طارق بن هاني: كيف يعيد الأدب الرمزي وعي الإنسان بالإنسان؟قراءة في “حصاد القمر” لمحمود حسن إسماعيل؟
طارق بن هاني ★
وقف الشاعر المصريّ محمود حسن إسماعيل أمام حياة الفلاح، وربّما تساءَل – في قصيدته؛ حصاد القمر – هل يعجز ذلك الفلاح عن الإفصاح عن ذاته، أو يتعاجز؟
لا بد أنه كان يعي بأنّ الفلاح في المجتمعات الإقطاعيّة إنسان منسيّ الذات؛ وأن التصوّرات الاجتماعيّة لا تتوانى تختزله مخلوقًا أحطّ من أن يكون مساويًا لملّاك الأراضي والنبلاء، ولذلك فإن مثله لا يجد جدوى في البوح، كما لا يجد الآخرون جدوى في الاستماع إليه، أو الوقوف على حياته بالغ ما بلغت مآسيها.
ويأتي الأدب مقوّضًا للتصوّر الاجتماعي – الطبقيّ، لا بمخاطبة العقول وتوسّل المنطق والمثل العليا التي يصوغها – أصلاً – النبلاء؛ ليتقارضوها فيما بينهم، بل يكتفي الأدب بنقل التجربة النفسية – المتخيلة لذلك المهمَّش – الفلاح، وإحلال الذات القارئة محلّها أو ضمن نطاقها، على نحو ما فعلت – مثلاً – الأمريكية (هيريت بيتشر ستو) في رواية “كوخ العم تومّ” التي ساهمت في تثوير الجماهير ضدّ العبودية، ورغم بساطة حبكتها – من الوجهة الفنية -، فقد قالت كثيرًا عن العبيد السود في أمريكا وعما يقترفه أخوهم الأبيض- النبيل من ظلمٍ يطبّعه التصور الاجتماعي، لقد قالت الرواية ذلك بأكثر مما في وسع أي أدب متقعّر أو منطوٍ أن يفعل، ولنلاحظ أنها لم تقل شيئا عن إنسانٍ بائد، أو مستدعى من الذاكرة الأسطورية مثلاً، بل إنسان يشاركنا العصر والجغرافيا والهواء والآدميّة.
ومن هنا – ربما – يفترق شاعرنا العربيّ المصريّ عن الروائيّة الأمريكية، عامدًا إلى الرمزية.
والرمزية كثيرًا ما تسعف المخاضات النفسيّة – شديدة الغور – على نحو ما نرى – مثلاً – في قصيدة “الغراب” لـ(إدغار آلان بو) التي تميزت برمزيتها الدالة على اكتئاب الشاعر وصدماته. وكثيرًا ما تجنّب الرمزية الأديب المواجهات المباشرة، وتجنب القارئ – أيضًا – التأويلات المعلّبة.
تفكك الرمزيّة في “حصاد القمر” السلطة المرجعية الثابتة للناموس الاجتماعي الطبقيّ، فهي وإن كانت تُتعب القارئ قليلاً فإنها تؤكّد معانيها – بذلك الجهد الفكري الذي تُلقي بأعبائه على القارئ – بل وتحاجج دونها وتحفرها في وجدانه بأكثر مما يمكن للمعاني المباشرة – العابرة أن تفعل، ولا يُستغرب ذلك، حيث تنهض القصيدة بدعوة مبطّنة إلى التغيير. وقد قيل: لئن تنقل جبلا من مكانه حجرًا حجرًا أيسر لك من أن تغيّر إنسانًا؛ فالقصيدة ترمي إلى تصحيح نظرة الفلاح إلى نفسه، ونظرة المجتمع إليه، وربما نستطيع – بهذه الفرضيّة – أن نتفهم حضور الرمزية في القصيدة!
أقف – هنا – على بعض ملامح الرمزية الدالّة عند محمود حسن إسماعيل، وأبدأ بالعنوان الذي أحالنا – ابتداءً – إلى اللّيل؛ لأن الليل هو الظرف الذي يسلم فيه بدن الإنسان أزمّة الأمور إلى تفكيره وذكرياته، ومتاعبه، وآلامه، وآماله.
والأصل أن يكون القمر وقت اكتماله للحصاد (أي: قمر الحصاد، وفق ثوابت المجتمع)، إلا أنّه في القصيدة “حصاد القمر”، وهذا أوّل انزياحٍ – تفكيكيّ – يغالط فيه الشاعر ثوابت المجتمع.
