سينما

علاء عباس: «aftersun» ..رقصة أخيرة في معركة خاسرة مع الاكتئاب.

علاء عباس ★

فقد شخص عزيز يدفع الإنسان في محاولة لدفن حزنه للبحث جاهدًا عن أي شئ قد يُعيد ذلك الارتباط العاطفي مع الفقيد، من خلال استخراج المشاهد والأصوات وحتى استعادة بعض الروائح المميزة، فيبدأ في رؤية وسماع أشباح الماضي بزيارة الأماكن التي اعتادوا الذهاب لها معًا، يرتدي نفس الملابس وقد يضع حتى نفس العطور ويسمع نفس الموسيقى، وبنهاية الرحلة إما يتوصل لطريقة يتعايش بها مع الوضع الجديد أو يغرق أكثر في بحر حزنه وشعوره بالخسارة.

‏”عندما كنت في الحادية عشر.. كيف كان تصورك عمّا ستكون عليه اليوم؟”
‏- صوفي لوالدها –

ذكريات الطفولة غالبًا ما تظل عالقة بعقولنا، بالطبع يختلف الأمر من شخص لآخر فهناك من يستطيع استحضار العديد منها وهناك من لا يقدر على تذكر سوى القليل، لكن دائمًا ما تكون هناك ذكرى واحدة على الأقل تظل معنا لفراش الموت تستمر في التغير والتشكل مع مرور الوقت والتقدم بالعمر ويتغير منظورنا لها كلما نضجنا واختلف فهمنا لطبيعة الأشياء، فتلك الذكرى قد تكون سعيدة في وقتها لكن مع الزمن وإضافة السياق لأحداثها تتحول لذكرى حزينة مؤلمة، والعكس صحيح.

‏الخروج عن السرد التقليدي

‏صوت شريط VHSيدخل ببطء في مشغل الفيديو تفتتح به شارلوت ويلز فيلمها الطويل الأول وتفتح لنا من خلاله نافذة على عُطلة صيفية قضتها الطفلة صوفي مع والدها في تركيا بعيون صوفي البالغة بعد عشرين عامًا، عبر حبكة لا تتناسب مع السرد التقليدي لكن رغم ذلك تستطيع شارلوت صُنع فيلم يعلق بالأذهان من خلال تقديمه كتجربة أكثر من كونه قصة، ترتبط خلاله بالشخصيات بشكل حقيقي تلمس فيه آلامهم ويتركك في نهايته فاقدًا للنطق والقدرة على التعبير.

‏الطريقة التي يتم عرض الفيلم بها هي من الأسباب الرئيسية والطبقة الأولى في جاذبيته، مجموعة ذكريات نراها عبر شريط فيديو مُدمجة بصور مشوشة من ذاكرة البطلة ومن خلالهما تتمكن المخرجة من سرد قصتها عن طريق خطيّ أحداث بين الحاضر والماضي، وهو ما يجعل المُشاهد بعد بِضع دقائق يُثار داخله الشعور الذي يُراوده عند تذكر ذكرياته الخاصة والحنين للماضي، أو عندما يرجع لذكرى سعيدة يغمره معها إحساس غريب بالحزن.

‏الموسيقى والأصوات من حولهم في المشاهد الصامتة خلقت الجو المناسب للانغماس في أجواء الفيلم بأصالة التجربة التي يعرضها من خلال مناظر خلابة ولقطات آسرة للعين، كل ذلك مُرفق بعناية برواية القصة بوتيرة نتعرف من خلالها على الشخصيات وخلفياتها، كما يأخذ الفيلم وقته في تقديم عناصره واحدة تلو الأخرى لبناء قصته حتى نستطيع رسم صورة واضحة مع مرور الدقائق.

‏أكثر ما يُميز «Aftersun» هو أنه لا يعرض مُعضلة أبطاله بشكل صريح، وإنما ينثر التلميحات والإشارات هنا وهناك ويجعلك كمُشاهد تُجمع قطع الأحجية على مهل حتى تتضح أمامك الفكرة ومن ثم تنغمس أكثر في القصة مع تقدم أحداثها واحتدامها.

‏رحلة البحث عن كالوم الحقيقي

‏في عيد ميلادها الحادي والثلاثين تُحاول صوفي استحضار واحدة من الذكريات المفتاحية في حياتها وهي تلك العطلة التي قضتها مع والدها “كالوم” عندما كان بنفس عمرها الآن قبل عقدين من الزمان، ولتفعل ذلك اعتمدت على ذاكرتها الخاصة من ذلك الوقت بالإضافة لمحتوى شريط الفيديو لتبني صورة كاملة وواضحة تفهم من خلالها السبب الحقيقي وراء الضيق والحزن الذي تشعر به.

‏بدأ شريط الفيديو بعرض بعض اللقطات ظنت صوفي أنها ستكون من خلالها صورة مثالية سعيدة لوالدها ولكن بدلًا من أن تملأها تلك اللقطات بالسعادة والحنين، نجدها أكثر غموضًا مما تبدو عليه، بالتأكيد هناك بعض اللحظات الجميلة ولكن بتجميع النقاط ورسم صورة أوضح وأكثر واقعية نكتشف أن كالوم لم يكن حقًا سعيدًا كما تخيلته صوفي ذات الـ 11 عام.

‏”لا أستطيع تخيل نفسي في الأربعين من العمر، لأكون صادقًا.. أنا مُتفاجئ لوصولي للثلاثين في المقام الأول”.
‏- كالوم ـ

يحاول كالوم جاهدًا طوال العطلة بأن يجعل ابنته تحظى بوقت ممتع وسعيد ويبذل كل طاقته لألا تُلاحظ مُعاناته واكتئابه الذي يلتهمه في كل لحظة، يكبت مشاعره ويضع قناع الأب السعيد كلما حاولت صوفي إجراء محادثة جادة معه قد تنتج عنها الإفصاح عن أشياء لا يريدها أن تتذكرها عنه، رغم ذلك تستطيع صوفي استنتاج أن كالوم يُعاني ماليًا في مشهد شراء البساط، كما أنه لم يشعر أبدًا بالارتباط بمدينته، ولديه مشاكل مع والديه منذ الطفولة عندما حكى لها أن لا أحد كان يتذكر أعياد ميلاده حينما كان طفلًا، لكن صوفي الصغيرة لم تستطع في وقتها وصل النقاط ببعضها وفهم ما يُعاني منه حقًا من تدهور لحالته العقلية والنفسية، ويتضح ذلك بقوة في مشهد الجدار الفاصل بينهما ونرى التناقض والتباين اللذان لا يقبلا مجالًا للشك بين العالم الذي تعيشه صوفي على يسار الجدار بألوان الغرفة الدافئة التي تبعث على السلام والطمأنينة، والعالم الآخر البارد شديد القسوة الذي يعيش فيه والدها على يمين الجدار حيث العُزلة والحزن اللذين لا مفر منهما بأي مكان.

‏”أتعرف ذلك الشعور عندما تقضي يومًا رائعًا ثم في نهايته تعود للمنزل لتجد نفسك مُحبط ومُرهق للغاية؟ كل شئ يُصبح مُتعِبًا لدرجة الشعور بالغرق”.
‏- صوفي لوالدها –

‏التأرجح بين التمسك بخيط وإنهاء كل شيئ 

‏تستمر صوفي بالتعمق أكثر في ذكرياتها لتسمح لنا برؤية كالوم الذي لا نستطيع الجزم بشكل قاطع بالمصير الذي سينتهي عليه مع نهاية الفيلم، حيث نراه تارةً يتقاسم مع ابنته أكثر اللحظات العشوائية والحميمية، يُحدثها بصراحة عن علاقاته العاطفية ويطلب منها هي الأخرى أن تخبره المزيد عنها وتُبادله القصص، وتارةً أخرى نرى أفكاره الانتحارية تسيطر عليه تمامًا من خلال عدم اكتراثه عندما كادت حافلة أن تصدمه أو عند ارتباكه المُبالغ فيه عندما رغبت صوفي في تسجيل مقابلة معه بالكاميرا.

‏ومع سعي كالوم الحريص على إخفاء ألمه إلا أنه لا ينجح في ذلك طوال الوقت، كما حدث في مشهد الكاريوكي عندما طلبت منه صوفي الغناء لها كما كان يفعل سابقًا، يرفض كالوم بشدة ليس لشعوره بالحرج ولا لأنه يعتقد أن ابنته قد أصبحت أكبر من هذه الأشياء كما أخبرها، ولكن لأنه ببساطة لم يعد يملك الطاقة أو القدرة على ارتداء قناع الأب المُحب أمام كل هؤلاء الناس، فارتداءه أمام صوفي وحدها كان مُرهقًا كفاية وكأنه يحمل جبلًا على كتفيه.

‏توقف ذلك التأرجح عندما جعلت صوفي الجميع يُغني لوالدها عيد ميلاد سعيد في بادرة طيبة منها ليتلاشى المشهد تدريجيًا لكالوم المُنهار تمامًا في البكاء، منذ تلك اللحظة يتضح للمُشاهد النهاية المحتومة ويستطيع أن يرى بوضوح أن كالوم ما هو إلا شخص قد استنذفه اكتئابه وحطمه لقِطع لا تُحصى، شخص قد استسلم تمامًا وتوقف عن المحاولة والقتال للبقاء على قيد الحياة، فبعد تردده وشعوره بالذنب في بداية الرحلة لشراء البساط لم يتردد لاحقًا أن يلتقط صورة مع ابنته متجاهلًا سعرها الباهظ، فلا يهم كم سينفق من الأموال إذا لم يكن يتخيل نفسه سيعيش لوقت طويل على أي حال.

‏الرقصة الأخيرة

‏مع حلول اليوم الأخير من العطلة ينطلق كالوم مُبتهجًا لحلبة الرقص ويدعو صوفي لمشاركته، تنظر إليه بإعجاب وحب شديدين ثم تحتضنه بقوة كالطفل الذي لا يُريد إفلات دُميته المفضلة، هذا ما يُريد كالوم ابنته أن تتذكره به، أب سعيد ومُحب حرص على إسعادها حتى آخر أيامه معها.

‏اكتملت الصورة أمام صوفي صاحبة الـ 31 عام، الآن أصبحت ترى بوضوح آلام والدها ومُعاناته في تقبل ذاته، ثم تدخل في حالة أشبه بالهذيان تدفع فيها ذاتها الصغيرة لتأخذ مكانها وترقص مع كالوم رقصة أخيرة قبل أن تراه يُفلت من بين يديها غارقًا في الظلام الدامس الذي جاء منه.

‏فقدت صوفي والدها مرة أخرى باستحضارها لذكرياتها، لكن هذه المرة فقدته وهي تعرفه وتفهمه بشكل أفضل، يُمكنها أخيرًا التصالح مع قراره بإنهاء حياته والتوقف عن لوم نفسها ولومه، لن ينتهي الشعور بالحزن أبدًا ولكن على الأقل الآن يُمكنها أن تحزن بطريقة صحيحة تُكرم بها والدها وتمضي قُدمًا بتقبل تام لخسارتها له.


★ناقد ـ مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى