مسرح

حيدر الجيعفري: التحولات الدلالية للعناصر التاريخية في مسرحية “وإن” قراءة تفكيكية.

حيدر الجيعفري ★

ابتداءً من عنوان المسرحية “وإن” هناك العديد من الآيات القرآنية التي تتضمن هذه الكلمة، ومن أبرزها(سورة النساء الأية141: الذِينَ يَتَربصُونَ بِكم فإن كَانَ لَكُم فَتح من اللهِ قَالوا ألم نَكُن معكم وإن كَانَ للكَفِرينَ نَصِيب) وفي(سورة العنكبوت, الآية 69: وَالذِينَ جَهَدُوا فِينا لَنَهدِيَنهُم سُبُلَنَا وَإن اللهَ لَمَعَ المُحُسِنِين) والكلمة في معناها الفلسفي، تشير عادة إلى علاقة شرطية أو افتراضية بين أمرين أو أكثر، هذه العلاقة يمكن أن تفهم على أنها تعبير عن الاحتمال أو الشك، وفي بعض الأحيان تعكس “وإن” في التفكير الفلسفي تأملاً في الاحتمالات المتعددة أو التأمل في الشروط التي قد تؤدي إلى تحقيق فكرة معينة أو مفهوم معين، لذا جاء مفهوم العنوان عند(محمد فكري الجزار) في كتابه (سيموطيقا الاتصال الأدبي) على إنه (أن كل عنوان هو مرسلة صادرة من مرسل إلى مرسل إليه وهذه المرسلة على أخرى هي العمل، فكل من العنوان وعملهُ مرسلة مكتملة ومستقلة، أما الوظيفة الحالية فتمثل التفاعل السيميوطيقي ليس بين المرسلتين فحسب وانما بين كل من المرسل والمرسل إليه، بمعنى أن العنوان من جهة المرسل هو ناتج علاماتي بين المرسل والعمل، أما المستقبل فانه يدخل إلى العمل من بوابة العنوان متأولاً له وموظفاً خلفيته المعرفية في استنطاق دواله الفقيرة عدداً وقواعد تركيب وسياقاً وكثيراً ما كانت دلالية العمل هي ناتج تأويل عنوانه، أو يمكن اعتبارها كذلك دون اطلاق) بالتالي فإن أو خطوة لمشاهدة العرض المسرحي، تتجه المسامع أولاً إلى النعاة من الرواديد والخطباء الذين ينعون بالبكاء والنحيب وعبارات الشجن، لتحيل بنا المشاعر والذاكرة الجمعية إلى ما جرى من مصائب وويلات في واقعة الطف، لتأسس لنا أفق توقع لما سوف يُعرض على خشبة المسرح، استناداً إلى تلك الأصوات وصور الرواديد وصور الإمام الحسين(ع) على يمين المسرح بالنسبة للمتلقي، وعلى حين غرة يتحول أفق هذا التوقع إلى الشتات بتأثير الأهازيج وقرع الطبول والأغاني والموسيقى السريعة مصاحبة لتعدد وتنوع الأضواء الساقطة على مجموعة من المؤدين لرقصات الكوريوغراف أمام كرسي متعدد السلالم، أو أشبه ما يكون بمنبر أو عرش خالٍ من البهرجة والزخرفة، وتشكيل كتل جسدية متنوعة متناغمة مع كل ايقاع لتعطي دلالتها الشاعرية لتعبر عن المشاعر المعقدة وأفكار مجردة، من أجل أن يدفع الجمهور للتركيز بشكل أكبر على تفاصيل الحركة لخلق فرصة تأمل وتفكير، حيث يعتمد الأداء بشكل كبير على القدرة على إيصال العواطف والمعاني ولكن الكوريوغرافيا يمكن أن تشير الى ما هو غير مرئي او غير ملموس، أما بالنسبة للممثلين فقد رأينا هناك تحولات أدائية صوتية ونفسية على خشبة المسرح، للتعبير عن التطورات الداخلية للشخصيات، حدثت تدريجياً وأحياناً بشكل فجائي، مثل التحول من السعادة إلى الحزن أو من البراءة إلى الخبث أو من الشك إلى اليقين وبالعكس, وهذه التحولات تساعد الجمهور في فهم تطور الحبكة ومتابعة النمو الشخصي للشخصيات والصراع، والرغبات، المتناقضة، وما يجب عليها فعله، فتحدث تغييرات في نبرة الصوت والإيقاع الحركي، الإضاءة، وتعبيرات الوجه، وقد تكون هذه مقصودة من قبل المخرج (عباس القصاب) لخلق إحساس بالترقب أو عدم اليقين لدى الجمهور، مما يزيد من تفاعلهم مع العرض، وقد أبرز لنا المخرج ثلاثة ازمان في القصة، من خلال تحرك الساعة المقلوبة، ومن تغيير الأداء الحركي وارتداء الزي، ولبس العمامة، وتوظيف الديكور لأكثر من حدث زمكاني، وفقاً لتغير أداء الممثل بطريقة مختلفة متماشياً مع البيئة الجديدة والظروف المتغيرة، بالإضافة إلى قدرة المخرج (القصاب) بأن يضيف تأثير جمالي وفني من خلال التلاعب بالأداء والصوت، من خلال استخدام الممثلين الميكرفون ليكونوا فيما بينهم فرقة مسرحية مزيجة ما بين الغرب والشرق، أشبه ما تكون بفرقة (الروك) من أجل جذب انتباه الجمهور إلى لحظات معينة في المسرحية أو لإبراز جمالية العرض والحركة، وقد تكون من أجل تغيير إيقاع المشهد بما يتناسب مع التوتر الدرامي، مما يجعل العرض أكثر ديناميكية وتفاعلية، وعليه فإن المخرج (عباس القصاب) أخذ كل هذه التحولات الأدائية والصوتية والنفسية من (قسطنطين ستانيسلافسكي) والذي أشتغل بدورهِ بشكل مكثف على هذه التحولات عند الممثلين، من أجل خلق أداء صادق وحقيقي، أضف الى ذلك هو استخدام الممثلين في العرض المسرحي مصابيح إضاءة يدوية موجهة الى الجمهور بشكل مباشر بدلالة البحث عن شيء، وهذا ما يفهم بأن للمخرج رؤيه إخراجية، الغاية منها هو تحقيق أهداف عدة منها: إشراك الجمهور وكسر الجدار الرابع بين الممثلين والجمهور، مما يجعل من المشاهدين يشعرون بأنهم جزء من الحدث، فقد يفهم أيضاً بأن الجمهور ملاحظون أو متورطون في البحث الذي يجري في المسرح، بالاضافة الى ايجاد حالة من الغموض أو الترقب، بالتالي وظف المخرج القصاب الدلالة الرمزية بالضوء، للبحث عن الحقيقة وكشف الأسرار، ودعوة الى التفكير والبحث عن معاني أعمق فيما يعرض عليهم، كما أعطى لنا المخرج (عباس القصاب) رؤية إخراجية أخرى حينما عمل على الدمج والمزج بين التاريخ والحاضر، وفقاً لما أشغل عليه المخرج البريطاني (بيتر بروك) الذي قدم عروض مسرحية تجمع ما بين الكلاسيكية والتفسيرات الحديثة، مما يسمح للجمهور بمشاهدة الأعمال القديمة من منظور جديد ومعاصر، فقد استخدم (بروك) تقنيات وأفكار مبتكرة لخلق تجربة مسرحية تربط ما بين الماضي والحاضر بشكل عميق ومؤثر، وإذا ما تحدثنا عن وضع الساعة بشكلها المقلوب تجرها الحبال يميناً وشمالاً، حسب الحدث والفعل الدرامي، معلقة على لوح من خشب، يمكن أن يكون لها عدة أسباب، منها الرمزية الثقافية والدينية، أعتقد أن عكس اتجاه الساعة يمكن أن يكون له دلالة مثل العودة إلى الماضي أو التحدي للزمن الطبيعي، أو كرمز للفوضى أو العدمية، أو لاكتشاف موضوعات مثل البحث بالماضي، أو عكس مصير الشخصيات، وتأثيرات الرؤية المعكوسة للوقت على السلوك، فهذا التغير غير مألوف مما يدفعهم للتفكير والتأمل في المفاهيم المعتادة للوقت، وأيضاً فقد عمل المخرج (القصاب) على توظيف الديكور لأكثر من وظيفة يتناسب مع طبيعة الحدث والتحولات الأدائية وهذا ما تم ملاحظته في وظيفة عرش الخليفة فهو رمز للسلطة والحكم، وعندما يتحرك إلى جهة معينة يتحول إلى بيت لمظلومية فاطمة الزهراء، وتارة يتحول إلى مكان لعيادة طبية، كما في وظيفة (المكتب) الذي كان مفروشاً بقطعة قماش أبيض وفوقه صور من الرواديد والخطباء وصور الحسين(ع) لتأتي تلك الصور مطابقة لما بدأت به المسرحية من كلمات نعي وشجن، بعدها يتم إنزال تلك الصور، ثم تتحول وظيفة المكتب فجأة وحسب رؤية المخرج إلى طاولة لشرب الكحول, والتجمع حول هذه الطاولة بحركات راقصة صاخبة احتفالاً بمنجز عظيم، وهذا كله جاء نتيجة عملية التحكم عند بعد بجهاز سيطرة يسيطر على كل التحولات الحركية والنفسية للخليفة، لذا فقد أستعان المخرج القصاب بعملية إعطاء الديكور المسرحي أكثر من وظيفة ودلالة بأفكار المخرج (غوردون كريغ) فقد كان رائداً في عملية تحول الديكور من مجرد خلفية ثابتة إلى عنصر حيوي ومؤثر في العرض، فقد كان يؤمن بأن الديكور يمكن أن يكون له دور درامي بحد ذاته وأنه يمكن أن يعبر عن الأفكار والمشاعر مثل الممثلين، لذا فقد دعا (غوردون كريغ) إلى استخدام الأشكال والإضاءة المتغيرة لخلق أجواء مسرحية تفتح أفاقاً جديدة للفهم والتفاعل مع العرض المسرحي, ومن ناحية أخرى فقد أجاد المخرج (القصاب) وأوضح الفرق ما بين البصر والبصيرة من خلال استخدام ممثليه العدسات المكبرة في عملية البحث عن قافلة الحسين(ع) ما بين الطرقات وما بين الجمهور، ليؤكد لنا أن مفهوم البصيرة في المسرح يشير الى القدرة على رؤية أو فهم أعمق للمعاني والدلالات الخفية وراء ما يعرض على خشبة المسرح، ورؤى جديدة تتجاوز السطح الظاهر للعرض، مؤكداً بذلك على أن البصيرة أهم من البصر لفهم الأحداث والاطلاع على الحقائق، بالتالي فقد وظف المخرج هذه العدسات وهذا الديكور وهذه الملابس وهذه الموسيقى وهذا الضوء والحركة، كرموز تجريدية من أجل الفهم الأعمق، وتجاوز الظاهر، كونها رموز بصرية، وأخرى نصية تجلت بالحوارات والإشارات التاريخية والمعاصرة، واستخدام أدوات وألات ومعدات، مثل: ارتداء ملابس باتمان يحمل مطفأة الحريق، عربة البناء، صوت الإنذار، والدليفري، والبيتزا، وصور السيلفي، وأزياء تاريخية ومعاصرة، لتكوين مناظرة تاريخية، لإثبات الأصح والحق والعدالة، ومحاولة إطفاء نار الصراع والفتننة ليأخذ الممثلين أدوار متعددة، حسب الحدث الدرامي، مخاطباً بذلك مزاجية المجتمع وسلوكيات ودوافع ومعتقدات الأفراد حسب المصلحة والظروف، لذا سعى المخرج (عباس القصاب) إلى عملية تفكيك المركز، وإعادة إنتاج صور بصرية متعددة متنوعة المهام والوظائف، برؤية معاصرة مغايرة، ضمن قدرة الابتكار، من أجل وضع التواصلية بين أزمنه الثلاثة المختلفة وأمكنة متنوعة، بإيقاعات وتحولات حركية أدائية صوتية نفسية، في خطاب فلسفي حسيني مسرحي، تواكب عمليات التجديد والتحديث، التي سادت العروض المسرحية في مختلف البلدان، مغادراً بذلك الجانب التاريخي التقليدي، علماً أن (القصاب) قد حافظ على الوثيقة التاريخية للأحداث والوقائع، ولكنهُ قدمها ضمن معالجة درامية جديدة، للكشف عن تلك الابعاد النفسية والعقلية والدوافع والأطماع والغرائز للشخصيات ومنها شخصية الخليفة، والتي ظهرت لنا هزيلة ضعيفة الشخصية قلقة مهتزة من الداخل، غير راكزة الأداء وعدم الثباتية على موقف واحد وغير قادرة على إدارة الدولة، وهذا ما تنطبق علية نظرية (فرويد) في دراسة الدوافع البشرية، بالتالي فقد تناول المخرج (القصاب) في عرضه هذا أحداث تاريخية مرتبطة بآل البيت، ومنها ما حدث في بيت فاطمة الزهراء(ع)، وحرق الباب، منطلقاً بذلك من كلمة “وإن” التي اعتمد عليها القصاب ليبني المواقف والأحداث والحكايات بشكل تجريبي، ليظهر لنا بأن القضية هي قضية كونية مرتبطة في كل زمان ومكان، تحمل شعار الصمود والبقاء، فمن خلال التفكيك والبناء لكل العناصر البصرية، استطاع المخرج أن يرسم لنا منظراً تحليلياً لأحداث تتفكك وتنبني وتتنقل بانسيابية وسهولة ضمن وحدات زمانية متنوعة، ليكون المتلقي في هذه الحالة قادر على جمع تلك العناصر وتركيبها بنفسه، بالتالي فالعمل المسرحي خاضع للتجريب، الذي جعل الجمهور يفكر بشكل نقدي حول الأحداث التي يشاهدها على المسرح، بدلاً من الانغماس العاطفي، وأخيراً شكراً لتلك الجهود الشبابية الجبارة التي استطاعت أن تصنع الجمال، وتضع العلاقة مع قضية الإمام الحسين بصورة معاصرة مبهرة.


★ ناقد ـ العراق.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى