جواد عامر : استعلاء الفيلسوف ورهان الفلسفةفي الثقافة العربية المعاصرة.


جواد عامر★
امتصت الثقافة العربية المنتج الفلسفي اليوناني ممارسة نوعا من الانتقاء بوعي إبستمولوجي استطاع أن يوظف جوهر الفلسفة اليونانية في بيئة عربية إسلامية يسيجها الوحي ، فدخل العقل العربي في صراع فكري محتدم مع شوائب الفلسفة اليونانية التي تخالف المعتقد فلم يجاري تيارها الجارف في ظل وجود إثنيات دخيلة بعد توسع الرقعة وانفتاح الحضارة على الوافد المختلف المحمل بثقافاته المتعددة، فظهرت الغنوصية والأفلاطونية المحدثة وانبثقت فرق اجتهدت في إفساد العقيدة الإسلامية ومحاربتها مدفوعة بنزعتها الشعوبية وكرهها للإسلام المنتصر، فعملت على بث طروحات الميتافيزيقا والفلسفة الهيلينية بالموازاة مع حركة الترجمة عن الفارسية والهندية التي جرت على قدم وساق زمن الرشيد والمأمون بشكل أخص في محاولة لرد الاعتبار لهذه الثقافات وإبراز قيمتها في بعدها الكوني.
ووسط هذا المخاض الثقافي المحتدم وجد الفيلسوف العربي نفسه محاصراً بخطابات متعالية الأنساق ، فكان من اللازم مجاراة الإيقاعات الموجودة بنفس المقامات فجدت الفلسفة العربية في التقاط ما رأته متوائماً مع البيئة العربية وواجهت الشوائب وقارعتها بالحجة مقارعة اتخذت منحيين أحدهما كان في اتجاه الغنوصيين وفرق كالكلدانية والحرانية لمنع تسرب طروحاتها الماورائية المنافية للعقيدة والآخر كان سائراً في خط أفقي تأجج بين مفكري الإسلام مثلما حصل مع الفارابي وهو يحاول أن يوازن بين الفلسفة والدين وما جر عليه ذلك من تكفير لإساءة فهم طرحه الفلسفي أو ما حصل بين الغزالي وهو يرد في تهافت الفلاسفة على غيره وردود ابن رشد في تهافت التهافت ، وهو صراع صحي حتمه سياق تاريخي كان مغتنياً من الناحية الثقافية والعلمية مكن الفكر العربي من إرساء مشروع فلسفي جديد استطاع أن ينقل المفكرة العربية من نسق النقل إلى العقل من أجل المساءلة والنقد الذاتي بعدما خرج الإنسان العربي من دائرته الضيقة التي طبعتها المدونة الشفهية ومازها فعل النقل إلى مدونة جديدة رسمت خريطتها الكتابة التي صارت جزءاً من الثقافة العربية بعد أن ذمت في العرف الاجتماعي والديني بفضل المثاقفة التي أغنت المدونة العربية في شتى المجالات المعرفية والحقول الأخرى كالسياسة والاقتصاد والمؤسسة العسكرية .
إن هذا الاغتناء دفع الخطاب الفلسفي إلى البحث عن هويته في المحضن العربي ليكون قادراً على مجاراة خطابات الاستعلاء فكانت المشكلة الكبرى التي واجهتها الترجمة العربية كامنة في المصطلح الفلسفي الوافد من البيئة اليونانية كالهيولى واللوغوس وغيرها فاستطاعت المفكرة العربية أن تتعامل بدهاء مع هذا اللون من المصطلحات التي واءمها مع البيئة العربية حتى تكون طيعة في الأفهام ، لذا فإن الأنساق التعبيرية في اللغة الفلسفية اتسمت بنوع من الازدواجية التي تراوحت بين الخطاب الميسر يستوي في فهمه العامة والخاصة كفصل المقال لابن رشد والكشف عن مناهج الأدلة والخطاب المتعالي كما هو الحال مثلا في تلاخيصه لاستعماله لغة فلسفية اصطلاحية تمتح من معجمه الفلسفي الخاص حين يكون المتلقي من جنس الفيلسوف فتجده يستخدم لغة خاصة لا يفهمها إلا من يشاكله، ذلك أن الفيلسوف يمتلك لغته الخاصة التي يؤسسها لأنساقه التعبيرية ولهذا نجد المفاهيم تختلف بين الفلاسفة، لأن كل واحد يعمل على إقامة نسقه الخاص وكأنه يمتلك معجماً خاصاً به ، إذ إن غياب المقاربة المفاهيمية في تشغيل المتن الفلسفي تجعل من فهم النص الفلسفي أمرا صعبا ، وهي مقاربة لا يمكن الحصول عليها إلا من معرفة للأصول الفلسفية التي نبع منها التفكير الفلسفي الخاص بالفيلسوف وهو أمر لا يتحقق لعوام الناس ، وقد يلجأ الفيلسوف العربي إلى استخدام مصطلحات من نفس الثقافة المانحة للتعالي على العوام مثل الأيس عند الكندي كما في قوله : “تأييس الأيسات من ليس” ومعناه إيجاد الموجودات من العدم فيتحول التعبير الفلسفي إلى نسق مرموز يحتاج من القارئ إلى معرفة قبلية بالجذور الفلسفية وهو أمر لا يمكن بحال لعوام الناس فيظل الخطاب على درجة عالية من الاستعلاء الذي يحصر دائرة التلقي في حدود الفلاسفة والمفكرين القادرين على فك هذه الشفرات مما يجعل الخطاب الفلسفي موسوماً بالإبهام والغموض ويأخذ الفيلسوف إلى زاوية العزلة عن المنظومة الاجتماعية التي يحاول الفيلسوف أن يخرجها من عتمة الجهلاء إلى أنوار التأمل العقلي .
وأمام هذا الاستعلاء الذي مارسته الفلسفة في ثقافتنا العربية وهو أمر مألوف لدى غالبية الفلاسفة لما يحدوهم من رغبة نفسية في التغيير ونقل المجتمعات التي يعيشون في كنفها إلى منزلة أرقى لا تكون إلا بالتفلسف ، فإن الفلسفة العربية فقدت جوهرها الأنطولوجي في وقت التراجع والانحطاط رغم محاولات الفكر الإصلاحي معانقة التراث السلفي في محاولة للتمسح بلغة الأمجاد والبطولة بعد استشعار الخيبات مما جعل التفكير العربي خابي الشعلة، منطفئ الجذوة مكتفياً باستدعاء الفلسفة الغربية التي قطعت أشواطاً كبيرة منذ النهضة إلى القرن العشرين مؤسسة مذاهب جديدة وممارسة للنقد البناء للموروث الفلسفي اليوناني خاصة نقد المنطق الأرسطي مع ديكارت وإن كان ابن تيمية قد قدم نقداً علمياً ومنهجياً فإن الفلسفة الحديثة في الغرب ستكون مفتاحاً لتقدم العلوم وإحداث ثورات معرفية كبيرة قادت أوروبا نحو تقدم حضاري غير مسبوق بدأ التأسيس له منذ عصر الطباعة ، فظل العقل العربي يمارس استجداءه للعطاء الغربي محاولا بناء فلسفته في بيئته العربية ، غير أن محاولاته لم تكلل بالنجاح في ظل غياب أسس فلسفية جديدة توائم الثقافة العربية المعاصرة التي لم تستطع استنبات فكر عربي قادر على النهوض بالمجتمعات بقدر ما عكفت على امتصاص المنتج الفلسفي الغربي كما صنعت الفلسفة الإسلامية مع فارق كبير بينهما تمثل في قدرة الفلاسفة العرب على انتقاء الموائم للبيئة العربية ومواجهة وطرح ما كان غير صالح للاستنبات في بيئتها بحكم غلبة الحضارة العربية يومها واندحارها اليوم أمام قوة التيار الغربي المتفوق رقمياً وتقنياً وعلمياً ، مما يجعل الرهان الفلسفي العربي الآن خاضعاً للمساءلة من قبل العقل العربي ليسير في رحلة البحث عن هويته العربية سواء عبر استنطاق التراث الفلسفي الإسلامي أو استلهام مقومات الفلسفة الغربية وامتصاص ما يتواءم منها مع بيئتنا العربية، فهل يستطيع العقل العربي نفسه بعد المساءلات التي خضع لها من قبل الجابري والطرابلسي أن يرسم خارطة طريق جديدة لمشروع فلسفي عربي متفرد بهويته ؟!
★ناقد ـ المغرب.