شعر

عادل الغماز: قراءة في ديوان “أنغام على أوتار الحياة” لجابر الوكيل

عادل رمضان السيد الغماز ★

التقيت به في صيف عام ألف وتسعمائة وثمانية وثمانين، في الدور الثالث بمكتبة بيت ثقافة رشيد، يجلس على أحد المقاعد في الركن المقابل لأرفف الكتب، فقد تقدمت مسئولة المكتبة قائلة: الأستاذ: جابر محمد سعد الوكيل، من مواليد رشيد عام ألف وتسعمائة وأربعة وستين، يكتب الشعر، فقلت: لها أهلاً وسهلاً.
وبدأت علاقة التواصل تجمع بيني وبينه؛ فهو من أبناء المدرسة السكندرية بتاريخها العريق في الفكر الإنساني الضارب في جذور البحر المتوسط، والفكر المصري على اختلاف مشاربه وأشرابهم.
ووقع هواه في نفسي، فلست المتفرد في مدينة رشيد بكتابة الشعر، وخريج المدرسة الدرعمي، ووجدتُ من يسير معي في هذه العاصمة، التي سطع نورها منذ عرف التاريخ كيف يكتب حضارته.
وتداعمت أواصر الصحبة التي تتحدى النحر، وكانت رحلة أصحاب العمر
فقد استمعت إليه في قصيدة ( رشيد الساحرة ) يقول:
من نهر النيل إلى البحر ** تختال رشيد مع السحر
تختطفها وتسابقها ** أمواج البحر إلى النهر
والنيل بتيار لبق **يتحدّى أحلام النحر
ما كانت تلك منازله ** بل رحلة أصحاب العمر
يرسم بها لوحة فنية، تتجلى فيها ضروب المهارة المعمارية، في البناء الفني بهذه الموسيقى المنسابة، من بحور الخليل إلى متدارك الأخفش.
وهذا التوازن الموسيقي بين (البحر والسحر) وهذه الحركة التي تختال فيها رشيد والذات المعجبة، في مقابل الحركة السريعة لأمواج البحر (تختطفها وتسابقها) كأنهما – رشيد والموج أصحاب العمر؛ ويصف -جابر الوكيل- رشيد الساحرة التي تقتاد العقل؛ فتسكر محبيها كعروس يعشقها قلب هيمان.
في لوحة أخرى أشبه بالطرب.
لرشيد عيون ساحرة ** تتألق في صفو العصر
تُلقي نظرات نافذة ** تقتاد العقل إلى السكر
والصب يهيم بلوعته ** ماذا يتمنى لا يدري
فرشيد عروس يعشقها ** قلب هيمان بلا صبر
والعروس إنما هي صورة موحية، تبث فيها الحياة باستحضار الذي يشيع جواً من الحياة؛ والأنوثة الغضة، فهي عروس تتباهى بنفسها، وبتاريخها العريق الضارب في الحضارة الإنسانية، لأنها مفتاح الحياة، ومفتاح الحضارة المصرية، والعشق سمة أساسية في كل من يقترب منها؛ ويعرف قدرها “يعشقها قلب هيمان”، فهي التي يداعب مرقدها النيل؛ ضارباً في وسط الصحراء آلاف الكيلو مترات ينشدها، ويحايل فيها بكل سبل المحايلة، والمكابدة المادية، بالأموال حيناً، أو المهر، أو غير من صور المهر.
والعاطفة التي رقصت على مرقدها أو بقارب الأحلام؛ بهذه الرومانسية في فترة الصحو التي تشكل موقفاً غزلياً، يحشد فيها المحب كل الوسائل، التي تساعده في بعث رسالته “أنغاماً بالحب العذري” على ثلاثة محاور رأسية، المحول الأول: “الرقص” المحور الثاني: “الطرب” المحور الثالث: “شباك الصيد”
والهدف الأسمى الذي يستحوذ على هذا المحب والعاشق الهيمان، ويحدث نفسه به، ويمنيها، وتمني نفسها بالنعيم.
وشباك الصيد تحدثها ** بنعيم الرزق من الفجر
يبني الصياد بها أملاً ** في الله ويحلم بالأجر
سبقت بالعلم وقد صدقت ** أحلام رشيد مع الدهر
وطرحت عليه فكرة المشروع الأول، الذي يجمع كل منا مأربه من خلاله، وهو إنشاء نادي أدب رشيد، وتولى رئاسته خلال تلك الفترة إلى أواخر عام ألفين وإحدى عشرة، وأثناء هذه الفترة انتقل نشاط بيت ثقافة رشيد، إلى رحاب البحيرة بجميع قراها شرقاً وغرباً، ومدن الإسكندرية، والقاهرة، ما بين أمسيات شعرية إلى دراسات نقدية.
وتجسد هذه الأحلام عند المحبوبة في صورة صوفية لعابد ، يسعى جاهداً بالفوز بالذكر، وخطاب المولى – سبحانه وتعالى- أو كالمرشد السياحي يطلع السائحين على ما يريد أن يطلعهم، أو يخفي عنهم ما يريد أن يخفي، وتضع القصيدة بدورها ــ التي تدفع إلى التأمل والكشف عن سرّ تركيبها، والعناصر الدرامية التي تتفاعل في بنيتها ــ للوصول بالقراءة الشعرية، إلى السيطرة على الأعصاب الحساسة للعمل الفني أو القصيدة.
وتحولت العوامل المادية لهذا المحب العاشق الولهان، إلى مخلوق نوراني، تحسه، وتشعر به، ولا تملكه، وهي أشبه بالصورة الصوفية، أو الصفاء الروحي الميتافيزيقي الذي يجسد النور.
النور تجسد في ملك ** يسعى بالربع إلى القصر
ومساجد نور قد فتحت ** أبواب البهجة والبشر
ودعاء صلاة مؤنسة ** بخطاب الله وبالذكر
وشب المولود الأول لنادي أدب رشيد – أنغام على أوتار الحياة – في عام ألفين وخمسة عشر.
هذه الأنعام التي تنوعت أوتارها ما بين دفتي الديوان في عدد من الأوتار، حتى وصلت إلى سبعة عشر وتراً، أو قل قصيدة، هي مجموع الديوان.
ويعزف جابر الوكيل أنغام الديوان باللحن الأول سبحان الله، وتتوالى الأوتار والنغمات ما بين: رسالة إلى قمة المرأة العربية، لو يعلم الحب، بغداد، رسالة إلى كوكب المريخ، التوبة، وداعا يا غرام، فلسطين تتحدث عن نفسها، الصفحة البيضاء، سنعود قريباً، رشيد الساحرة، نداء التحرير، طائر الرحيل، حديث إلى النيل، أم الثورات، الأيام، مصر الصابرة.
ويكشف جابر الوكيل عن السر المكنون، الذي تحول إلى آثار في كل ربع، وكل بقعة على ثراها.
آثار العمر تعانقها** وتسلمها عجب السر
ورحلة الصحاب، وقلب الهيمان لهذه العروس، صار شوارعَ، ومروجاً، وأشجار توت، ونخلاً عابداً.
وشوارع من حجر نشرت ** عبق التاريخ على العطر
ومروج تشهد في فرح ** لعب الأطيار مع الزهر
أشجار التوت تمازحها ** وعلى الجميز ندى القطر
والنخل العابد معتكفٌ ** للمولى يصدح بالشكر
وتأتي اللوحة الرومانتيكية الصوفية، التي تعطي الشعور بالتمكن، وعدم إمكان الفكاك من تلك العروس، التي تألقت ليلة عرسها، واطمأنت إلى هذا الولهان بحبها، وتشبع جميع تفصيل تلك العروس في كيانه، فيكون الوصال.
كتب الرحمن له قدراً ** لوصال رشيد بلا عذر
فرشيد السندس يرسلها** أملاً للبيد وللخصر
حلماً يتبختر في قلم **بالشعر يغرد والنثر
نوراً تشتاق لطلعته **في الظلمة أحلام البدر
وتأتي النهاية، في عدد الصفحات التي حواها الديوان تقع ما بين رقم (ا) : (94) من الحجم المتوسط، بجانب الفهرس، وهي التجربة الأولى للنشر من خلال إقليم ووسط الدلتا، فرع ثقافة البحيرة، إدارة الشئون الثقافية.
ترجع أهمية هذا الموضوع في وصفه لبنة جديدة في صرح الدراسات الأسلوبية للشعر المعاصر عامة، ورشيد خاصة؛ فالمتتبع للحركة النقدية لأدباء رشيد، يجد نقصاً وقصوراً في هذا الجانب، مما يعطي هذه الدراسة، طابع الطرافة والاستحقاق.

___________

★ مدرس أول لغة عربية _ مصر

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى