شعر

جواد عامر: تجليات الشعوبية في الشعر العربي.

جواد عامر ★

توسعت الرقعة الجغرافية للدولة الإسلامية بعد الفتوح وكتب للإسلام نصر باهر فدخلت أجناس كثيرة في الإسلام من الهند وفارس والروم وغيرها ، كان منها فريق اعترق بفضل الإسلام عليه لأنه أخرجه من ظلمات الجهل إلى النوروفريق دخل الاسلام ولم ينسلخ عن إيديولوجياته الدينية مستشعراً الهزيمة التي لم يتقبلها نفسياً بحكم انتمائه لحضارة عريقة خاصة بعض أهل الفرس ، فكان منهم المعادون للإسلام ، عداء امتد نحو الثقافة العربية بكل مكوناتها ، فمارس هؤلاء كل أشكال الحجاج دفاعاً عن حضارتهم ومعتقداتهم قبل الاسلام فظهر الصراع الكلامي الذي انداحت دائرته من الأشاعرة والمعتزلة إلى صراع بين الفرق الكلامية نفسها وغيرها من أصحاب الديانات الأخرى كالنصرانية بفروعها المختلفة يعاقبة وملكانية وغيرها وطوائف اليهود من سامرة وقرائين وربانيين ، كل يحتج لصالح دينه مثبتاً أفضلية انتمائه العقدي على الإسلام كما تجلى في الحياة العامة من خلال ممارسة الخطاب المتعالي على من قبل الفرس الذين كانوا أكثر عداء من غيرهم باعتبارهم حضارة معلمة قدمت كل شيء للعرب حتى في باب الأطعمة والأدوية وأسماء الأشربة وأسماء النبات تفاخر الفارسي بتداولها في الأوساط العربية بحيث غدت معجماً رائجاً في اللسان العربي ، وكذلك مررت الشعوبية خطابها الإيديولوجي خارج أسوار السجال الشفهي الجدلي إلى المدونة التوثيقية التي زخر بها المنتج الثقافي نثراً وشعرا عبر ترجمات أخبار فارس وتاريخ ملوكها وأمجادهم مثلما فعل ابن المقفع حين ترجم كتاب : “خدينامه”، وغيره من أهل الفرس ، بل إننا نجد في تاريخنا الشعري نموذجاً فريداً لم يكترث لأمر السلطة نفسها في التعبير عن ذلك الحقد المضمر للإسلام والعروبة ، فقد أنشد إسماعيل بن يسار قصيدة في حضرة الخليفة هشام بن عبد عبد الملك يقول فيها : 

               إني وجدك ما عــــودي بــذي خـــور عند الحفاظ ولا حوضي بمــهدوم 

               أصلي كريم ومجــــــدي لايــقاس به ولي لسان حكد السيف مســــموم 

               أحمي به مـــجد أقـــــوام ذوي حسب من كل قرم بتاج الملك معـــــموم 

               جـــحاجح سادة بلــــــــــــج مزاربة جرد عتاق مساميح مطاعــــــــيم 

               من مثل كسرى وسابور والجنود معا والهرمزان لفخر أو لتعظــــــــيم 

              أسد الكتائب يوم الروع إن زحـــــفوا وهو أذلة ملوك الترك ، والـــروم 

              يمشون في حلق الــــــماذي سابغة مشي الضراغمة الأسد اللــــهاميم

              هناك إن تسألي تنبـــــــــى بأن لنا جرثومة قهــــــرت عز الجراثيم 

فغضب هشام وقال أعلي تفخر وإياي تنشد قصيدة تمدح بها نفسك وأعلاج قومك ؟ فغطوه في البركة 

 حتى كادت نفسه تخرج ثم أمر بإخراجه وهو يشرونفاه وقته إلى الحجاز.

إن هذه النزعة الشعوبية التي نشأت في كنف الحكم الأموي ستأخذ منحاها السري في اتجاه إسقاط الحكم عبر الثورات التي كان من أشهرها ثورة أبي مسلم الخراساني والتي وجد فيها الموالي ضالتهم لينتقموا من بيت بني أمية ، ويظفر الفرس بتحقيق بعض أمانيهم لأن خراسان يومها كانت باب الدولة لإقبال بني العباس منها كما ذكر الطبري في نفح الطيب ، واستطاع الفرس أن يبسطوا سيطرتهم على أجهزة الدولة فكان منهم الوزراء كيحي البرمكي ومنهم القادة والولاة وأخل الديوان فنالوا أرفع المناصب لحنكتهم السياسية وبراعتهم في شؤون الدولة والعسكر، فقربهم الخلفاء وتركوا لهم الأمر بين أيديهم حتى ذكر أحمد أمين في الجزء الأول من ضحى الإسلام خلفاء الإسلام كانوا مجرد دمى على كراسيهم ،إذ كانت شؤون السياسة تمرربفكر وبصيرة أهل السياسة من الفرس قال أحمد أمين : ” فالفرس في العصر العباسي كان لهم نفوذ كبير ،ولكن ليس هذا انعدتم نفوذ العرب كانت أعظم المناصب كالوزارة في يد الفرس ولكن كان الخليفة عربياً هاشمياً وكان له قواد من العرب كما له قواد من الفرس وكان له ولاة من العرب كما له ولاة من الفرس ” .

وقد مكن هذا النفوذ الفارسي من الإعلان والمجاهرة بنسبه وأصله والفخر بهما أمام العرب بعدما لقي ذلك مواجهة حامية من قببل بني أمية التي قطعت دابر كل مولى حركته نوازع الانتماء والجذور، فتزعم بشار بن برد حركة الشعوبيين معبراً بكل أريحية عن أصله الفارسي فيقول : 

          ونبئت قوما بهـم جــــــــنة يقولون مــــــن ذا ؟ وكنت العلم

          ألا أيها السائلي جـــــــاهدا ليـــــعرفني ؛ أنا أنـــــــف الكرم 

          نمت في الكرام بني عامـر فروعي ، وأصلي : قريش العجم 

وقد جاء في الأغاني أن بشاراً كان يدعو إلى ترك ولاء الفرس للعرب وله في هجاء العرب شعر قوي لاذع كما في قصيدته التي هجا فيها عمرو بن العلاء يقول:

          أحين كسيت ـ بعد العري ـ خزا ونادمت الكرام على العقار

          تفاخر يا بن راعية وراع بني الأحرار حسبك من خسار

         تريغ بخطبة كسر الموالي وينسيك المكارم صـــــــيد فار

        وكنت إذا ظمئت إلى قراح شركت الكلب في ولـــغ الإطار

لقد كانت نزعة شعوبية ظاهرة المعالم جلها الخطاب الشعري في ثقافتنا العربية امتدت مثلما إلى المساجلات بين العرب والموالي حيث منطق الغلبة والهزيمة يسيطر في المجالس ولعبة الكيد والدسيسة كانت جزءا من الممارسة السلوكية التي أطاحت بالوزراء من البلاط لما بلغه أهل االسياسة من الفرس من شأن عظيم جعلهم يتحكمون في دواليب الدولة ويتصرفون بملء إرادتهم فوق السلطة الحاكمة نفسها حتى إن من أقرباء الخليفة من كان أعظم الساعين إلى البرامكة لينال منه أعطيات كما ذكر ابن خلدون في مقدمته .

واتخذت الشعوبية مظهرا آخر جسده الصراع النقائضي في الشعرية العربية حيث يظهر افتخار الفارسي بنسبه ومجد قومه وتاريخه .. فيكون الرد عليه من شاعر عربي يعلي من شأن العروبة كما نجد في قول أحد الفارسيين : 

              بهاليل غر من ذؤابــــــة فارس إذا انتسبوا لا من عرينة أو عُكَلْ

              هموا راضة الدنيا وسادة أهلها إذا افتخروا لا راضة الشاء والإبل

فجاء الرد العربي قائلا: 

            لا تغترر أنك من فارس في معدن الملك وديوانه

            لو حدثت كسرى بذا نفسه صفعته في جوف إيوانه

وظهرت شعوبية اعتقادية محملة بالأيديولوجية الدينية وكانت هذه الأخطر على الإسلام ، لأن الشعراء فيها بثوا سموم الملل والنحل فأغرقوا الشعر بفلسفات الإلحاد والزندقة وبأفكارديانات وافدة كالمانوية والمزدكية والزرادشتية والهندوسية والثنوية التي اختصت بالمجوس كما ذكر ذلك الشهرستاني في الملل والنحل ووثنيات اليونان ومعتقدات الصليب وإسرائيليات اليهود ، فقد جعل الخطاب الشعري وسيلة قوية التأثير في الوجدان العربي لما أرساه في تاريخ الشعرية من علاقات قوية مع الإنسان ، كما لجأت غلى وسائل الاستمالة التي مارسها الزنادقة لاجتذاب الناس إليهم عن طريق الإنفاق على تحصيل الكتب فقد أورد الجاحظ في الحيوان قوله : ” إن الزنادقة حرصاء على المغالاة بالورق النقي الأبيض وعلى تخير الحبر الأسود المشرق البراق وعلى استجادة لخط والإرغاب لمن يخط ” ، وقد وجدنا في التاريخ العربي أن التزندق كان سمة طبعت حديثي العهد بالإسلام فأظهروا انتماءهم للمسلمين واستبطنوا مانويتهم أو مزدكيتهم حتى إن ابا نواس ألمح إلى ذلك حين قال : إذا ذكر الشرك في مجلس أضاءت وجوه بني برمك 

         وإن تليت عــــــندهم آية أتوا بالأحاديث عن مَزْدَكِ

ووجدنا شعراء في العصر العباسي يعلنون زندقتهم جهاراً ومن الزنادقة من أذن سكراناً ، بل منهم من أعلن عن وضعه للحديث مثل عبد الكريم بن أبي العوجاء الذي قال : “لقد وضعت أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال وأحل فيها الحرام والله لقد أفطرتكم في يوم صومكم وصومتكم في يوم فطركم ” ، ومنهم من ادعى الزندقة للظرف وكأنها ” موضة العصر” جاء في الأغاني بيت لأحد الشعراء يقول : 

             تزندق معلنا ليقول قوم إذا ذكروه زنديق ظريف 

وقد عملت السلطة على محاربة الزندقة لكنها لم تستطع إيقاف زحفها لأنها كيان نفسي من الصعب الإحاطة به في المضمر لذلك لم تكن السلطة تتهاون في إلحاق العقاب الشديد بكل من ثبتت زندقته لما كان لها من أثر وخيم على العقيدة التي تشكل جوهر الثقافة العربية وكيانها الروحي الذي تتسامى به على باقي الحضارات باعتباره مفتاح الحقيقة التي لا يملكها إلا الوحي فكان الدفاع عن المقدس شرساً أخذ منحيين أولهما كان في اتجاه الزنادقة أنفسهم وثانيهما توجه نحو الإيديولوجية باعتبارها المنبع المحرك والرافد الحقيقي لهذا التيار الذي وجد صداً قوياً تمثل في الفكرالديني الذي حمل مشعله علماء الأمة من الفقهاء وأهل الحديث والفلاسفة .

إن تياراً فكرياً كالشعوبية لا يمكن الحكم عليه بالإطلاقية لأن أهل الإنصاف والمقرين بفضل الاسلام عليهم كثر والتاريخ العربي يخبرنا عن نماذج فريدة أسهمت في بناء ثقافتنا في مختلف أصناف المعرفة ، وعلى الرغم من إفرازاته السلبية على المستوى العقدي فإنه أغنى الشعرية العربية وحمّلها مالم تستطع منتجات معرفية أخرى في ثقافتنا العربية أن تحمله واستطاعت القصيدة أن تفصح عن المكنونات النفسية لذلك الصراع الفارسي العربي وتضعه على مسرح الحياة حيا ناطقاً بما يجيش في الوجدان الإنساني.


★ ناقد ـ المغرب.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى