ضحى السلاب: نوستالجيا حرب أكتوبر ” يوم آمن فى ذاكرة الوطن”


ضحى محمد السلاب★
يأخذنا فصل الخريف إلى شعور جميل بالنوستالجيا … حيث الحنين المحفوف بلمسة باردة تتساقط أوراق الشجر؛ لتعطي دفئاً برتقالياً وكأن الحياة تعيد رسم ذاتها فى لوحة جديدة
يقول عالم النفس والسلوك الأمريكي الدكتور” كلاي راوتلِدج ” الذي له العديد من الدراسات والمؤلفات عن النوستالجيا والتي يُقِرُّ فيها أن استرجاع ذكريات الماضي الجميلة يحسن المزاج، ويُعزز مشاعر الانتماء، وتقدير الذات، والثقة بالنفس، والإحساس بمعنى الحياة، والتفاؤل بما يحمله المستقبل، كما أنه يعطينا حافزاً للسعي وراء أهداف حياتية مهمة؛
حيث يتصل البعد التاريخي للنوستالجيا بالحنين إلى الوطن ، ذلك الحنين الذي يصادف يوم السادس من أكتوبر فى كل عام، والذي تَحَوَّلَ إلى يوم آمن فى ذاكرة الوطن ، والذي يحتفي الشعب المصري بالذكرى الثانية والخمسين لانتصاره، ذلك الانتصار الذي وقعت أحداثه فى تمام الساعة الثانية ظهراً فى العاشر من شهر رمضان المبارك، تلك الحرب التي تُمَثِّلُ الانتصار الأعظم في تاريخ مصر ، وذلك عندما تَمَكَّنَ الجيش المصري من عبور قناة السويس، أكبر مانع مائي في العالم، وتحطيم دفاعات خط بارليف الحصينة فى ست ساعات ، تَلَقّى فيها العدو ضربة قاسية، وتحطمت فيها أسطورة الجيش الذي لا يقهر , تلك الملحمة العظيمة، دفعتني أن أبحث عن سر هذه العظمة، وسبب أو أسباب هذا النصر ، فبالنسبة للمجتمع المصري ، كان كل شيء يسير بصورة طبيعية واعتيادية.. أيام وليالي رمضان قد انقضى منها تسعة أيام، وأصوات كبار قرائنا تتضوع في الأجواء الرمضانية.. الفرق المسرحية تواصل عروضها و”مدرسة المشاغبين” بأبطالها الشباب عادل إمام وسعيد صالح ويونس شلبي تشغل بعضاً من الرأى العام وتثير الجدل، وفيلم ” خلي بالك من زوزو” يحقق أعلى إيرادات السينما المصرية.. الدوري العام في أسبوعه الخامس، وقد تعادل الزمالك وفاز الأهلي أمس الجمعة، وغزل المحلة بطل دوريّ موسم 72/73 يلعب ضد فريق الطيران في ملعب الترسانة فى ميت عقبة.. المدارس تبدأ اليوم الأول من الأسبوع الثاني فى العام الدراسي وطلاب فترة الظهيرة ما زالوا فى انتظار الانصراف من الطابور إلى مقاعد الدراسة فى الفصول.. الأسواق مكتظة بالناس لشراء مستلزمات الإفطار.. الطقس ما زال يميل للحرارة.. الصحف تنشر اجتماعاً دبلوماسياً هادئاً بين السادات وكيسنجر وزير الخارجية الأمريكي، وأنباء الكرة والفن وأسواق رمضان تسيطر على الصفحات الأولى للصحف المصرية السيارة.

الشيء الوحيد الذي كان ملفتاً فى بداية هذا اليوم هو قرآن الفجر الذى يذاع من مسجد سيدنا الحسين، ويستمع إليه كافة الناس استعداداً لصيام يوم جديد.. لفت الانتباه صوت القارئ الشيخ محمد أحمد شبيب وهو يقرأ آيات من سورة “آل عمران” تشد أزر الجنود وتستبشر بالنصر من عند الله.. لا أحد يعرف هل كان الشيخ يعلم بموعد الحرب في ذلك اليوم أم أنها نفحة إيمانية ببركة قرآن الفجر.. (إن قرآن الفجر كان مشهوداً).

المشهد على الجبهة كما رآه العدو يسير بالروتين المعتاد رغم قلق من معلومات متواترة عن حشود واستعدادات كبيرة وموعد قريب جداً لاشتعال شرارة المعركة.
الجنود يمارسون عاداتهم اليومية فى لعب الكرة والغناء وغسل ملابسهم ونشرها.. كل شيء هادئ قبل لحظة الانفجار.
الإذاعة المصرية تذيع برامجها اليومية المعتادة وأغاني رمضان الشهيرة.. ثم فجأة ينقطع إرسال الإذاعة عند الساعة الثانية وعشر دقائق من بعد الظهر بصوت موسيقى المارش العسكري. يتجمد الناس أمام المذياع، لم تكن أجهزة التليفزيون قد غزت البيوت وقتها، الحياة تتوقف كأننا أمام مشهد سينمائي توقف فيه المشهد لا صوت يعلو فوق صوت المارش العسكري، اِنتظاراً لما سوف يجيء بعده.
العيون شاخصة والقلوب تنبض بعنف.. القلق والحيرة والخوف من أنباء لا تطمئن.. فجأة يتوقف صوت المارش.. ينطلق صوت المذيع حلمي البلك وبنبرة هادئة تثير الخوف: “هنا القاهرة.. جاءنا الآن البيان التالي من القيادة العامة للقوات المسلحة.. قام العدو في الساعة الواحدة والنصف من بعد ظهر اليوم بمهاجمة قواتنا فى منطقتي الزعفرانة والسخنة في خليج السويس، بواسطة عدة تشكيلات من قواته الجوية عندما كانت بعض من زوارقه البحرية تقترب من الساحل الغربي من الخليج، وتقوم قواتنا حالياً بالتصدّي للقوات المغيرة.. هنا القاهرة”.
يتطاير سيل الأسئلة من عيون المصريين والألسنة تلهج بالدعاء، والأكُفّ ضارعة إلى السماء.. يا رب استر.. ماذا حدث.. مشاهد النكسة ليست بعيدة.. هل هي هزيمة جديدة.

تمر خمسة وعشرون دقيقة كاملة والناس في انتظار ما يطمئنهم، ويُبدد الخوف والقلق من صدورهم والحيرة في عيونهم.. تتصاعد مشاعر الخوف والقلق حتى تأتي الساعة الثانية وخمس وثلاثون دقيقة ، ويتوقف الإرسال مرة أخرى بموسيقى المارش العسكري، ويأتي صوت المذيع يحيى عبد العليم معلناً البيان الثاني: “هنا القاهرة.. جاءنا الآن البيان التالي من القيادة العامة للقوات المسلحة: بيان رقم اثنين.. رداً على العدوان الغادر الذي قام به العدو ضد قواتنا، تقوم حالياً بعض من تشكيلاتنا الجوية بقصف قواعد وأهداف العدو العسكرية في الأراضي المحتلة.. “.
الأصوات تعلو وهتاف الله أكبر يصعد إلى السماء.. تبدد بعض القلق والخوف إلى الدعاء بالنصر لجنودنا البواسل على جبهات القتال.. أدرك الجميع الآن أن لحظة الحسم قد حانت ، وتدفق الناس إلى الشوارع.. ليعلنوا: “كلنا جنود”، الكل يعلن استعداده للدعم والمساندة والمساعدة بأي شيء، وبكل شيء.
بدأت تباشير النصر تلوح في الآفاق.. فيأتي البيان الثالث ليؤكد بدايات تحقيق حلم النصر الذي تعلق المصريون بأهدابه وتشبثوا به.
في تمام الثالثة عصراً يتلو الإعلامي حلمي البلك: “هنا القاهرة.. جاءنا الآن من القيادة العامة للقوات المسلحة البيان التالي.. إلحاقاً بالبيان رقم اثنين.. نفذت قواتنا الجوية مهامها بنجاح، وأصابت مواقع العدو بإصابات مباشرة، وعادت جميع طائراتنا إلى قواعدها سالمة عدا طائرة واحدة.. هنا القاهرة”، ثم يتبعه في الثالثة والنصف بصوت يحيى عبد العليم: “هنا القاهرة.. جاءنا الآن من القيادة العامة للقوات المسلحة البيان التالي.. البيان رقم أربعة.. حاولت قوات معادية الاستيلاء على جزء من أراضينا غرب القناة، وقد تصدت لها قواتنا البرية، وقامت بهجوم ناجح ضدها بعد قصفات مركزة من مدفعيتنا على النقاط القوية المعادية، ثم قامت بعض من قواتنا باقتحام قناة السويس ومطاردة العدو إلى الضفة الشرقية في بعض مناطقها وما يزال الاشتباك مستمراً على الضفة الشرقية لقناة السويس.. “.
تتعالى أصوات الناس بهتافات “الله أكبر .. الله أكبر.. النصر لمصر”.. الحلم بات حقيقة ورايات الأمل تعلو فوق مرتفعات اليأس والإحباط.
ثم وعند الساعة
الرابعة وسبع دقائق جاء البيان الخامس.. إنه بيان العبور.. والنصر المبين.. بصوت استثنائي هذه المرة ينطلق حلمي البلك ليقول أغلى كلمات سمعها المصريون: “هنا القاهرة..
جاءنا الآن من القيادة العامة للقوات المسلحة البيان التالي.. نجحت قواتنا في اقتحام قناة السويس في قطاعات عديدة، واستولت على نقاط العدو القوية بها، وقامت برفع علم مصر على الضفة الشرقية للقناة.. هنا القاهرة”.

تأكد المصريون أن النصر تحقق وسقطت الأوهام وتحطمت جدران الهزيمة واليأس وانهارت الأساطير والشائعات.. وامتلأت الشوارع بملايين المصريين، اِحتفالاً بيوم طال انتظاره وتحملوا من أجله الكثير والكثير جداً.. لكن كل شيء يهون من أجل مصر وعزتها وكرامتها.. الكل يشارك في المعركة تضامنا مع جنودنا.. الغناء يعلو بألحان وأناشيد النصر والفن يشارك في دعم المجهود الحربي، ويقرر المسرحيون والسينمائيون التبرع بحفلات العروض المسرحية والسينمائية وبريعها لدعم القوات المسلحة الباسلة.. حملات التبرع بالدم لا تتوقف.. التبرع بالمال والحلي وبأبسط الممتلكات في كل قرية ومدينة في مصر.
تناول ملايين المصريين إفطارهم في الشوارع.. وأمام البيوت.. عصير مدفع الإفطار أصبح شربات النصر.. الفرحة تعلو الوجوه ومشاعر الفخر والثقة تطير من بين الضلوع؛ لتعانق الجنود فوق رمال سيناء وتباركهم.. لقد فاض طوفان النصر العظيم.
وعلى المستوى الثقافي أو ما يسمى في رأيي ” بإبداع الحرب ” فقد كان ” للشعر دورٌ مهم فى شحذ الهمة و الاحتفاء بالجندي المصري، وكذلك بالنسبة للأغنية ، فقد كتب فاروق شوشة قصيدته الرائعة ” اليوم السابع ” التي اعتبر فيها أن الحرب لم تكن قد انتهت بعد الأيام الستة فقال
” اليوم السابع جاء ….
سقطت أحلام المخمورين المهزومين…. قذفت ببقايا الوهم الجاثم فى سيناء “
وكتب فاروق جويدة قصيدة بعنوان” وخرجت مصر من صمتها” , وكتب صلاح جاهين قصيدته ” أجمل من أكتوبر ” وكذلك ” دولا مين ” و ” ضليلة فوق رأس الشهيد ” .
” أما بالنسبة للأغنية
خلال الأيام الأولى من المعركة، بثّت الإذاعة أغانٍ قديمة أنتجت خلال حرب الاستنزاف، مثل “حبيبتي يا مصر” لشادية و”سكت الكلام والبندقية اتكلمت” لعبد الحليم حافظ،
لكنه يؤكد رفض الإذاعة حينها بثّ الأغاني التي خرجت بسبب النكسة، “كي لا يتذكر الناس أجواء الهزيمة”. ويذكر مثالاً على ذلك رفض بثّ أغنية أم كلثوم “إننا فدائيون نفنَى ولا نهون، إننا لمنتصرون” رغم أنها “كانت أغنية مناسبة للحدث.
يقول مدير تحرير مجلة “الهلال” الثقافية محمد دياب في حديث لبي بي سي نيوز عربي، إن مشهد تدفق الفنانين على مبنى الإذاعة في مصر تكرّر في الحروب الثلاثة التي عرفتها البلاد في النصف الثاني من القرن العشرين (1956 و1967 و1973).
