د. رانيا يحيى: سمية رمضان..نسمة رقراقة تسكن الروح.
د. رانيا يحيى ★
كثيراً ما تشغلنا الحياة، وتجعلنا غير مقدرين لقيمة وقدر بعض الشخوص التي تحيطنا دون أن نتأملهم، أو نستفيض من علمهم وخبرتهم؛ بل والأدهى أننا قد لا نتشبع بحنان ودفء مشاعرهم، أو حتى نستزيد من عطفهم وإنسانيتهم، وحين يرحل أحدهم نشعر بالحسرة والندامة!!!
أتذكر ما تفعله بنا الحياة حين بلغني خبر رحيل الكاتبة والمترجمة والناقدة الأدبية الأستاذة الدكتورة سمية يحيى رمضان، فانتابتني مشاعر مختلطة تجمع بين مسئوليتي وعلاقاتي بالسادة الزملاء من ناحية، وتقديري لقيمة فكرية وثقافية وأدبية من ناحية أخرى، أما المشاعر الإنسانية النبيلة التي تربطنى بصديقة وأم وأخت رافقتها بكل الحب في المعهد العالي للنقد الفني؛ فهى الأهم والأبقى والتي تقود أحاسيسي المفعمة بالأسى، ودموعي التى تنهمر دون أن أستطيع التغلب عليها لوداع أستاذة ومعلمة قديرة، صاحبة منهج مغاير للأساليب التقليدية في التدريس، فكانت داعمة للإبداع والخروج عن المألوف، تدعو لحرية الفكر، وتقدر المواهب الشابة، وتحتفي بتميز الدارسين ونبوغهم، تتحمس لهم وتدعمهم بكل رقة ولطف؛ فكانت الدكتورة سمية نموذجاً للإنسان الراقي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فلم أصادفها يوماً جرحت إنساناً بغض النظر عن وظيفته أو مكانته أو سنه، كانت شديدة الحلم والرفق في جميع تعاملاتها، وأشهد الله أنني وجدت منها كل عطاء وكرم ونبل، في الباطن قبل الظاهر.
ظلت سمية رمضان، منذ أن عرفتها نسمة رقيقة حالمة بعالم أكثر رفقاً بالإنسان، عالمٍ يسوده الحب والوئام، خطواتها الرشيقة تتمايل بكل هدوء ولين، تُرَبِّتُ على كتف الجميع بقلب نابض بالحنو، وتستأنس بدفء كلماتها لكل عامل، تتجاوز عن الهفوات والصغائر، وتتعالى بقدر طباعها ودماثة خلقها، صوتها الرقيق العذب يداعب الجميع بأرق وأصدق الكلمات النابعة من قلب امرأة؛ تختزن حناناً تشعه كالشمس المشرقة بنورها على وجه البسيطة.
حقاً هي كالنسمة التي تتهادى في جو شديد الحرارة، فتهب برقتها برداً وسلاماً.
في حقيقة الأمر هي نسمة، نسمة في تعاملاتها، نسمة في رقيها، نسمة حتى في خلافها أو اختلافها، محبتها لعملها وإخلاصها لآخر وقت يؤكد مصداقيتها تجاه ما تفعل، فهي تؤمن بالشيء، تقترب منه وتتجاوب معه، تدرسه داخلها بعناية، ثم تتحاور وتتحدث في تفصيلاته، حتى مداخلاتها العلمية، أو آراؤها الشخصية، كانت تطرحها بكل لباقة وشياكة، دون جرح لمن يخالفها الرأي، ودون تشبث بفكرة أو وجهة نظر.
تشعر حين تتعامل معها أن تلك الحياة المؤلمة العابثة لا زالت بخير، وأن هناك أناس يترفعون ضد الصغائر، يرتقون برقي مكانة الإنسان.
من سوء حظي أنني لم أقترب منها بالقدر الكافي على مدار عقد كامل، لكن ربما الأربع سنوات الأخيرة، شهدت العديد من اللقاءات الإنسانية والثقافية والعلمية، بحكم عملنا فى المعهد العالى للنقد الفني بالقاهرة، وأيضاً بفرع الإسكندرية، حيث المقابلات الأكثر حميمية، والأعمق مودة، وخاصة أثناء العمل بالكنترول، حينما تفتح قلبها لتتحدث عن بعض الأمور حتى التي تغضبها أو بعض ذكريات موجعة، فكانت شديدة الرقي في طرحها وتحفظها على الأشياء أو الأشخاص، ضحكاتها الرقيقة لم تفارقها حتى في أصعب اللحظات أو أقساها، وخفة ظلها لم تتهاون فيها لتداعب من حولها بكلمات؛ لجبر خواطرهم، لتسعدهم.
ذات مرّة عدت معها فى سيارتها من الإسكندرية للقاهرة، ربما تلك واحدة من اللقاءات الأطول التي جمعتني بها بعد استمرار عملنا بالكنترول معاً لساعات، ثم أخذنا الحديث لأمور كثيرة وعديدة وحكاوى جعلتني أقترب من الإنسانة الوديعة والطفلة الرقيقة التي تسكن قلبها، مشاعرها اللينة الهينة تجاه الكائنات الحية، تجاه الأضعف، ما ذكرته لي حول تجربتها في مدينة أسوان التي تحمل لها أجمل المشاعر بشهامة وطيبة صعيد مصر، والتي وجدت ضالتها بين شخوصها، فعاشت وسطهم فترة من الزمن في هدوء نفسي، وصفاء روحي.
دوماً أتذكر سعادتها في كل زيارة لي للمعهد كانت تشجعني وتساندني بكلماتها العذبة النابعة من روحها، ودعواتُها المخلصة كانت مصدر قوة تدفعني نحو المزيد، دائماً نصائحها مخلصة، وفية لما تفعله وتقدمه، تركت فينا أطيب الأثر.
ولا يمكن أن أنسى حنينها تجاه المكان الذي عملت فيه لعقود، ولكل زملائها، ورسائل الوداع التي كانت تزفها إليهم من خلالي عبر الهاتف في مكالماتي للاطمئنان على صحتها، والتي تؤكد أننا أمام شخص استثنائي في محبته ورقته ورقيه، جميل عباراتها التي تبعثها للدارسين والباحثين والأصدقاء، مشبعة بكم هائل من صفاء النفس، والتسامح، والنقاء الروحي.
الرقيقة النسمة الوديعة الرقراقة.. يصعب عليَّ أن أرثيكِ حبيبتي، وأطوي صفحة من الذكريات الجميلة النبيلة الراقية، فقلما نجد في هذا العالم من يرتقي لنفسه، ولأفكاره، ولضميره بعيداً عن أية خلافات أو مناوشات قد تحدث، لكن الكبير دوماً بتجاوزه الصغائر، يترك أثراً نتحدث عنه بعد الرحيل، فالجميع زائل، وهي الحقيقة المؤكدة في هذا الوجود، فلتبقَ السيرة، ويبقى الأثر.. حقاً لم أر منك إلا كل جميل، وها هي شمعتك التي أهديتها إليَّ أنيرها على روحك النبيلة الطاهرة، وأنا أدعو الله أن يتقبل كل عنائك، وآلامك في ميزان حسناتك، وأن يلهمنا، ويلهم كل من عرفك الصبر والسلوان.
سمية رمضان، الكاتبة المبدعة الملهمة رحلتِ؛ لكن ذكراك لا ولن ترحل للأبد؛ لقد سكنت الروح.
★ عميد المعهد العالي للنقد الفني ـ أكاديمية الفنون.