كبير من المداخلات الثرية، الجريئة، والمتنوعة، ما بين إعجاب ببعض المفردات المسرحية، وانتقاد لبعضها الآخر.
بل إن الملاحظ أن الندوات التطبيقية في الكويت أيضاً تشكل ملح المهرجانات، في حال تضمنت أصواتاً جريئة، وآراء صادقة، أما حين تتعالى فيها الأبواق، وتتحول من ندوة تطبيقية إلى أخرى “تطبيلية”، فتصبح مجرد فعالية ممجوجة، وتمثيلية سمجة أبطالها رؤوس خانعة، وأحداثها رمادية.
وبالعودة لمهرجان الشارقة، وبجانب جرأة مشاركات ليلى أحمد وعلاء الجابر في الندوات التطبيقية المصاحبة للعروض، لفتت انتباهي أصوات أسمعها للمرة الأولى، مثل نزهة الشامخي ومحمد السيد أحمد في معظم الندوات، وعمرو قابيل في ندوة العرض القطري، وجمال الصقر في ندوة العرض الكويتي، وعبدالعزيز إسماعيل ودانيال الخطيب في ندوة العرض الإماراتي، وسعدت أيضاً بإقدام زميلي المخرج المسرحي هاني عفيفي على التعبير عن وجهة نظره في بعض العروض.
سهرات خليجية
رغم أن المكان لم يكن مناسباً، حيث الهواء الطلق، وعلو صوت التكييف في الباحة الخارجية للفندق، إلا أن السهرات -باعتقادي- تلي الندوات التطبيقية في الأهمية لدورها في التعريف بالمسرح الخليجي عبر تخصيص سهرة لكل دولة على حدة، ضمن ثيمة خاصة ينطلق منها المتحدثون، ورغم التوقيت الذي لم يخدم تلك السهرات، إلا أنني استمتعت بما سمعته من بعض أوراق ندوة المسرح البحريني، التي طعمت بصراحة يوسف الحمدان، والأغاني التي أضفت الكثير لندوة المسرح الإماراتي، والردود التي خُتمت بها ندوة المسرح السعودي، تفاعلاً مع تساؤلات نايف البقمي، كما شرفتُ بمشاركة مجموعة مميزة من نساء بلدي (أمل عبدالله، ليلى أحمد، فتحية الحداد) بإدارة ومشاركة رصينة وثرية من الزميل المخرج المسرحي أحمد فؤاد الشطي رئيس المسرح العربي، والتي تمت تغطيتها عبر مجلة نقد × نقد بعنوان (المرأة في المسرح الكويتي ضمن مهرجان الشارقة للمسرح الخليجي)، وتميزت ندوة الكويت بتنوع الأوراق وحيويتها، بالإضافة للمداخلات الثرية من قبل جمهور القاعة، والتي تم رصدها في ذلك المقال.
سيطرة الهاجري وهدوء الشنفري
بإدارته المميزة وصوته الهادئ، سيطر الدكتور خليفة الهاجري، على مسار الندوة التطبيقية التي أعقبت العرض العماني، وشكّل مسارها بانسيابية وسلاسة، رغم تكدسها بعدد كبير من المداخلات، حيث فاق العدد جميع الندوات السابقة، ولم يوقف سيل تلك المشاركات إلا اعتذار عريف الندوة عن استقبال المزيد منها للحاق بالنشاط التالي في الليلة ذاتها.
اللافت للنظر أن أجواء الندوة ظلت منضبطة لم تتأثر بمستوى الآراء المطروحة ضمن المداخلات، ومدى جرأتها أو حدتها، رغم كثرة الآراء الجريئة، الفضل في ذلك يعود بالدرجة الأولى للتعليمات التي دشّن بها الهاجري الندوة، راسماً من خلالها نهجاً لا يمكن الحياد عنه، ويحقق للجميع فرصة المشاركة دون تجاوز على حق الآخر، ساهم في ذلك الانضباط، رحابة صدر مخرج العرض، عماد الشنفري، الذي استطاع بذكاء ومهنية عالية أن يحتوي القاعة بابتسامة وهدوء، واستيعاب كامل لمحتوى كل ملحوظة وتفاصيلها.
فجاءت الندوة متسقة تماماً مع الجملة التي كررها الحضور من أن العرض العماني كان مسك الختام، لتصبح الندوة مسك الختام أيضاً.
هدوء المخرج الشنفري -الذي عُرف بمشاكساته في السابق- دلالة واضحة على نضجه الفني من جهة، وثقته بعمله من جهة أخرى، بل إنه أثناء تعليقه الذي ختم به الندوة، أشار إلى معرفته ووعيه الكامل بجميع الملحوظات التي قيلت قبل أن تقال، وهذه دلالة على أن عين الفنان (الصادق مع ذاته) أول من تلتقط إشكاليات عمله قبل الآخر، حيث وجه كلامه لعلاء الجابر تحديداً، بقوله: “والله إن كل ما ذكرته يا أستاذ علاء كنت أناقشه مع فريقي، أنا معك في كثير من الملحوظات التي ذكرتها”. أما حين وجه كلامه للناقدة ليلى أحمد فخاطبها بلطف شديد: “أنا حزين، كنت أتمنى أن أقدم عرضاً يُعجبك، وإن شاء الله فسأفعل”.
بتلك الردود، وغيرها من الردود التي ناقش بها بعض الملحوظات، أثبت الشنفري أن العمانيين لا يخيبون أملنا في كل مهرجان، وبأنهم من أكثر شعوب منطقة الخليج لطفاً وتهذيباً، وبأن الفنان الحقيقي هو من يؤمن بحق الآخر في التعبير، بقدر حقه هو في التعبير أيضاً.
هفوة النشرة..
بعيداً عن رأيي الشخصي في العروض، من ثم الجوائز، والتي سأتناولها في وقت لاحق، فإن تغطية النشرة للندوات التطبيقية مثلت إشكالية تستحق المناقشة، حيث فوجئت بالإقصاء الكامل لبعض الآراء، أو الاجتزاء منها، أو التغيير في معناها، الأمر الذي طال كثيرين، على سبيل المثال ما حدث في التغطية الخاصة بندوة العرض الإماراتي، من إلغاء كلي لآرائنا (علاء وأنا) من صفحات النشرة، والطريف أن الذي قرر إلغاء رأيي نسي أن يلغي صورتي أيضاً، مما جعل كل من يقرأ التغطية يعلم أنني شاركت بمداخلتي التي لم تُنشر.
وفي تغطية العرض ذاته تم تغيير معنى ما قاله الناقد السعودي عبدالعزيز إسماعيل، والمسرحي السوري دانيال الخطيب، فتحولت مداخلتاهما إلى النقيض تماماً، من انتقاد لبعض مفردات العرض إلى مديح لجميع مفرداته، على ذات النسق تم اجتزاء الملحوظة التي ذكرها د.خليفة الهاجري من مجمل تعليقه، حيث تم نشر ما أعجبه في العرض فقط، وإلغاء ما لم يعجبه. ولا أعرف ما سبب الوصاية على العرض الإماراتي، رغم أن مخرج العرض كان متقبلاً لجميع الآراء، سواء على المنصة أو خارجها حيث اجتمعنا معه (علاء، ود.عبد الرحيم الصديقي وأنا) في حوار رباعي ممتع بعد حفل الختام، أفصح فيه العامري عن وعي يستحق الإشادة، ضمن نقاش بدأ في ساحة مسرح الشارقة، واستمر في مكتبه المكتظ بالأوراق والرسومات.
لكن النشرة اليومية أبت أن لا تتدخل، فطال التغيير عناوين النقاد المشاركين في كتابة القراءات النقدية للعروض المشاركة أيضاً، ورغم معرفتي وممارستي لمعنى (التحرير)، إلا أن التغيير تجاوز هذا المفهوم، حين استبدل العناوين بعناوين أخرى لا تعبر عن مقالات النقاد ولا تمثل آراءهم، بل إن إحدى تلك المقالات عن أحد العروض، تمت إضافة مقدمة لها لم يكتبها الناقد ذاته! وفي الإطار ذاته، مما يؤكد كلامي، أشار الناقد باسم عادل إلى تغيير عنوان مقاله لآخر لا يعبر عنه، في حسابه على الفيس بوك، بل إنني ومنذ أن علقت على موضوع النشرة وما تم فيها من إلغاء لآرائنا -أثناء مداخلتي في الندوة التطبيقية للعرض الكويتي- أكد لي كثيرون تكرار الأمر معهم.
أعلم أن النشرات اليومية للمهرجانات قد تقع في هذه الهفوة أحياناً، فنفاجأ بعدم دقة النقل، أو التجاهل. يحصل ذلك في العديد من المهرجانات، ومنها المهرجانات الكويتية أيضاً، لكن التدخل والتغيير الذي طال النشرات في هذا المهرجان تجاوز المتوقع.
هذا بجانب إشكاليات فردية لا يمكننا أن نلوم عليها المهرجان، عدا إدارة الندوات التي لم تكن موفقة في ندوتَي العرض الكويتي والقطري، حيث فُقدت السيطرة تماماً، وقد رصدت ذلك الخلل في مقالي السابق (ما الذي أغضب عبدالرضا إلى هذا الحد؟!)، والمقال الذي سبقه (مع الأسف يا أبو خلود!)، وتم نشرهما في مجلة (نقد × نقد).
ما الذي يتبقى..؟!
انتهت رحلة المسرح الخليجي، بعد أن أرست سفنها على شواطئ الشارقة، لتستعد للإبحار بسفن جديدة، باتجاه مهرجان آخر، تاركة للمتلقي ومضات مميزة لا تُنسى، مثل افتتاحية العرض الإماراتي التي لفتت الانتباه بمؤثر صوتي صنعته الأواني المشبعة بالحصى، حملته أجساد أنهكها الجوع، ومشهد الكراسي المعلقة، بالإضافة للمشهد الختامي للوجوه المكممة. أو افتتاحية العرض العماني بلمسات تراثية ذكية، ومشهد الحضرة الذي ينطق بالخصوصية العمانية، كما لا يمكن تجاوز أناقة الصورة في العرض الكويتي، وجمالية المشهد الختامي.
تتلاشى الومضات، وتتكدس الذكريات، ولا يبقى من المهرجان إلا اثنان؛ ناقد صادق يُدرك أن الأسماء لا تصنعها الدعوات، وأن الصمت وجه آخر للنفاق، وإن تعددت المسارات، ومُبدعٌ ذكيٌّ، يؤمن بأن الفن تراكُمُ خبرات، وأن الرأي الصادق في الندوات التطبيقية وحده طوق النجاة، ومرآته الحقيقية لاكتشاف هفواته، وتقليص كبواته، وسبيله الأول لمعالجة مثالبه، وصناعة مجده القادم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
★ مدير التحريــر