وبعد أن يمعنُ الشاعر في تصوير واقع الفلاح وسهره، مستنطقا القمر، والمكان، والسنابل، والضوء، والأشجار إلخ…، ناميًا إلى كل محسوس منها معنى رمزيًا.
يقف الشاعر عند الفلاح الذي نَسي ونُسي من فرط القهر الذي ناله، فصمت وأُخرس:
عجماءُ… تنْبسُ كالتمتام عاتبةً * وملء أوفاضها التهويمُ والخدَرُ
ففي أوفاض الفلاح (أو وجدانه النفسي) من التهويم والخدر و(القناعات المشوّهة)، ما يجعلهُ مقتنعًا بما يقاسيه، ويعانيه في واقعه البائس، وقصاراه أن يتمتم ويعاتب!
يحثُّه الشاعر بعد أن تلثم بالدونيّة:
أرخِ اللثام فمهما سرتَ مُحتجبًا * نمت على نورك الأسدالُ والسُّترُ
علامَ ضنّك بالأنوار في زمنٍ * إليك يظمأ فيه الروح والبصَرُ؟
ويضع نفسه، محل الفلاح:
سمعتُ سحرك في الأضواء أغنيةً * حيْرى تأوّه عنها الريح والشّجر
فما أعجبُ أن يُسمع ما يُحسُّ عادةً (الذي يؤثر ماديًّا) وهو السِّحر فيما يرى وهو الأضواء… في أغنيةٍ حيرى، يتأوّه نيابةً عنها الريح والشجر! فمفردات الطبيعة تثور وتنوب عن الفلاح في أداء أغنيته الحيرى والتأوّه، وتؤْثِرُ أنت أيها الفلاح الصمت والعمى؟
يكرر مواساته، واشتراكه والفلاح:
وعيتها ونقلتُ السرّ عن فمها * لمن أبوح به والناس قد كفروا؟
فقد وعى الشاعر الأغنية الحيرى، ولكن لمن يبوح – بذلك – والنّاس قد كفروا بالوعي بهدي من غرورهم الذي يقرّهم عليه المجتمع؟ كأنه يتراجع عن موقفه السابق، إذ يعترف أن البوح لا يجدي، وكيف يجدي والناس قد كفروا؟ وربما كان هذا ردّ الفلاح على الشاعر مبررًا صمته!
ذرت عيونك دمعًا ليس يعرفه * إلا غريب بصدري حائر ضجرُ
قلبٌ كقلبك مجروح وفي دمه * هالات نورٍ إليها ينصت البشرُ
يُطمْئِنُ الفلاح بأنّ دموعه التي لم يعرفها أحد، قد عرفها هو (الشاعر)، بهديٍ من الغريب الحائر الضجر في داخله، الغريب عن نواميس الظلم الذي صيرتك أيها الفلاح إلى مصيرك، وهالات النور التي في دمك لن يسمعها غير البشر، وإذا لم يسمعها أحد، فإنك – أيها الفلاح – لست محاطا بالبشر، وأنت أحقّ بذلك الوصف منهم!
وبعد قليل يجد الشاعر نفسه متحدا مع الفلاح، بل ربما نعى حياته فقال:
وأشربتنا الليالي السود أدمعنا * وأنت سالٍ ونفسي غالها الشررُ
بكى الحيارى على الدنيا مواجعهم * وصرّعتهم بلايا الدهر والغِيَرُ
وأنت حيران منذ المهد لا وطنٌ * ولا رفيقٌ ولا دربٌ ولا سفرُ
ويختم:
بكى الحصيد على أحزان غارسه * متى سيحصد هذا الدمع يا قمر؟
فإن الحصيد (السنابل) بكى الفلاح، لا الإنسان!
وأما السؤال… فما يزال مفتوحًا أمام واقعٍ لم يكن الشاعر، ولا الفلاح، واعيين بمداه، وليس الفلاح نفسه إلا رمزًا لكل مظلومٍ لا ينكرُ المجتمع مظلوميته، وربما كان الشاعر رمزًا لكل أديب أراد أن ينطق نيابة عن المهمّشين.
وما يزال الفلاحون في حياتنا كُثُر، يحرثون في الأرض أرضًا يودّون لو أنهم استطاعوا أن يغرسوا فيها كرامتهم!