ميرولا رضا:”رفعت عيني للسما”..صوت المرأة بين الإصرار والتحدي!
ميرولا رضا ★
في قلب صعيد مصر، في أعماق الريف المصري، تتجذر العادات والتقاليد؛ حيث تقف كمأزق وتحدٍ للصعوبات أمام مجموعة من الفتيات؛ يردن إيصال أصواتهن للعالم، وتحقيق أحلامهن عن طريق الوقوف على خشبة المسرح، وكان ذلك في رحلة مؤثرة عن الإصرار، وعن قوة الروح التي لا تُقهر.
في قالب فيلم وثائقي، من إخراج “ندى رياض” و”أيمن الأمير، وبطولة كلٍ من “ماجدة مسعود”، و”هايدي سامح”، و”مونيكا يوسف”، و”مارينا سمير”، و”مريم نصار” وليديا هارون، ويوستينا سمير مؤسسة الفريق ؛ حيث تدور أحداث الفيلم، حول مجموعة من الفتيات في قرية (البرشا) بمركز ملوي، بمحافظة المنيا، اللاتي يقررن تأسيس فرقة مسرحية تسمى “بانوراما بارشا”، وعَرْضَ مسرحياتهن المستوحاة من الفلكلور الشعبي الصعيدي، بشوارع قريتهن الصغيرة، وذلك لتسليط الضوء على القضايا التي تؤرقهن، ومكافحة العادات والتقاليد، كالزواج المبكر، مثلما قدمن في عرض “الفرح”، والعنف الأسري، وتعليم الفتيات، والتحرش، مثلما قدمن أيضاَ في عرض “سواق الأتوبيس”، وحرية الاختيار في شريك حياتهن، ومستقبلهن، ومظهرهن، ودور الفن في التغيير الاجتماعي، وقد ظهر ذلك من خلال رؤية الإخراج، حيث جعل المخرجان هذا يتضح تدريجياً بشكل متصاعد للأحداث، من خلال مشهد المحكمة؛ حيث كان ذلك تجسيداً لعمل فني “مسرحية” داخل عمل فني “فيلم”، كما ظهر ذلك أيضاً في مشهد عرض بعنوان “أتوبيس الاحلام”، حيث قدَّمت “ماجدة” التي كانت تحلم بالسفر إلى القاهرة؛ لدراسة المسرح والعمل كممثلة، وحلم “هايدي” بأن تكون راقصة باليه، بينما حلم “مونيكا” بأن تكون مغنية مشهورة، وقد ظهرت أيضاً براعة الإخراج من خلال مشهد الحريق، حيث يكون مشهداً حاسماً يتجاوز كونه مجرد حدث درامي، بل يحمل العديد من الدلالات والمعاني، التي تعكس الصراع الداخلي لدى الفتيات، وأحلامهن، ورغبتهن، في التعبير عن أنفسهن، فتكون رمزية الحريق في التحديات والصعوبات، التي تواجههن؛ حيث النيران التي تلتهم أحلامهن، فهي انعكاس لرفض المجتمع لأفكارهن وطموحاتهن، وقد ظهر أداؤهن التمثيلي بشكل واقعي؛ حيث سعى المخرجان إلى تقديم فيلم وثائقي واقعي، لذلك لم يكن اختيارهن للتمثيل بناءً على خبراتهن التمثيلية السابقة، بل تم اختيارهن لموهبتهن الطبيعية، وحبهن للتمثيل، وقد كان هناك تفاوت في أداء الفتيات؛ حيث برزت بعضهن أكثر من الأخريات، وقد ظهر ذلك أيضاً من خلال التصوير، الذي كان يديره “أيمن الأمير”، حيث تصوير الفيلم في القرية في بيئتهن الطبيعية، التي يعشن فيها، قد ساعدهن على الشعور بالراحة، والارتجال بشكل طبيعي.
وقد ساهمت زاوايا التصوير في نقل جوهر القصة، وعواطف الشخصيات، حيث تم التركيز على تفاصيل في حياة القرية، مثل الأراضي الزراعية، والمناظر الطبيعية، التي كانت تظهر في لقطات واسعة، مما ساهم في إضفاء الواقعية على الفيلم؛ حيث جعلت المُشاهد كأنه يعيش مع الشخصيات، وقد استخدم ” أيمن الأمير” أيضأ زوايا منخفضة بشكل متكرر؛ ظهر ذلك في تصوير ردَّ أفعال الفتيات، مما جعلهن يظهرن أقوى وأكثر أهمية، وتلك الزاوية، تعكس نظرة المجتمع للفتيات، وكيف يتم التقليل من شأنهن، وقد استخدم لقطات مقربة لالتقاط تعبيرات وجوه الفتيات؛ لفهم مشاعرهن وأفكارهن بشكل افضل، واستخدم الكاميرا المتحركة بشكل مبتكر؛ لمتابعة الفتيات أثناء تحركهن، مما خلق شعوراً بالحركة والديناميكية، وقد ظهرت الإضاءة، ولكنها لم تكن عنصراً تقنياً، بل كانت جزءاً أساسياً من سرد القصة ، وتشكيل أجواء الفيلم؛ حيث كانت معتمدة بشكل كبير علي الضوء الطبيعي، مما أضاف شيئاً من الواقعية على الفيلم، وجعل الألوان تبدو أكثر طبيعية، واستخدم الظلال العميقة؛ لخلق نوع من الغموض والتحديات، التي تعكس الصعوبات، التي تواجهها الفتيات في تحقيق أهدافهن، كما استخدم الضوء المتناقض أيضاً في بعض المشاهد؛ لخلق تباين بين الأبيض والأسود، مما يعكس الصراع الداخلي، الذي تعيشه الفتيات في المجتمع؛ حيث استخدم ألواناً دافئة في معظم مشاهد الفيلم، مما خلق جواً من الدفء والحميمية؛ حيث تعكس طبيعة الحياة في الريف، وتضفي على الفيلم طابعاً رومانسياً، كما برز الديكور في تقديم مساهمات كبيرة للفيلم، وإظهار واقعيته؛ حيث ساعد في نقل المُشاهد إلى قلب القرى الريفية، والتعرُّف على تفاصيل الحياة اليومية بها؛ حيث تم اختيار بيوت ريفية حقيقة؛ لتصوير الفيلم، وأثاث خشبي تقليدي بسيط، والسجاد اليدوي، والزخارف الشعبية، مما يعكس الثقافة والتراث المصري، والاهتمام بتفاصيل الحياة اليومية من خلال طهي الطعام على الحطب، وفي مشاهد قصيرة جلوسهم في الشارع، أو الساحات العامة، كما ظهرت الملابس من خلال ارتداء الفتيات أزياء شعبية تقليدية ومتنوعة، تعكس طبيعة الحياة في الريف، مثل، الفلاحة، التي ترتدي جلابية ووشاح، وملابس العمل في المنزل، فجميعها أزياء بسيطة، ولكن كانت تُعبِّر عن واقع الفتيات، وتضيف لمسة من الأصالة، وأما الموسيقى التصويرية، التي كانت لـ” أحمد الصاوي”، فقد غابت بشكل كبير في شكلها التقليدي؛ حيث لم يكن لدينا موسيقى تساهم في تعزيز المَشاهد، ولكن قد يمكننا القول إنها ظهرت من خلال استخدام الأغاني المصرية، خاصة أغاني الصعيد، وذلك يعكس صورة التراث المصري.
شارك فيلم ” رفعت عيني للسما ” في فعاليات مهرجان الجونة السينمائي؛ كما حصل على جائزة (العين الذهبية) لأفضل فيلم تسجيلي بمهرجان كان السينمائي الدولي بدورته 77، وهو أول فيلم مصري يفوز بالجائزة، منذ تأسيس المهرجان، وقد ترشَّح للجائزة 22 فيلماً تسجيلياً، عرضت في كل أقسام وبرامج مهرجان كان، ولم يفز بتلك الجائزة فيلم غيره؛ حيث ضمن الفيلم مشاركته في أكثر من 20 مهرجاناً حول العالم، وحظي بإشادات عديدة، وتكريمات مختلفة، ويستعرض الفيلم حياة واقعية تم تصويرها على مدار أكثر من 4 سنوات؛ لفتيات من الصعيد، وهذا لم يكن العمل الأول لهن؛ حيث سبق لهن عملاً آخر مع المخرجين، وهو فيلم روائي بعنوان “فخ” ضمن فاعليات مهرجان كان عام 2019.
في النهاية، يظل فيلم “رفعت عيني للسما” ليس مجرد عمل فني، بل هو تجربة إنسانية عميقة، يجمع بين الواقعية والجمال البصري، مما يجعله تجربة لا تُنسى، وسيظل محفوراً في ذاكرة كل من شاهده، وسيظل أيضاً شاهداً على قوة الإرادة البشرية، وقدرة الفن على تغيير المجتمعات، فمن خلال قصته البسيطة والمعبرة، يلهمنا الفيلم لنثق بقدراتنا، ونناضل من أجل أحلامنا، مهما كانت الظروف صعبة، إنه دعوة لكل فرد منا للمساهمة في بناء مجتمع أكثر عدالة ومساواة.
★ طالبة بقسم الدراما والنقد المسرحي ـ جامعة١ عين شمس ـ مصر.