لكن مدير الإذاعة لم يستدع الفنانين للغناء في حرب 1973، كما حصل في عام 1967 و1956، بل بدأ الملحنون والشعراء بالتوافد تلقائياً على الإذاعة للمساهمة في إنتاج أغاني وأناشيد تواكب أخبار المعارك، بحسب دياب
ويضيف دياب إن بليغ كان أول من قصد الإذاعة، وبدأ بالتحضير مع الشاعر عبد الرحيم منصور وعبد الحليم حافظ لتسجيل أغانٍ تناسب الحدث الكبير.
وكانت أولى الأغنيات التي لحنها بليغ حمدي وسجلها في الإذاعة “على الربابة، حلوة بلادي السمرا بلادي الحرة”، بصوت وردة الجزائرية.
وتبعها نشيد “الله أكبر بسم الله” الشهير من أداء المجموعة (الكورال). ولحّن لشادية “عدينا الهزيمة يا مصر يا عظيمة “ويشير دياب إلى أن حمدي ومنصور ووردة وعبد الحليم تنازلوا عن أتعابهم للإذاعة التي لم تكن تملك حينها ميزانية لتسجيل الأغاني، وسدّدوا أجور الفرقة الموسيقية من جيوبهم الخاصة، “فانتقلت هذه العدوى إلى الفنانين الآخرين الذين تنازلوا عن أجورهم لصالح المجهود الحربي”.
وتعاون عبد الحليم مع ملحنين آخرين، فقدّم “لفي البلاد يا صبية” احتفالاً بالنصر، من ألحان محمد الموجي وكلمات محسن الخياط. وتصف الأغنية عبور القناة: “طاروا الولاد زي النسور، عدّوا البحور خطوا الجسور”.
وغنى عبدالحليم “خلّي السلاح صاحي” الشهيرة من ألحان كمال الطويل وذلك بعد الإعلان الرسمي عن وقف إطلاق النار، عقب خرق الإسرائيليين الهدنة ومحاولتهم القيام بهجوم مضاد، نجحت القوات المصرية في صدّه.
أول ما بُثّ وللمرة الأولى على أثير الإذاعة، مع صدور الإنتاجات الجديدة، كان نشيد “رايحين شايلين في إيدنا سلاح، راجعين رافعين رايات النصر”، كانت هذه الأغنية خاصة بفيلم “العصفور” للمخرج يوسف شاهين الذي كان قد انتهى من تصويره قبل الحرب، لكنّ عرض الفيلم كان مجمداً بسبب اعتراض من الرقابة.
وأثناء تواجد الفنان السوري موفق بهجت في مصر قدّم له بليغ حمدي “يا جند بلادي يا بطل”.
و مصر داري وسوريا داري والمعارك وحدتنا”، لكن بليغ فضل أن تغنيها المجموعة. والتي تتحدث عن دور سوريا في الحرب؛ حيث تزامن الهجوم المصري على قناة السويس مع الهجوم السوري على مرتفعات الجولان المحتلة، وهو ما أدّى إلى تشتيت جهود قوات العدو الإسرائيلية وجعل من الصعب على إسرائيل التركيز على جبهة واحدة.
وبثّت أنباء الحرب الحماس في الفنان اللبناني محمد سلمان، فقصد دمشق قادماً من بيروت أثناء اشتعال الجبهات، وفق حديثه في مقابلات صحفية أجراها في تلك الفترة.
وألّف سلمان “سوريا يا حبيبتي” كلمة ولحناً، وهي الأغنية الأكثر شهرة عن “حرب تشرين التحريرية”، وغناها مع محمد جمال ونجاح سلام.
المصادر:-
١ـ موقع اليوم السابع/ عادل السنهوري ” هنا القاهرة… جاءنا البيان التالي ” أخطر 5 بيانات فى حرب اكتوبر… أكتوبر ٢٠٢٣
٢ـ كتاب ” الدور الوطني للإذاعة المصرية في حرب أكتوبر ١٩٧٣ ” محمد عبد الرحمن عريف… ٢٠٢٢
٣- موقع إيلاف : النوستالجيا: حين يصبح الحنين إلى الماضي وقوداً للمستقبل … أكتوبر ٢٠٢٥
٤ـ موقع بي بي سي نيوز عربي… محمد همدر ” حرب أكتوبر، التي أشعلت حماس كُتاب الأغنية الوطنية” أكتوبر ٢٠٢٣
★كاتبة ـ مصر.




