رواية

شيماء مصطفى: ” معزوفة اليوم السابع” لجلال برجس..الرقص على حافة الفوضى.

شيماء مصطفى ★

في منجزه الأحدث” معزوفة اليوم السابع ” الصادر عن دار الشروق ، يضع جلال برجس المروى له في مواجهة أمام مرآة ذاته، قبل أن يضعه في مواجهة أمام عالمه الخارجي، فإن كانت شخوصه عاجزة عن إبصار دواخلهم، فالمروى له عليم بالحقائق، بصير بخبايا الأمور، فلا سبيل للتخاذل، ولا نجاة في الهروب، ولا مفر من المواجهة.

تشكل الرواية في بنيتها سردية مدن من الدرجة الأولى، إذ أنها تدور أحداثها حول بؤرة مركزية نسج منها الجد الأكبر وذريته قرى ومدينة ذات أحياء سبع، مذيلة بأرقام ، ككناية عن اتساع البؤرة الرئيسة للأحداث، ولإكساب الطرح شمولية وانفتاحًا، باعتباره إحدى الإسقاطات الدلالية التي تكدس بها النص فإنها تدل على أن سكان هذه الأحياء كأموات الوغى، مجرد أرقام ، في بؤرة باتت فيها الآلة منافسة للإنسان، فلا ندري هل يتم رقمنة الإنسان ، أم أنسنة الآلة، ولم تكن تيمة الرقمنة للأحياء هي الرمزية الوحيدة في العمل، فنجده يشير في العمل إلى أبناء الطائر الأسود، باعتبارهم قوى الظلام ، والطائر الأبيض ، وفي الوقت نفسه يذكرنا في بداية السردية بالسلالات الثلاث للبشر: القوقازية، الزنجية، المغولية، وبالعودة للمعتقد الغجري فنجد أن الغجر يؤمنون بأن أصول البشر ثلاثة رجال أحدهم أسود، وأحدهم أبيض، والأخير غجري، والذي عوقب بالشتات حين قتل أخاه، ولهذا كانت الأحياء السبع مقسمة بين أبناء الرجلين ، في حين سكن الغجر خيامًا على أطراف المدينة ، وللمفارقة يكون الخلاص وعودة السكينة للمدينة على يد غجري (باختو) ، فلم يحمل باختو عبء أبناء عشيرته فقط، بل أعباء مدينة كاملة لفظته هو ومن معه من قبل، ولهذا جاء باختو للمدينة بمهنة عامل نظافة دون غيرها، يحمل مكنسة ويدفع عربة ؛ ليزيل عن المدينة آثار نكسة شوهت بنيتها المعمارية، ودثرتها بالقاذورات، علهم يبصرون، فواجه باختو قوى الظلام في رحلته بيد حملت مكنسة وكتاب وناي، وهي إسقاطات تعكس رؤية سياسية ومجتمعية ثاقبة للكاتب.
ولم تقتصر الطيور السوداء والبيضاء على دلالة الخير والشر الكامنة في النفس البشرية بتفاوت، ولكن كعلامة سيميائية على أبناء السلالات الأخرى، ولهذا لم يطل الوباء الغجر، كون الصراع بين سلالتين أخرتين.

وقد ارتبط العمل بالزمن الواقعي الآني ببنية خطيةـ رغم صراع الأزمنة الثلاثة على الهيمنة ـ حين توغل داخل الواقع وقضاياه السياسية والعرقية، والمجتمعية، كآليات إدارة الأزمات في المجتمعات الاستهلاكية ، حيث الكنز والحيازة لكل ما هو متاح وإن لم يكن مباحًا، وقد تجلى هذا حين تزاحم سكان الأحياء لشراء السلع الغذائية بشراهة أثناء الوباء، والوباء نفسه باعتباره مؤامرة لخفض الكثافة السكانية وللإبادة العرقية، كما اتهم الناس العمدة والجنرال، ما هي إلا سياسة آنية لدى أصحاب القوى والسلطة للهيمنة على العالم، فضلًا عن تناول الأزمات الاقتصادية المتلاحقة والتي نشب عنها خلل في الطبقات الاجتماعية ، كانتقال أدهم من الحي الأول للحي السابع، وغيره.
ولهذا تكمن فك بنية الصراع بين الأزمنة  في الزمن الآني لا الماضي ولا المستقبل ، لأن من ملك الحاضر، صنع الماضي ، وهيمن على المستقبل.

” الاقتراب الحقيقي من ذواتنا هو الاقتراب من اللحظات التي نعيشها، وليس التي عشناها، فتوقعنا في مغبة الاستغراق في الحنين”

وعن الراوي الخارجي فقد منحه برجس فضاء مكاني متسع مكون من سبعة أحياء فتحرك داخله بحرية دون قيد؛ ليوهمنا بحياديته، عبر ضمير الغائب ، حيث جعل السياق السردي متطورًا ومتصاعدًا، على لسان راوٍ آخر غير البطل، وليسرد خبايا المدينة المنكوبة ، والتي يعجز سكانها عن التكيف مع الواقع ، وفي الوقت ذاته ليس لديهم القدرة على التغيير.

وإن كانت سلطة الحكي تقع معظمها تحت هيمنة ضمير الغائب، فهذا لا يعني أن زوايا الرؤيا استندت على رؤية الراوي الخارجي فقط، إذ أحدثت مخطوطة الجد الأكبر اتزانًا، وأكسبت الحكي ثقلًا، باعتباره راوٍ عليم، فإن عاد باختو للناي الأسطوري ، ونجح في حل لغز الحاضر، فلم يتم هذا إلا بمعية مخطوطة الجد باعتبارها إرثًا وخيطًا في رحلة النجاة إذ تضمنت رسائلًا واضحةً، للنجاة أبرزها الوعي والمعرفة.

الأنطولوچيا بين الفرار والمواجهة

في معزوفة اليوم السابع، لم تكن لعبة استدعاء الأصوات (الأشباح) باستخدام ضمير المخاطب إلا لتضع الأشخاص في مواجهة أمام أنفسهم / مخاوفهم قبل أن يتم الزج بهم في مواجهات مباشرة مع الخطر الخارجي، وقد كانت الرؤية عبر ضمير المخاطب باستدعاء الصوت تفوق رؤية الجد الأكبر في مخطوطه ، فهو رغم بصيرته حين شاع الشر في قريته الأولى، لم يواجه ولم يتصدَ للشر ، لكنه وبهدوء هجر القرية واتخذ من بقعة أخرى مهادًا له ولذريته، وربما يكون ذلك لعدم التوافق في المعركتين، ولكن وبعدما استقر في بلدته وحين عاد الصراع بين الخير والشر من جديد ، انسحب مرة أخرى من المعركة، متخذًا من الجبل ملاذًا له.

” إن عقولكم مشاعل تطرد الظلمة، مشاعل لا يتوهج نورها إلا إن وعيتم وعرفتم ، وبتم قادرين على أن تميزوا بين الطريق التي تفضي إلى هاوية ، والطريق التي تؤدي إلى النور”

ولأنه يعلم أن وجود الشر حتمي لتوازن القوى، كان تأثير الناي على سكان الأحياء تأثيرًا مؤقتًا، ولبيان أزلية الصراع واستمراره برزت الموسيقى كمحورًا رئيسًا في دفع الأحداث كونها سبقت اللغة المنطوقة من جهة ، ومن جهة أخرى لا تعترف بلهجات أو فوارق، فالجميع يمكنه سماع الموسيقى والتفاعل معها، عكس اللغة المنطوقة التي تتطلب فهم ودراية للتواصل مع الآخر، فجاءت الموسيقى لتفرض كلمتها ولتوحد الجميع تحت رايتها، وقد كان الناي تحديدًا دون غيره من الآت الموسيقية ، لسببين أولهما : أنه من أقدم الآلات الموسيقية وأبسطها إذ أنه يصنع من القصب البري، ولهذا فهو آلة بسيطة تواجدت في الماضي ، وما زالت في الحاضر، والسبب الثاني أنه يتم التعامل به بالنفخ من روح العازف، فيحمل في جوفه سر البشر وبيده بوحهم ، آلة تحمل الحزن والفرح، ومزمار الحب في الثقافة القديمة، فالحب والفن قاربا النجاة، وعماد الحضارة.
ولم يكن الحب بشكله الحميمي بين الذكر والأنثى والمتمثل في علاقة باختو وتوليب وحده المراد ، ولكن الحب بمفهومه الشامل ، كحب شاندور لعشيرته وتمسكه بخصوصيتهم وهويتهم، حب الجد الأكبر لأحفاده وتركه لمخطوطه كمشكاة ترشدهم حين يسود الظلام، حب بدور لباختو ووجودها بجانبه بكل ما أوتيت من قوة، حب أدهم لجاد ورغبته في إنقاذه، حب نوار للفن.

” عادة ما تأتي التجارب الأولى في الحب متهورة، مثل نزول شخص لا يجيد السباحة إلى بحر ساكن، لو تلاطمت الأمواج فستصبح نجاته مرهونة بقدرته على التوازن.

وما يثير الذهن حقًا، هو الخروج عن النمطية المألوفة عن التاريخي المرجعي للغجر، واعتماد أغلبهم على نسائهم في إعالة الأسرة، فنجد باختو عائلًا لأسرته، وقارئًا نهمًا، يلتهم كل ما يصادفه من كتب، وراقصًا مؤمنًا بمقولة حلا الدعاس” الرقص ..أيتها السعادة القصوى..أيها الحزن العميق”
فرقص على حافة الفوضى، وحينها بدأت الأرض تتأهب لحدث جليل.

يقول إدواردو غاليانو :
“أنا لا أطلب منك أن تصف سقوط المطر ليلة وصول كبير الملائكة، أنا أطلب منك أن تجعلني أتبلل”
لجلال برجس قدرة على سرد التفاصيل بدقة متناهية في الوصف والتشبيهات، ونقل الصورة الممتدة لاستثارة حواس المروى له وكأنه جزء من التجربة، فنجد المدينة بكامل تفاصيلها، والبؤرة البدائية التي سكنها الجد، تتسلل لأذننا أصوات الطبيعة، تخترق أنوفنا رائحة الموت، ترتعش أجسادنا رهبة ، وتنبض قلوبنا محبة.
وقد جاءت التشبيهات مستمدة من البيئة المحيطة بالأحداث
” تمددت الوحشة في أرجاء شقة توليب مثل ظل في كهوف رطبة”
كذلك وجود شجرة القيقب في الثلث الأول من العمل، وهي الشجرة النفضية التي يصنع منها الأثاث والآلآت الموسيقية، وهي من النوع غير المقاوم للتعفن، إشارةً للتأثير المؤقت للناي، وتأكيدًا على وجود الموسيقى منذ الأزل، وإن كان الناي تأثيره مؤقت، فهناك آلات أخرى ستصنع لتهذب الروح وتقيها شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، منها كمنجات الغنجر .
وقد جاء الغلاف في غير تكلف لإرث الجد لإحفاده من مخطوط وناي وطائر .

آليات بناء الشخصيات والصراعات

في الأعمال الأدبية تُقدم الشخصيات، ويكشف عن مرجعيتها من خلال السرد أو من خلال الحوار، وقد تكون الشخصية ممثلة لطبقة بعينها، أو معلنة عن توجه ثقافي لفئة ما، إذ أن الثقافة يندرج تحتها اللغة والفن وعادات الشعوب وتقاليدها من مأكل وملبس وغيرها، وفي ” معزوفة اليوم السابع” مثلث كل شخصية شريحة مجتمعية، فنجد أدهم وآراءه، وشاندور وعشيرته وباختو وقضيته، وتوليب وكاميرتها، والجد ومخطوطه ونوار وفنه، وجوناثان ومخططاتها، وروبين وبخت ومخاوفهما، وجاد وخواءه، وبدور وميادة وتطلعاتهما، جاءت الشخصيات لتعبر عن الصراعات بين الفن والجمال والثورة والتمرد والانهزام والسلطة ، ورغم وجود شق خيالي في السرد، إلا أن الحوار والعلاقات التفاعلية بين الشخصيات ، لا تبرز هيمنة الخيال، بل جاءت مقنعة، نظرًا لإمكانية حدوث ذلك في الحقيقة.

ولأن الصراعات الفرعية تسخر بنيتها لتغذية الصراع الأكبر ، فجاءت صراعات الأزمنة والأماكن وصراع طيور الظلام والفن لتبرز الصراع بين الإنسان وذاته والذي يختل فيه ميزان القوى حين ينتقل الوحش الكاسر الكامن بداخله ليهدد بؤرة الحمل الوديع قبالته.
”في داخل كل واحد منا وحشٌ کاسرٌ، قبالته حمل ٌوديعٌ، وكلٌّ له دائرة لا يغادرها،  فثمة ضَوْء يُلقي بشعاعه عليهما بحيث لا يترك أي منهما مكانه، حينها إما أن يصبح ضعيفًا، وإما متوحشًا“. ولهذا سقط جوناثان والعمدة ومن تبعوهم في حافة الهاوية، ونجا باختو وشاندور وتوليب ونوار ومن تبعوهم، وخُلّد أدهم ومن سبقوه.

وعن اللغة فقد كانت اللغة الفصحى مهيمنة على السرد والحوار، ورغم عدم تعددية البنية اللغوية للشخصيات ، وتقارب لغة السرد ولغة الحوار إلا أن النص لم يغرق في الانزياحات اللغوية، بل جاءت موظفة بشكل يتلائم مع الصراع بين المنطوق والمعزوف والمرقمن.

الكاتب الأردني جلال برجس

العمل بمثابة نقد ثقافي ومجتمعي، لعالم بات تحكمه السلطة والمال، ويتلذذ بالرقص على حافة الفوضى، ودعوة واضحة لعدم الحياد في بعض المواقف لأن كما قال فرانسيس بيكون” الوقوف على الحياد في الصراع بين القوي والضعيف لا يعني الحياد ولكن يعني الوقوف مع القوي .”
ورغبةً من الكاتب في حياة إنسانية لا يشوبها القلق ويهدد سلمها الموت، ودعوةً لخلق توازنًا مع النفس وتصالحًا مع الذات قبل الآخر في معركة البقاء، وكي لا نستمر في الرقص على حافة الفوضى.


★سكرتيرة التحرير.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى