مسرح

آية الكحلاوي: ” شجرة اللبان (موشكا)” .. أحبك رغم أنف قبيلتي، ومدينتي، وسلاسل العادات.

آية الكحلاوي ★

جذبت أنوار مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته الحادية والثلاثين، العرض العُمَاني (شجرة اللُبان) “موشكا” فعَطَّرَ العرضُ جَوَّ المهرجان بعطر اللبان، وزاد نوره بالقمر المصاحب لـ “موشكا” الجنية، التي أبكاها الحب.

يُكتب عرض “موشكا” بقلم حبر على سبورة ندوات المهرجان قائلاً: (هذا هو التراث والثقافة، فلا حاجة لنا لما سميتموه “تعويم الهويات” ، مشينا له، ثم نظرنا له، واخترنا منه، ثم اختبرنا جماليته، واحتضناه وجربناه، فلاق عليه لباس التجريب).

قدَّم العرض فرقة مزون المسرحية الأهلية، وهو عرض أولاً وأخيراً يسلط الضوء على تاريخ وثقافة عُمَان المحلية، أعدَّه نعيم نور، عن رواية “موشكا” للكاتب العماني محمد الشحري.

الإنسان في حاجة دائماً إلى الحب، في حاجة أن يتغنى بهذا الحب وأن يشعر به، وخصوصاً هذا الإنسان؛ الذي يولد في بيئة كابتة للمشاعر، ومن هذه الحاجة ولدت أسطورة شجرة اللُبان، وكما يقول نزار قباني ” الحب في الأرض بعضٌ من تخيُّلنا إن لم نجده عليها؛ لاخترعناه “.

قدَّم العرض المسرحي “موشكا” أسطورة شجرة اللُبان؛ والتي تنتمي للتراث الشعبي العُمَاني، وتحكي لنا عن جذور شجرة اللُبان، وكيف نشأت، فتقول الأسطورة: إن شجرة اللُبان ما هي إلا الجنية “موشكا” من عالم الجن؛ عشقت إنسياً نزل هو وأهله بوادٍ تسكنه قبيلة “موشكا”، ولأن هذا الحب يتحدى القبيلة، ويحطم سلاسل العادات، فقد عاقبوا “موشكا” بأن حولوها لشجرة اللُبان؛ التي حُكِم عليها بالتجريح طوال الدهر.

في الحقيقة لا ضَيْر أن يُقَدَّم التراث من أجل ذاته، فمن حق المبدع والمتلقي أن يحتفي بتراثه، ويبجله، ويعده، ويمسرحه على الخشبة، من أجل أن يشاهد الناس هذا الزخم والغناء الإنساني، وهذا ما أرادته سلطنة عُمَان، ونجحت فيه بأقل الإمكانيات، أن جعلت الجميع يتعرف على ثقافتهم المميزة؛ ضاربة الجذور.

ومن حق الناقد أن يقرأ العمل كما يريد، ومن هنا قد تكون “موشكا” ماهي إلا كل فتاة تنتمي للقبائل العربية؛ التي عهدت أن لا تزوج بناتها خارج القبيلة، وهذا ما يحدث إلى الآن، وما “موشكا” إلا رمزٌ لهن.

بداية؛ اِمتلأ مسرح السلام؛ الذي احتضن العرض برائحة بخور اللُبان، ليدخل المتلقي في الجو الأسطوري للعرض، والذي قد نصنفه على أنه ينتمي للواقعية السحرية؛ التي أسرت العديد من أدباء عُمَان، ربما لأنها جزء من الواقع المحلي هناك.

ثم ارتفع الستار عن بداية تحفيزية قبل بدء العرض، لتحفيز المشاهد، وترويض خياله؛ ليكون في حالة جاهزية تامة لما سيعرض عليه من حالة سحرية، فشاهدنا بداية طقساً تعبدياً، وتضرع للعرافة أسفل شجرة اللُبان، ومعها الشامان (هو كاهن في الثقافات الوثنية القديمة)؛ الذي يمسك الطبلة، وفي مستوى منخفض عنهم تركع “موشكا” والتي يبدو أن حالة العرافة المتوترة هي بسبب أنها اطّلعت على طالع “موشكا” السيء؛ والتي سرعان ما تقول لها في حزن وخوف وتحذير: إنه عندما يغيب القمر يغيب معه كل شيء.

اِستطاع نعيم نور، تقديم الأسطورة في حبكة مسرحية مميزة ، فوهّج الصراع فيها، بأن اختلق شخصية ملك الجان؛ الذي هو زعيم قبيلة “موشكا” ، وجعله ينبض بالحب تجاه “موشكا” التي تركته، وأحبت شخصاً من الإنس؛ ما أشعل الصراع في المسرحية، وأتت الحبكة في مشاهد سينمائية؛ بينها فواصل إظلامية بمثابة القطع.

تنتشر شجرة اللُبان في الأماكن الصحراوية المنعزلة، وهذا ما ظهر في الديكور المميز، والدَّالّ؛ الذي وضعه غسان الرواحي، فالديكورعبارة عن شجرة تحتل المركز، وليزيد المخرج من سطوتها؛ التي هي مستمدة من سطوة هذه الشجرة، والأسطورة في الخيال الشعبي، وضعها على مستوى مرتفع هو أعلى نقطة على الخشبة، ثم يتدرج من أسفلها مدرج يتخذه أهل العالم الماورائي (الجن) مسكناً، هذا التدرج أعطى التشكيل الجسدي للجوقة الممثلة للجن؛ الظهور المميز والطاغي.

كل شيء ولد من رحم التراث في العرض، فالملابس والإكسسوار؛ الذي تكلف بهما مهند السعدي، اِستمدهما من البيئة الصحراوية؛ التي هي موطن شجر اللُبان في عُمَان، فالإنسي غدير، يرتدي اللباس المميز لرجل الصحراء، ويتقلد سيفه؛ الذي هو من صميم الثقافة العُمَانية، حتى أنه من طقوس الزواج التقليدي في عُمَان أنه لابد للعريس أن يرتدي سيفاً وخنجراً.

“يوسف البلوشي” رجل هذا العرض، وبطله، ويأتي من ورائه الآخرون، تولى يوسف البلوشي، مهمة الإخراج بجانب وضعه سينوغرافيا العرض الرائعة؛ والتي كانت بطلاً من أبطال العرض، فاعتمد البلوشي، في الإضاءة بداية على اللونين الأزرق والأحمر، الأزرق معبراً عن الغموض والخيال والسحر، والأحمر هو المعادل والمرافق للعالم السفلي (الجن)، ثم أدخل البلوشي، الإضاءة الصفراء؛ لتساعد على الإنارة من ناحية، وتعمل كدوائر ضوء تركز الانتباه على مكان الحدث المسرحي، لا تقف مهمة الإضاءة عند دلالة ألوانها وحسب في العرض؛ بل ساعدت الإضاءة المستخدمة على تألق المكياج؛ الذي وضعه كلٌ من عزيزة البلوشي، وإبراهيم الجساسي، فقد جسمت الإضاءة المكياج وخصوصاً مع ملك الجان؛ الذي حولت الإضاءة مكياجه، والصدرية التي يلبسها إلى جزء من جسمه، فبدا وكأنه لا يرتدي شيئاً، وكأن هذه طبيعة جسده.

وكذلك استُخدمت الإضاءة في تجسيد الأشياء، ولعل أميزها عندما تم تجسيد القمر من خلال إسقاط الإضاءة على طبلة الشامان، فظهر لنا القمر مكتملاً، وعندما استحوذ ملك الجن على “موشكا” بعد هروبها مع غدير، جسدت الإضاءة الأحبال الطويلة؛ التي تشكلت في خيوط الضوء؛ التي يرسلها القمر عند اكتماله في أعلى المستوى، وقيد بها “موشكا” الساقطة في الأسفل.

وضع الموسيقى والمؤثرات الصوتية الفنان يوسف الحارثي، الذي وظّف المؤثرات الصوتية توظيفاً أكثر من رائع بشكل لا نراه كثيراً في العروض المسرحية، وكل مؤثراته الصوتية هي عناصر ممتدة من عمق الصحراء، ومن عمق مخاطرها، فكنا نسمع صوت البومة يشق صمت الليل، ونسمع عواء الذئب، وأصوات البرق، بشكل واقعي، وكأننا كنا نتحلق حول شجرة اللُبان في ظفار، وكلها أصوات تمثل حالة الخوف والترقب والخطر، وخصوصاً صوت البومة؛ الذي يعمل كنذير شؤم.

أياً كان هو من وظف الأغاني والموسيقى التراثية في العرض، يوسف البلوشي، أو يوسف الحارثي ، فقد وظّفها بشكل جيد جداً، فكان لها دلالاتها المميزة، ولم تكن مقحمة على العرض، فكانت تشتغل هذه الأغاني والموسيقى في حالة تواجد “موشكا” مع غدير، فكانت تعبر عن حالاتهم المختلفة.    

واعتمد العرض بشكل أساسي على طاقة الجسد للممثلين، وخصوصاً “موشكا”؛ التي قدمت دورها الفنانة نادية عبيد، والتي حققت مبدأ التعارض من خلال انبثاق الطاقة الناعمة منها كأنثى تحاول مغازلة غدير، وانبثاق الطاقة الخشنة، أو القوية منها عندما تتحول إلى “موشكا” الجنية التي تتحدى ملك الجن.

هكذا فقد سيطر التناغم الشديد بين العناصر الصوتية، والصورة المرئية مع الأداء الحركي للممثلين، سواء الأداء الجماعي للجوقة؛ الذي أتى متناسقاً ومترابطاً، وخصوصاً في حالات الانتقال من السبات إلى الحركة ، أو الأداء الفردي للممثلين وخصوصاً الأداء الحركي لملك الجان، وكذلك مساعده، اللذين ظهرا، وكأنهما انبثقا من فيلم رسوم متحركة.

وتحقيقاً لأكبر استفادة من التراث المحلي في العرض، اِستخدم المخرج اللغة المحلية المستخدمة في جنوب سلطنة عُمَان (اللغة الشحرية) والتي تتسم بالسحرية على أنها لغة الجن؛ التي تتكلمها الجوقة (قبيلة الجن) وأحياناً كان يتحدثها ملك الجن، نظراً لما تحمله من اختلاف عن اللغة العربية الفصحى؛ التي يتحدثها الممثلون، والتي كانت لغة العرض الأساسية.

الحب لا يقتل العشاق؛ هو فقط يجعلهم معلقين بين الموت والحياة، تلك الحالة التي انتهت إليها “موشكا”، حينما دفعتها قبيلتها إلى التحول لشجرة اللُبان بعدما علموا بعلاقتها مع الإنسي غدير؛ بل وحملها منه، وتم التعبير عن هذا التحول في العرض عن طريق الفن التشكيلي، حيث تتجمع الجوقة حول “موشكا” ، ويشكلون أفرعها، وأغصانها مع إسقاط إضاءة خضراء على التشكيل العلاماتي للشجرة؛ التي تحولت إليها “موشكا”، ومصاحبة العزف الحي على آلة القربة بواسطة شروق المعولي، والتي دلت على معاني الصعود والتضحية.

 اِنتهى عرض شجرة اللُبان، ولكن لم تنتهِ الحالة التي خلفها، ذلك لأن العرض المتميز يبقى أثره، ويترك صداه، وتتحسس الأعمال خطاه، فكل عام، ونحن لدينا عرض من عُمَان، أو غيرها يتلبس روح “موشكا”؛ ليبقى المسرح العربي بخير.


★ ناقدة ـ مصر.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى