شعر

جواد عامر: الأنا في الشعرية القديمة بين عنترة والمتنبي.

جواد عامر ★

لا يصدر الشعر إلا من ممتلئ وفكر منتعش ، تحركه القريحة وتبعثه الملكة ، لذا لم يكن غريبا على الشاعر العربي أن يهيم على نفسه في الخلوات متخذا من العزلة ملاذا لتفتيق الملكة وإخراج الصناعة على أكمل وجه وبأحسن بيان ، فكان لابد للشعر من التعبير عن ذات صاحبه وما يعتمل في باطنه من أحاسيس وما يجول في فكره من رؤى وتمثلات عن العالم ، دون أن يحدث قطيعة مع الجماعة التي ينتمي إليها لأنه اللسان الناطق باسمها في كل ميدان ، لذا عبر عن القبيلة والعشيرة بلغة الفخر مثلما عبر عن أناه بنوع من التعالي لا على الجماعة وإنما على الغير المخالف ، فكان أكثر الشعراء إنطاقا لصوت الأنا عنترة بن شداد العبسي في العصر الجاهلي وأبوالطيب المتنبي في العصر العباسي عبر شعرية الفخر التي امتاز بها هذان الشاعران ، وإن اختلفت السياقات المنتجة وتباينت ملابسات الخطاب مما جعل صوت الأنا يختلف بين الشاعرين سواء من حيث الحمولة الثقافية التس شحنت المتن الشعري أو من حيث طبيعة الصوت نفسه الذي تراوح بين سطوة الأنا وحضور الآخر الذي تمثله الجماعة ، لذا فإن النظر في شعر عنترة وظروف نشأته التي جعلته يعد نفسه هجينا وهو القائل :

   أنا الهجين عنتره كل امرئ يحمي حره 

     أسوده وأحمره والواردات مــــسفره

ذلك أن والده نفاه واستعبده على عادة العرب مع أبناء الإماء ، إلا إذا أبانوا عن فطنة ونجابة ، ولم يحظ باعتراف النسب إلا بعد استعادته الإبل التي أخذها منهم بعض أحياء العرب ، فأفرز ذلك الرجل الشجاع وذلك الفارس المغوار الذي لا يشق له غبار حتى تغنت به الأسطورة وجعلت منه صورة من صور الخوارق ، فما كان منه إلا أن يفجر من داخله ألوان البطولة والفروسية كنوع من الإثبات النفسي للذات في الوجود وكأن لسان عنترة كان يومها ينطق ب: أنا فارس مغوار إذن أنا موجود ، فقد كان لانفصال الذات عن الأبوة وقع كبيرعلى نفسية عنترة لاسيما وأن البيئة العربية يومها كانت قائمة في نظامها على مجتمع الانتماء ،سواء للأسرة التي تتمايز طبقيا من حيث النسب والإمكانات المالية والانتماء ، وأي انفصال عن هذا التنظيم سيكون مؤثراً ومدمراً للنفس لكن عنترة كان أقوى على المستوى النفسي مما يمكن أن نتصور ، مستغلا مهارته وشدته في فرض وجوده على الآخر ولفت الانتباه إليه ، ولعل الجميل في الأمر كله هو هذا الاستحضار القيمي لمجتمع القبيلة وهذه من أعلى المكارم التي مازت عنترة فهو لم يتعال على القبيلة التاي شكلت جزءا من التركيب النفسي للشاعر العربي القديم فلا يذكر نفسه إلا والقبيلة حاضرة في عنفوان شعره سواء كان في الفخر كما عند شاعرنا العبسي أو كان ذلك في الهجاء مثلما وجدنا عند أصحاب النقائض يقول جرير في هجاء الراعي النميري : 

  فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولاكلاباً 

ويقول الفرزدق في هجاء جرير :

          إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول 

         بيتا بناه المليك وما بنى حكم السماء فإنه لا ينقل 

         بيتا زرارة محتب بفنائه ومجاشع وأبو الفوارس نهشل 

ويقول في موضع آخر:

        أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع 

       فيا عجبا حتى كليب تسبني كأن أباها نهشل أو مجاشع  

فحضور الانتماء واضح المعالم في مثل هذه الأقوال الشعرية التي يحتمها سياق شعري مشحون بإبراز التفاضل والتفاوت ولايكون ذلك إلا باستحضار مجد الجماعة ومنزلتها في دفاع بصوت ” النحن ” الذي يعلو في مقامات القصيدة لانبعاثه من الباطن الذي تغلي فيه حماسة منقطعة النظير للذود عن حياض القبيلة والانتماء ، لذا يبدو أن نفس الباعث الذي حدا بشاعر الفخر إلى التعبير بحمية عن القبيلة والذات هو نفسه باعث الشاعر العربي في الهجاء وإن اختلف السياق المنتج للخطاب ، فالباعث يظل واحداً .

إن عنترة بن شداد وهو يعلن عن صوت الأنا داخل القصيدة لم يمارس نرجسيته المطلقة كما سيفعل أبو الطيب المتنبي من بعده وإنما سيجعل القبيلة صوتا شعريا قويا يتردد صداه ، وقد شكلت الفروسية والحروب وخوض المعارك الحامية والغارات والدفاع عن الحياض جزءا كبيرا من شعرية الفخر عند شاعر بني عبس فتجد فخره بالفرس باعتباره وسيلة خوض الحروب وبالسيف باعتباره أداة جز الرؤوس وبالقوة والشدة وعدم الخوف والاضطراب يقول عنترة :

        إذا كشف الزمان لك القناعا ومد إليك صرف الدهر باعا 

         فلا تخش المنية واقتحمها ودافع ما استطعت لها دفاعا

         ولا تختر فراشا من حرير ولا تبك المنازل والبقاعـــــا

        حصاني كان دلال المنايا فخاض غمارها وشرى وباعا    

       وسيفي كان في الهيجا طبيبا يداوي رأس من يشكو الصداعا   

        أنا العبد الذي خبرت عنه وقد عاينتــــــني فدع الـــسماعا

ويقول متوجها بنبرة حادة قاسية إلى النعمان بن المنذر:

       اليوم تعلم يا نعمان أي فتـــــى يلقى أخاك الذي قد غره العصب 

      إن الأفاعي وإن لانت ملامسها عند التقلب في أنيابها العــــــطب 

       لله در بني عبس لقد نســـــلوا من الأكـــارم ما قد تنسل العرب

ويقول في موضع آخر :

       إني امرؤ من خير عبس منصباً شطري وأحمي سائري بالمنصل 

ويقول مفتخراً  بشجاعته وفروسيته :

      والخيل تعلم والفوارس أنني فرقت جمعهم بطعنة فيصل 

      إذ لا أبدار في المضيق فوارسي أولا أوكل بالرعيل الأول 

ولم تكتف شعرية الفخر عند عنترة بهذا الجانب الفروسي والبطولي فحسب وإنما كان للأخلاق في متنه نصيب وافر لأنها جزء آخر من أجزاء الفحولة والاكتمال ، فكان لحفظ العرض والكرم نصيب وافر من الفخر في شعره سواء في حالات السكر والصحو يقول : 

          فإذا شربت فإنــــــني مستهلك مالي وعرضي وافر لم يكلم 

       وإذا صحوت فما أقصر عن ندى وكما علمت شمائلي وتكرمي 

وإذا توجهنا إلى العصر العباسي في قرنه الرابع الهجري وجدنا شاعرا عربيا مفكرا مشبعا بقلسفات عصره استطاع أن يعصر كل التراث وأن يستخرج منه شعرا فاق في صناعته وجدته ما فعله معاصروه ومن سبقوه ، فمنحه ذلك التفوق إحساسا بالنخوة والنبوة خاصة أنه كان أقرب المقربين لسيف الدولة الحلبي حتى إنه قرب على ابن عمه أبي فراس الحمداني فنال حزظوة كبيرة لم ينلها غيره ، فزاده ذلك اغترارا وعجبا فانعتقت نرجسيته من داخله وتفجرت في القول الشعري للدرجة التي تجعل الدهر بما فيه منشدا يقول أبو الطيب :

        وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا أنشدت أصبح الدهر منشدا 

  ويقول : 

      أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم 

إنها قمة من قمم التعالي والافتخار بالبراعة الشعرية للدرجة التي تجعل الشعراء وأهل اللغة يسهرون ويفكرون في مقصد كبير الشعراء فتتضارب آراؤهم وتأويلاتهم وهو نائم مستريح ، فيالها من صورة رائعة يرسمها المتنبي لهذا التعالي الزائد عن الحد ، بل أكثر من هذا تجده في بيتيه الشهيرين من القصيدة الميمية حين يعلن عن مقدرة شعره على أن يجعل البصير ذا بصر حديد ينظر إلى شعره مكتوبا ويسمع الأصم كناية على استحالة الإتيان بما يأتي به من شعر، مما يجعل عناصر الطبيعة كالليل والصحراء وأدوات الكتابة تعرفه شخصيا في دلالة على فروسيته وبراعته الأدبية ، يقول :

      أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلمـــــــاتي من به صمم 

     الخيل والليل والبيداء تعرفــني والسيف والرمح والقرطاس والقلم 

إن المتنبي وهو يرسم “أناه ” ويضع لها القواعد والحدود التي يصعب على أي كان اختراقها ، يظل حبيس نرجسيته التي لا يتعدى صوتها الذات الشاعرة ، فلا وجود لروح قبيلة أو مجتمع او آخر في عرفه ، فهو الشاعر العربي الذي ظل يمدح من كان حريا بمدحه حتى إذا رأى منه ما لايسره انقلب عليه كما يقلب الدهر ظهر المجن ، أقصد ما فعله المتنبي مع كافور الإخشيدي ـ ملك مصرـ ، ويمدح سيف الدولة ويتعالى بأناه وسط المجلس في حضرة الأمير الذي كان يعلم طبيعة المتنبي النفسية ، فهو شاعر هزم في حضرته الكثيرين من الشعراء وأهل اللغة ـ على المباشرـ ، فازدادت مكانته تألقا في نفس الأمير لذلك حق له أن يفخر بنفسه ولو كان الأمر في قصيدة يمدح بها الأمير، لذلك لم يتعدى الصوت الشعري عند المتنبي حدود الأنا المتعالية نحو الآخر مجسدا في انتماء للجماعة أو مدرسة شعرية لأنه كان صاحب مدرسة خاصة ، وكأنه كان يستدعي وجودية سارتر في تصوره للآخر : “الآخر جهنم “، فانفرد بذاته وقد ساعده على ذلك تغير الواقع الاجتماعي الذي تجرد من مجتمع القبيلة والعصبية وانفتح على ثقافات متعددة ، فلم يكن هناك أي داع لاستحضاره منطق الجماعة والانتماء الذي مزقته المدنية المختلطة بالأعراق ، ودافع الانتصار الذي دام له أمام الخصوم الذين كثروا من حوله حسدا من عند أنفسهم.

ومن هنا يظهر أن شعرية الفخر عند المتنبي وهي تستدعي كل القيم التي راجت في الشعرية العربية من قبل لم تتجاوز حدود الأنا في صورة شديدة التعالي حتى على القوم والأجداد أحيانا الذين يرفض المتنبي استدعاءهم داخل القصيدة يقول : 

      لا بقومي شرفت بل شرفوا بي وبنفسي فخرت لا بجدودي 

     وبهم فخر كل من نطق الضا د وعوذ الجاني وغوث الطريد

   إن أكن معجبا فعجب عجيب لم يجد فوق نفسه من مزيد 

   أنا ترب الندى ورب القوافي وسمام العدى وغيظ الحسود 

    أنا في أمة تداركها الللـــــــــــــــــــــه غريب كصالح في ثمود  

فهذا إعلان شعري صريح من المتنبي على صحة ما ذهبت إليه من تعالي صوت الأنا داخل المتن الشعري عنده دون استدعاء للآخر ممثلا في الجماعة بغض النظر عما صنعته المدنية من تذويب لعلائق الانتماء وخلق للانفصال الاجتماعي بحكم انتظام المجتمع الجديد تحت إطارات قانونية منظمة توفر الحماية للفرد ، مما جعل علاقته بالجماعة تتلاشى لأنه لم يعد في حاجة إليها ، كما كان حال المرء في الجاهلية حيث الحاجة إلى القبيلة وروح الجماعة أمر حتمي توفيراً للحماية وتعزيز الشعور الأمني ، لذا كان لابد من استحضار المجتمع القبلي وروح الانتماء في شعر القدماء بحكم طبيعة الحياة التي نشاوا في كنفها ، إذ غن هجران القبيلة والسكوت عنها في القصيدة سيعتبر جحوداً إن لم تعدده القبيلة كفرانا لنعمة الانتماء.


مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى