ميرولا رضا:” الناس اللي في التالت” ..ماهي الأسرار التي تختفي وراء جدران شقتهم؟!
ميرولا رضا ★
في قلب عمارة قديمة، في شقة عادية بالدور الثالث، خلف جدرانها تتصارع الأقدار وتكشف حكايات مؤلمة، حيث تتداخل طبقات المجتمع، وتكمن حكايات وأسرار لا تُحصى، حكايات تعكس صراعاتنا اليومية وتطلعاتنا المستقبلية.
تعتبر مسرحية “الناس اللي في التالت” واحدة من أبرز الأعمال المسرحية التي حظيت بشعبية واسعة، حيث تعكس التحديات الاجتماعية، والنفسية التي يواجهها الأفراد في المجتمع المعاصر، كتبها الراحل أسامة أنور عكاشة1992، كما تم تقديمها في عرض مسرحي قدمه البيت الفني للمسرح عام 2001 للمخرج محمد عمر والمخرج التليفزيوني محمد الشريف، بأداء القديرة سيدة المسرح العربي سميحة أيوب، والفنان الراحل فاروق الفيشاوي، وقد عُرضت ضمن فاعليات مهرجان نقابة المهن التمثيلية علي مسرح النهار وهي تحمل نفس العنوان للمخرج علاء الوكيل، دراماتورج أسامة بدر، مخرج منفذ ناظم نور الدين.
بين جدران القمع
تدور أحداث المسرحية في شكل درامي كوميدي حول مجموعة من الأشخاص العادية يعيشون معاً داخل شقة واحدة تقع في الطابق الثالث وهم: الأم و أولادها الأربعة وزوجة الابن ومعهم الخادمة وجارهم مستأجر غرفة من غرف المنزل، حيث تتغير حياتهم بشكل جذري عندما يتلقون خبراً بمرور موكب رسمي هام من أمام عمارتهم ثم وجود (إرهابي) مما يؤدي إلي تدخل أجهزة الأمن و تفتيش الشقة بالكامل بشكل مفاجئ.
نظرة عميقة في أعماق المجتمع المصري
تناولت المسرحية ملخصاً لحالة مصر الثورية من حيث العلاقات الإنسانية، والمشاكل الاجتماعية، والنفسية التي تواجهها الشخصيات، كما كشفت عن طبقات المجتمع المصري المختلفة، وتناقضاتها، والتي تميزت بواقعيتها الصارخة، التي تعكس الحياة اليومية للمصريين، حيث تتقاطع قصص شخصيات متبانية، ومتنوعة، وكل شخصية تحمل همومها، وأحلامها الخاصة، لذلك فهي تسلط الضوء علي القضايا الاجتماعية، والسياسية، وكيفية تأثير الظروف المحيطة علي حياة الأفراد، وتفاعلاتهم من حيث، الفقر، والفساد، والتدخل الأمني وانتهاك الخصوصية، والحب، والطموح، والأمل في المستقبل، والحياة اليومية للمواطن المصري، حيث يصور واقعية تلك الحياة مع التركيز على التحديات، والصعوبات التي يواجهها الفرد في وسط صراعه مع السلطة لكي يحاول أن يحافظ على كرامته وحريته.
رؤية إخراجية تكشف الأسرار
هذه المسرحية مأخوذة عن النص الأصلي، بجميع شخصياتها، وحوارها، لكي تحافظ على الفكرة الرئيسية، ولكن برؤية إخراجية مميزة، فيها بعض الاختلافات، لكي تتكيف مع متطلباتها، وتجعلها أكثر جاذبية للجمهور المعاصر، حيث قدمت صورة بانورامية للحياة المصرية المُعاشة، وذلك من خلال لغة الحوار، حيث كانت تعتمد علي لغة حوارية بسيطة سهلة الفهم، مما يسهل على الجمهور متابعة الأحداث، وتقديم تنوع الشخصيات، وذلك يعكس تنوع المجتمع المصري، تصويره للتدخل الأمني على أنه تقوم باختراق الحياة الخاصة للمواطنين دون مبرر.
أداء تمثيلي يتمتع بالروح المصرية
الممثلون جميعاً كان لهم دور كبير في نجاح العرض، وهم:(وفية، رباب، هاني، وداد، مهيب، سعيد، منال، وحيد، أمين الشرطة، الضابط)، فقد تمكنوا من تجسيد شخصياتهم بواقعية مبهرة، ونجحوا في التعبير بمشاعرهم، وأحاسيسهم في الوصول إلى الجمهور بعمق، ولا يمكن أن ننسى دور الفنان (عبد المنعم رياض) في دوره الذي يتمتع بالجدية والكوميديا معاً في إضفاء البريق على هذا العمل الفني.
تفاعل السينوغرافيا بشكل وثيق مع السيناريو
تلعب السينوغرافيا دوراً حاسماً في نقل المشاهد إلى عالم القصة، فاستطاعت خلق فضاء درامي يعكس أجواء العصر الذي تدور فيه الأحداث، وتبرز الصراعات النفسية للشخصيات، وذلك من خلال تصميم الديكور، والإضاءة، والمكياج، والأزياء، و الموسيقى، حيث تمكنوا من نقلنا إلى شقة العائلة المصرية، مع كل تفاصيلها الدقيقة، حيث برعت مصممة الديكور(سماح نبيل) في إظهار الديكور البسيط والأثاث المتواضع، لكي يعكس الظروف المعيشية الصعبة للشخصيات، ومن خلال استخدام الألوان الداكنة والمواد الخام، تمكنت من نقل شعور بالضيق والاختناق الذي يعانيه أبطال المسرحية، كما برعت ايضاً في نقطة صغيرة، ولكن كبيرة ضمنياً، وهي الفروق بين غرف المنزل، وهي أن يوجد جزء في كل منهما تسمح بالرؤية للمشاهد لما بالداخل، وذلك يمكن أن يظهر وكأنه ثغرة، ولكن هذا كان ينعكس على فكرة انتهاك خصوصية و حُرمة الغير، كما ظهرت الإضاءة(لوليد درويش) خافتة، والظلال القاتمة تخلق جواً من القلق والتوتر، حيث كانت الإضاءة المتغيرة تساهم في خلق أجواء درامية مثيرة، ولكن كان التحكم بها غير دقيق، كما جاءت الأزياء(لناهد فريد)، وكوافير وماكير(محمد شاكر) معبرة عن الواقع، من حيث الأزياء التقليدية والبسيطة التي تعكس هوية الشخصية الاجتماعية المصرية، وتساعد في بناء شخصياتهم، ثم جاءت الموسيقى(لمحمد عبد الوهاب) تلعب دوراً محورياً في خلق أجواء الواقعية، والتعبير عن المشاعر، والصراعات الداخلية، وتحديد الزمان والمكان، حيث تعكس الموسيقى الشعبية المصرية في فترة زمنية معينة.
لقد نجح الكاتب والمخرج في رسم لوحة حية للمجتمع المصري في تلك الحقبة، وكشفا عن جوانب مظلمة في النفس البشرية تحت ضغط الظروف القاسية، لذلك تظل مسرحية “الناس اللي في التالت” شاهداً على قوة المسرح في تناول القضايا الاجتماعية المعقدة بلغة فنية رفيعة، للتأكيد على أهمية الحفاظ على القيم الإنسانية في مواجهة الظلم والاضطهاد.
★طالبة بقسم الدراما والنقد المسرحي ـ جامعة عين شمس ـ مصر.