مسرحمشاركات شبابية

سارة عمرو: عريس البحر.. هجيناً ما بين التراث والمعاصرة

سارة عمرو★

أصبحنا نرى هجيناً لا تحكمه القوانين، كسر سلاسل التقليد، وأخذ يجري في عُرض البحر، تاركاً أثره المُختلف على ضفاف النهر وحتى أعماقه، بلمسة صغيرة يُفجر من خلفه فناً… ذلك الهجين كان باكورة لامتزاج الفنون مع بعضها البعض، من خلال تيارات ومدارس فنية مُختلفة، لإحياء ما هو قديم أولاً، ولعرضه بشكل معاصر ثانياً.

 من الصعب أن نجد التراث الشعبي، يُجسد بطريقة مُعاصرة دون الإخلال بجذوره…وليس مُستحيلاً فالكثير يفعل ذلك، ولكن القليل فقط هم من يُبدعون في خلق هجينٍ مميز…وهذا تحديداً ما أبدع فيه المخرج وليد طلعت في مسرحيته (عريس البحر) …من خلال خلق الهجين الخاص به، واستحضاره على مسرح نهاد صليحة بأكاديمية الفنون.

من خلال تقديمه للفلكلور الشعبي الممثل في موال “مسعود ووجيده ” للفنان الشعبي الراحل محمد طه، العرض عبارة عن دراماتورج للمؤلف محمد عادل، وتمثيل نخبة من فريق الجامعة البريطانية المسرحي، استعراضات شيرين حجازي، وإضاءة أبو بكر الشريف، وديكور د. حمدي عطية.

مشهد من عرض عريس البحر

 جسد العمل موال “مسعود ووجيده” الذي يحكي عن صراع بين أخوين بسبب المال والميراث، حيث يقرر أحدهما قتل الآخر، والتخلص من ابنه ليرث ما تبقى لديه من المال، فيُلقي الطفل بصندوق في النيل، متروكاً لملوك البحر الذين يحرسون الطفل حتى رحلته، وتتوالى الأحداث، فتقع تلك الأسرة في خطيئة كبرى دون علمها.

استطاع الكاتب محمد عادل رسم الخط الدرامي للعرض المسرحي بشكل لم يُخِلَّ أبداً بالموال الأصلي، بل أضيفت عليه أشعار جديدة بواسطة الشاعر أحمد شاهين، بِناء على اختلافات الأحداث ما بين العرض والموال، حسب رؤية المخرج.

العرض كله بمثابة لوحة فنية، لم تخلُ من لُعبة الإضاءة، والديكور، والمؤثرات الصوتية، والأداء الحركي للمؤديين متكاملة العناصر، تُعطي للمتلقي المعنى المُراد من العرض، وقد نجح المخرج في إبراز ذلك من خلال العديد من المشاهد، من أبرزها مشهد الأخوين في بداية العرض، وهذا ما تفتح المسرحية عليه، ليصل للمتلقي من خلال تكوين المشهد الذي تمثل فيه انقسام المسرح إلى نصفين وهميين، على كل نصف تتربع على قوى من الشر، ويمثلها هريدي والعمدة، وقوى الخير ويمثلها عمران وشقيق زوجته.

ويُعد هذا المشهد بمثابة كشف الحقائق للمتلقي، عن الشخصيات والأحداث الرئيسية، وذلك من خلال الإضاءة، التي لعبت دوراً كبيراً في إبراز الصراع ما بين الخير والشر، والإظلام التام للمسرح وتسليط بؤرتين من الضوء على الشخصيات، التي تجسد قوتي الخير والشر.

مشهد من عرض عريس البحر

وكان مشهد السبوع من أفضل المشاهد في تكوينها، وفي عناصرها المسرحية، والذي يُفترض به أن يعبر عن الفرحة للمولود الجديد، لكن افتتاحية المشهد هنا، كانت أشبه بمشهد جنائزي متمثلاً في دخول أهل البلدة، و شامة زوجة عمران، ومجموعة من النساء، بتقنية slow motion على إضاءة حمراء عبرت عن الموت والغدر، تمهيداً لما سيحدث لعمران من أخيه، وضياع مسعود ابنه، حيث يسير المشهد بشكل طبيعي، حتى نأتي لتكنيك استخدمه المخرج لعرض ثلاثة مشاهد في نفس الوقت على الخشبة، فقد نجح من خلال توظيفه للنص، أن يقسم مستويات الصراع من خلال الفضاء المسرحي، عبر ثلاث مستويات متداخلة، مُستخدماً عبارات النساء، التي يرددنها في السبوع، لنصح المولود لكشف الجانب الخفي من الشخصيات ونواياها…فنكتشف من خلال هذا المشهد، نية عمران تجاه أخيه، ورغبة أخيه في قتله، وكانت طقوس السبوع أشبه بنقطة انتقال من عمران، لهريدي في شكل تبادلي.

مشهد من عرض عريس البحر

وكان أيضاً مشهد موت عمران من المشاهد البارزة، فيبدو لنا المشهد بتكوين هرمي، يتربع على رأسه القمر، والمشهد هنا هو رمزية عن السكون، في بداية الحدث وصولاً لاحتدام الصراع، وسفك الدماء بموت عمران، والتكوين الهرمي من المفترض له أن يرمز للاستقرار، لكن بوجود الإضاءة الحمراء في قاعدة الهرم، وجثة عمران، وكل هذا يشير لحالة عدم استقرار الأسرة من بعد موت الأب…ويظهر لنا على الجانب الأخر شخصية بركة، وهو يسترجع صوت عمران، الذي يناديه للصلاة، فيُختتم المشهد بالتكبير، حيث يبدو المشهد، وكأنه أشبه بصلاة جنازة على المتوفَّى.

وقد حرص المخرج على مزج رؤيته الإخراجية المعاصرة، مع التراث الشعبي من خلال الرقصات، والموسيقى، والأداء الحركي بالتعاون مع مصممة الرقصات شيرين حجازي.

ويظهر ذلك من خلال العديد من الاستعراضات، أهمها  مشهد الصندوق الذي وُضِعَ فيه مسعود، ورُمي في النيل، حيث استطاع المخرج في تجسيد النيل من خلال مجموعة من الراقصات اللواتي يرتدين زياً موحداً، وفي حركات انسيابية لتجسيد الموج الغاضب، برغم أن الطفل تبدأ رحلته في النيل، وتلك اشارة ترجعنا لفكرة أن هؤلاء الراقصات لا يُمثلن فقط النيل والماء، بل يمثلن أيضاً ملوك البحر الذين يحمون الطفل في رحلته، بحسب ما ذكره الفنان الشعبي الراحل محمد طه في مواله….وحركاتهن تلك تدل على شدة غضبهن، ورغبتهن في حماية الطفل بأمر من الله، وأنه في رحلته تلك هو آمن حتى يصل للبر…ولم يتوقف دورهن عند هذا الحد / وهذا يُحيلنا إلى اختلاف العرض عن الموال في ذلك المشهد، فيظهر لنا ملوك البحر وحُراس الطفل في مشهد ليلة عرسه، ليذكروه ببُطلان تلك الزيجة !.

ليقفز بنا مشهد النيل وحراس البحر، إلى مشهد آخر له دلالة مهمة في العرض، وهو مشهد حلقة الذكر…فعند وصول الطفل للبر في الصندوق، تبدأ حلقة الذكر مع إضاءة خضراء، والتي تعبر عن أجواء حلقات الذكر الشعبية…وتشير هنا لِاستحضار حالة من الإيمان تعبيراً عن أمان الطفل، والإيمان الذي يحاوطه منذ مهده وحتى كبره…فقد تولى تربيته شيخ يُدعى متولي.

اختتم العرض المسرحي من خلال مشهد الزار، الذي يُعد بمثابة ذروة الصراع الدرامي، لما فيه من مشاعر مُختلطة مؤثرة، بجانب هدفه الأساسي، فالزار هنا هو دلالة لفك شفرات الحجاب، ويُعد أيضاً بمثابة Flashback.

حيث تستعيد شامة ذكريات رمي طفلها بالإكراه، بعد تلك السنوات محاولة تذكر الحجاب الذي وضعته معه في الصندوق، والحجاب كان شهادة ميلاده…ويُشير طقس الزار أيضاً لفكرة التطهير، التي وجب أن تحدث عندما علم الجميع حقيقة مسعود الابن الضائع، وزواجه من أخته، فكان يجب أن يعود كل شيء كما كان من خلال التطهير.

مشهد من عرض عريس البحر

نجحت الإضاءة التي أبدع في توزيعها مدير الإضاءة أبو بكر الشريف، في إيصال المعاني من خلال ألوان الإضاءة المختلفة، التي تنوعت ما بين الأحمر الدال على الموت والغدر، والأخضر الدال على الإيمان، والأزرق الدال على الماء والموج الغاضب والحيادية في بعض المشاهد…مروراً بتقنية البؤرة الضوئية، التي كانت شيئاً أساسياً، لجذب انتباه المشاهد، وتنويره للشخصيات، والأحداث المهمة في العرض، كالتعريف بالشخصيات، وكينونتها، وما تضمره من شر أو خير، ليستطيع المتلقي التمييز بين قوى الخير، والشر، ولكي يلفت انتباه الجمهور إلى ما سيحدث بعد لحظات، كتمهيد للأحداث المستقبلية.

أما عن الأزياء، فقد كان لها دورٌ كبيرٌ في تعريف المشاهد بالشخصيات، فكان هريدي الذي يمثل قوى الشر، يرتدي قفطاناً داكن اللون، بينما كان عمران الذي يمثل الخير، يرتدي قفطاناً فاتح اللون…ويرتدي عمران “عِمَّة” بينما لم يكن هريدي يرتديها بالرغم من أنه الأكبر، إشارة إلى أن عمران، هو شخص حكيم لا يحكم بشهواته مقارنة بأخيه.

بينما كان ديكور العرض بسيطاً وموحداً، مما سمح للمخرج باللعب بالعناصر على أرضية موحدة، فكان الديكور عبارة عن منزل ريفي بسيط، يعبر عن قرى الصعيد بمستويين سُفلي وعلوي…وقد نجح الدكتور حمدي عطية في إنشاء ديكور يتلاءم مع لعبة تداخل المستويات، والمشاهد التي قام بها المخرج. 

ختاماً، أبدع المخرج وليد طلعت في صنع الهجين الخاص به، من خلال مزج الفلكلور الشعبي بالرؤية المُعاصرة، ليُجسد بشكل حي، أحد أكثر المواويل تأثيراً علينا…من خلال عناصر متكاملة، ليُثبت لنا أن للفن الشعبي حقاً علينا، وهو ألا يندثر. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

★ ناقدة ــ مصــر

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى