إذاعة وتليفزيون

منة الله حازم: “إقامة جبرية “..هل نحن ضحايا أفعال من سبقونا؟

منة الله حازم

ماذا تفعل إذا فُرضت عليك إقامة جبرية داخل حياة شخص آخر، ممنوعًا من الفرار، ومهددًا بالموت إن حاولت الهروب؟ لماذا أصبحنا نعيش في زمن تنتشر فيه العلاقات السامة والتعلق المرضي؟ هل نحن ضحايا أفعال من سبقونا، أم أن المجتمع ذاته بات بيئة خصبة لصناعة شخصيات مضطربة ترفض الفقد حتى لو كان الثمن حياة الآخرين؟

هذه التساؤلات يطرحها مسلسل إقامة جبرية، الذي عُرض في أواخر يناير 2025، من خلال 10 حلقات من التشويق والإثارة النفسية.
المسلسل من تأليف أحمد عادل، وإخراج أحمد سمير فرج،  بطولة هنا الزاهد، محمد الشرنوبي، صابرين، محمود البزاوي، ثراء جبيل، عايدة رياض.
ينتمي المسلسل إلى فئة الدراما النفسية والجريمة، ويسلط الضوء على التأثير العميق للصدمات النفسية على الأفراد، وكيف يمكن أن تحوّلهم إلى أشخاص مضطربين نفسياً يحملون بداخلهم مزيجاً من الهوس، وحب التملك، والبارانويا، والعدوانية.

تُقدَّم شخصية سلمى(هنا الزاهد)، التي عانت من صدمة نفسية في طفولتها، كنموذج معقد لشخص يعاني من اضطرابات متعددة؛ فقد جعلتها تلك الصدمة تخشى الفقد إلى حد المرض، مما يدفعها إلى اللجوء للعنف عند شعورها بأي تهديد لعلاقتها، كما حدث عندما اكتشفت حب كنزي بموسى، فقررت أن تنتقم بتشويهها، يظهر الهوس في تصرفاتها العنيفة وإصرارها على التمسك بحبيبها بأي وسيلة كانت، وإن لم تستطع فنهايته القتل، في محاولة لتعويض الخوف الذي تراكم في داخلها منذ طفولتها المليئة بالعنف الأسري.
لا تقتصر حالة سلمى على الهوس فحسب، بل تتجلى فيها سمات سيكوباتية؛ إذ تفتقر إلى التعاطف مع الآخرين والتخطيط لجرائمها بدم بارد دون أن تشعر بالندم، كما فعلت مع خطيبها كريم بعد اكتشافها لخيانته، مما أدى إلى بتر قدميه، فهى تنتقم من خيانتهم للعهد معها فالجميع وعدها بالبقاء معها إلى الأبد ولكن لم يستطع أحد الوفاء بالعهد.

تعاني سلمى أيضاً من جنون الارتياب؛ فلا تثق بأحد حتى طبيبتها النفسية “عايدة” التي باتت تراقبها عن كثب خوفًا من أن تُعرض نفسها للخطر، بالإضافة إلى ذلك، يعيش جسدها في حالة من الأرق والتوتر المستمر، مما ينعكس على مظهرها الباهت طوال المسلسل، حيث لم تعرف لحظة من الهدوء أو النوم العميق.

لم يقتصر المسلسل على عرض اضطرابات سلمى النفسية فقط، بل تطرق أيضاً إلى موضوع التعلق المرضي في علاقات أخرى، مثل شخصية عصام، المدمن المهووس بدينا، صديقة سلمى، الذي رفض قبول انفصالها عنه رغم عنفه وإدمانه الذي أثر على كيمياء مخه، مما جعله يشعر بفراغ عاطفي دفعه إلى محاولة استعادتها بأي ثمن، حتى باستخدام السحر كوسيلة لإجبارها على العودة.

كما تناول العمل موضوع التعلق المرضي داخل الأسرة، من خلال علاقة الدكتورة عايدة بابنها موسى، حيث يتحول الحب الطبيعي إلى قيد خانق عندما يحاول الوالد التحكم في حياة ابنه بشكل مفرط، مما يدفعه للبحث عن الحرية في أحضان شخص آخر، فيجدها في سلمى التي تمثل له مرادًا يعكس الجانب الناضج منه، على عكس والدته التي كانت تقيد خياراته.

نجحت الحبكة في كشف تطورات الشخصيات وتصاعد الأحداث بشكل متقن؛ فقد بدأت سلمى بمظهر الضحية التي فقدت زوجها المنتحر، ثم تكشفت الحقائق تدريجيًا لتظهر أنها هي من قتلت زوجها نتيجة تخليه عنها، مما يعكس تعقيدات شخصيتها؛ إذ كانت ترى والدها يعنف والدتها ، فالأب الذى يكون رمزا للأمان كان بنسبة سلمى رمزًا للخطر، مما أثر عليها سلباً عليها  حتى وصلت إلى إخفاء حقيقة بقاء والدتها على قيد الحياة التي كانت مسجونة بتهمة قتل زوجها، كنوع من الحماية الذاتية التى وضعتها سلمى لنفسها.
وعلى الصعيد البصري، استُخدمت اللقطات القريبة جداً لإبراز التفاصيل الدقيقة مثل حركات اليد المتوترة ونظرات العين الخائفة، فضلاً عن استخدام الإضاءة الداكنة، التي سادت في منزل سلمى لتعكس عالمها الداخلي المظلم، فيما كانت إضاءة منزل موسى أكثر إشراقًا لكنها بدأت تخفت تدريجيًا مع زيادة سيطرة سلمى عليه، حتى أصبحت معتمة تماماً في المشاهد الأخيرة، مما أبرز المصير المظلم الذي ذهبت إليه الأمور .
البوستر الرسمي للمسلسل  كان رمزًا لتناقض العوالم؛ إذ ظهر الأشخاص الذين يعرفون حقيقة سلمى أو يشبهونها بالأبيض والأسود، بينما ظهرت الشخصيات المخدوعة بألوان نارية تعبر عن العاطفة والحب، إلا أن سلمى كانت تجمع بين هذين العالمين في شخصيتها المتناقضة.

انتهى المسلسل بنهاية مفتوحة، حيث سُمعت أنفاس سلمى بعد انتحارها، مما يشير إلى احتمالية وجود جزء ثانٍ، ونجد أن نهاية سلمى لم تكن مرضية للبعض؛ فنحن نعتقد  أن سلمى ليست مجرد قاتلة، بل هي ضحية لطفولة مليئة بالعنف وفقدان الأمان، فكانت طفلة تبحث عن الأمان، لكنها وجدت نفسها محاصرة بالخوف، فاحتضنت موسى بجنون لأنه كان أول من منحها شعوراً بالأمان.

بشكل عام، نجح مسلسل (إقامة جبرية) في تقديم دراما نفسية مثيرة تحمل رسائل واضحة بعيداً عن الحشو، مع أداء تمثيلي قوي، خاصة من هنا الزاهد التي خرجت من قالب الفتاة الرومانسية لتجسد شخصية سيكوباتية معقدة دون مبالغة، تاركًا تساؤلات قائمة: لماذا أصبحنا نعيش في مجتمع مليء بالعلاقات السامة، وهل نحن من نصنع هذا القيد بأنفسنا


★ناقدة ـ مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى