د.سعداء الدعاس: للشارخ صوت لا يموت!
د. سعداء الدعاس ★
منذ الوهلة الأولى التي ولجتُ فيها بوابة جميعة الخريجين، ذلك المساء، أدركتُ أنني أمام عائلة تذوب عشقاً في ربان سفينتها، وتعي أنه جوهر ذاكرتها، ومصدرٌ رئيسٌ لاستمرار مسيرتها، فكان المعرض الذي يستقبلك أمام مدخل قاعة الندوات، محتفياً بشغفه، ومتوقفاً عند أبرز محطاته، ومحتضناً منجزاته الإلكترونية، والأدبية على حد سواء.
ولأن الأرواح الطيبة لا تترك إلا الأثر الطيب، كانت الندوة مكتظة بأحبة الراحل محمد عبدالرحمن الشارخ، ومحبيه، بالإضافة إلى العديد من أفراد عائلته الذين أضفوا حساً حميمياً للندوة، فأسعدني شخصياً وجودهم ، بعد الجحود الذي شهدته بنفسي في العديد من الندوات التي احتفت بكبار الأدباء والفنانين في ظل جهل وتجاهل عائلاتهم؛ بل وغيابهم عن ليلة الاحتفاء بذكراهم، فكم تألمت في تلك المناسبات، وأنا أسمع اسم المحتفى به يصدح في القاعات الكبرى، دون حضور فرد واحد من أبنائه، أو أفراد عائلته!
اِستمتعت كثيراً بالمعلومات التي أتعرف عليها للمرة الأولى عن الشارخ، خاصة خصاله الإيثارية الرائعة التي ذكرها الشاعر المصري إبراهيم داود، حين كان الراحل ومن شدة حماسه لبعض الأسماء الروائية العربية، يقوم بشراء كتبهم لإهدائها للأصدقاء؛ رغبة في ترويجها، وكم فرحت حين جاء على ذكر روايتي المفضلة “المسرات والأوجاع” للروائي العراقي الصديق الراحل فؤاد التكرلي، هذا بالإضافة للتفاصيل التي أفضى بها رياض أحمد الشارخ عن انجازات الراحل على المستوى العملي، والتي كان لا بد من سردها للحضور.
لكن بعيداً عن جميع الكلمات المُقدرة، يبقى للكلمة التي ألقاها ابن الراحل الأثر الأكبر في تلك الأمسية.
كان فهد محمد الشارخ، واعياً ذكياً في التقاطاته، أخرج الحضور من سكون المشهد الذي كاد أن يجرف الندوة لشاطئ راكد لا حراك فيه، بسبب الإيقاع البطيء لبعض الأوراق المقدمة، فما إن استوعب فهد ذلك حتى التقط زمام الأمور، مبدلاً المسار الذي بدأ يطوق الحضور، ساعده في ذلك قدرته الجيدة على الارتجال، واستخدامه لمفردات سلسلة تخاطب القلب قبل العقل، معرجاً بذكاء على حكايات غير مستهلكة عن حياة الشارخ وطباعه الشخصية، استقاها من ذاكرته الشخصية، وذكرياته معه، متوقفاً عند الحادثة الأكثر تشويقاً، والخاصة بصراع الشارخ مع بيل غيتس في المحاكم الأمريكية!
اِنتهت أوراق المنصة الرئيسة، ولم يتبق إلا مشاركة الجمهور الذي جاء من كل حدب وصوب؛ ليبوح بمحبته لهذا الرجل العظيم، ويحكي جزءاً من تجربته معه، أو تأثره به، وكم كنت أتوق للاستماع لتلك التفاصيل، خاصة من الأجيال الجديدة التي التقته، أو تأثرت به؛ لكن الأمر لم يتم كما ينبغي مع الأسف، حيث فوجئت بعدم تفعيل تلك المشاركات، في ندوة صُنعت من أجل أن يعبِّر الآخر عن مشاعره تجاه رجل بحجم الشارخ!
حين وردت جملة “الاستماع للمتحدثين” رأيت بعض الأيادي ترتفع، لكن الكلمة لم تكن تعنيهم، بل كانت تعني شخصيات بعينها، عبر كلمات معدة سلفاً بالاتفاق مع أصحابها، وبالفعل خرج إلى المنصة عدد محدود من الشخصيات، بعضهم أمتعنا مثل السيد عبدالعزيز الشارخ، وبعضهم كرر ما جاء في أوراق زملائه، متجاوزاً الوقت المتاح له، بل أن هناك من قدم ورقة تضاهي في زمنها وقت المنصة الرئيسة.
ومن يتقن قراءة لغة الجسد، يدرك مباشرة امتعاض فهد الشارخ، من عدم إتاحة الفرصة للحضور للمشاركة في هذا الحدث؛ حيث التقطتُ في لحظة خاطفة علامات التعجب وهو يتساءل عن سبب عدم إتاحة الفرصة لبعض الشخصيات التي ترغب بالتعبير عن مشاعرها تجاه الشارخ الأب، الأمر الذي كان سيضفي على الندوة الكثير من الألق والتفاعل.
اِنتهت الندوة بعد أن قدم الجمهور تحية لـ (أم فهد) السيدة موضي الصقير، زوجة الراحل؛ التي حضرت بكل جوارحها رفقة أحبتها، محاطة بأبناء، وأهل نأمل أن يمثلوا لها التعويض الإلهي الجميل، لينتقل الجمهور للمعرض الذي لم يترك تفصيلة في حياة الراحل، إلا وعرضها على هيئة صور، أو مجسمات، وأجهزة.
فشكراً لجمعية الخريجين؛ التي أولت أهمية كبيرة للمكانة التي يحظى بها الراحل في المشهد الثقافي الكويتي والعربي ممثلة برئيسها إبراهيم المليفي التي خصصت تلك الأمسية للاحتفاء به، وشكراً لعلاء الجابر، الذي كان حريصاً على حضورنا للندوة، للذكرى الجميلة التي يحملها للراحل، والتي حدثني عنها سابقاً، ولمستُ أثرها في نفسه حين رحل الشارخ، في مارس الماضي؛ لإيمانه الكامل بأن الشارخ، شخصية ملهمة بجميع المقاييس، وخسارتها لا تعوض، رحم الله المبدع محمد الشارخ؛ الذي رحل عن دنيانا تاركاً صوته يعيش بيننا بمنجزه، وأبنائه.
★ مديرة التحرير.