رأي

جواد عامر:هل استطاع الفكر العربي التخلص من التبعية الثقافية للآخر؟

جواد عامر ★

هل استطاع الفكر العربي أن يتخلص من التبعية الثقافية للآخر أم أنه فكر بنى معماره الإبستمولوجي في محضن الثقافة العربية محدثا القطيعة الإبستمولوجية بالمفهوم الذي تكلم عنه غاستون باشلار؟ ألم يطرح الفكر العربي نفايات الثقافات المؤثرة ومارس نزعة براغماتية في تلقف النتاج الإنساني؟

هل نجح الفكر العربي في تلقف ثقافة الدخيل دون أن يمس بالمقدس في البيئة العربية؟

أسئلة كبيرة يطرحها الفكر العربي من داخله في مساءلة حقيقية للممارسة الثقافية العربية في بعدها الفكري والفلسفي خلال العصر الذهبي الذي شهد حماسة منقطعة النظير عبرت عنه توالي الترجمات وكثافة المجالس العلمية والنفقات الكبيرة التي خصصتها السلطة الحاكمة للمعرفة العلمية.

لقد بنى الفكر العربي أسسه في محضن ثقافي صحي شكله الجدل الكلامي المحتدم بين الأشاعرة والمعتزلة وأصحاب الملل والنحل الأخرى الذين انصهروا في بوتقة الثقافة العربية زمن الانفتاح، كان فيه للثقافة الهندية والفارسية واليونانية أبلغ الأثر في تشكيل الفكر العربي وعلومه وآدابه ، خاصة ما صنعته ثقافة اليونان التي نعدها مهدا حقيقياً للفكر الفلسفي العربي فقد كان لترجمات كتب اليونان كالبويطيقا والإروتيكا والأخلاق النيقوماخية والأرغانون والجمهورية دور كبير في تشكيل وعي أنطولوجي جديد في الفلسفة الإسلامية وتوجيه دفتها نحو الإجابة عن الأسئلة الكبرى التي طرحها الفكر العربي خلال هذه المرحلة من التاريخ وهي مرحلة الترجمة تحديدا، مرحلة كان فيها السؤال الديني قوياً بعدما طرحت قضية إعجاز النص القرآني وتضاربت الآراء بين مناصري اللفظ ومناصري المعنى بدءاً بما ألمح إليه الجاحظ في البيان والتبيين وأبو عبيدة في كتابه مجاز القرآن وما فعله إمام البلاغة وحجة اللغة عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز من بعده ، وما راج في الساحة الثقافية يومها من كتب تدور في نفس الفلك كالنكت في إعجاز القرآن للرماني امتد بها الزمان إلى حدود القرنين السادس والسابع الهجريين بعدما ألف السكاكي مفتاح العلوم وجاء القزويني وكتب تلخيصه المعروف إلى عهد حازم القرطاجني في منهاج البلغاء وسراج الأدباء ، وعبر هذه المراحل التاريخية ظل الفكر العربي ينتج خطابه بمنطق ازدواجي تجد فيه الاستلهام الكلي للفلسفة اليونانية خاصة الأرسطية التي أثرت بشكل أكبر في الممارسة النقدية والبلاغية وتوجيه التفكير الفلسفي حيث كان لمفاهيم مثل المحاكاة والتطهير والمنطق وقواعده ومفهوم العلة والسببية والعقلانية والحسية والجوهر والعرض والمادة تأثير كبير في عمق الفعل الفلسفي الذي وجد صداما قويا في البيئة الإسلامية من حيث التقاط مفاهيم وأدوات تفكير الفلسفة اليونانية المصطبغة باللاهوتية والتي تخالف منطق الشريعة فظهر تيار معارض للفلسفة وآخر أخذ منها ما يوائم الثقافة الإسلامية وآخر غالى في الأخذ بكل شيء فظهرت تيارات مست بجوهر العقيدة كالغنوصية والأفلاطونية المحدثة والكلدانية والحرانية ، ممن ألَّهوا الكواكب والنجوم والأجرام واعتقدوا أن الكون شبيه بحلقات البصلة وما أشبه هذه الأمور المخالفة للاعتقاد الإسلامي السليم وهو ما حاول أرباب التيار الفلسفي المعتدل أن يردوه آخذين ما يصلح من فلسفات اليونان ويتواءم مع روح الثقافة الاسلامية رغم أن المشكلة التي واجهتها الفلسفة والفكر عموما كان متعلقا بجوهر الجهاز المفاهيمي الذي طوعته اللغة بدهاء واستطاعت أن تقحمه في بنية ونسق التعبير العربي فعبرت مثلا عن الهيولى واللوغوس والإيتوس بما يناسب مع المضمون الدلالي الذي تحمله المفردة اليونانية ، فقد كانت الثقافة العربية على قدر هائل من الدهاء لغوي في التعامل مع المادة المعجمية الملتقطة من بيئات دخيلة وهو أمر تمرست عليه حينما التقطت ما ضمته ثقافة الهند والفرس ، لذلك لم تجد الثقافة العربية صعوبة في تكييف الاستعمال المعجمي العربي مع المادة المقتبسة من أي رافد ثقافي.

إن نجاح الفكر العربي كان رهيناً بمكونين استطاع أن يحققهما في محضن تغلب عليه الممارسة الدينية التي تشكل محركاً إيديولوجيا للنخب ومعطى أنطولوجيا للعامة من الناس يوجه ويؤطر الحياة العامة، فكل شيء يدور في فلك هذا المكون سياسة واقتصادا وطقسا اجتماعيا وتفكيراً وسلوكاً وممارسة وأي خروج عنه يعتبر مروقاً وغلواً أو تحللاً لذلك كان لابد من توظيف مكونات الفلسفة اليونانية بشكل دقيق في استلهام إبستيمي للمعطى المتلائم مع الثقافة الدينية خشية نشوء صراع عقدي كان الفكر العربي في غنى عنه بعدما أذكته المرجعيات الثقافية المشبعة بالحمولات الدينية المغايرة للخطاب الإسلامي ، غير أنه كان من المحتمل جداً أن يقع وهو ما حصل فعلا حينما نشأ الصراع والتناظر الفكري الفلسفي بين فلاسفة الإسلام في التعامل مع المعطى الميتافيزيقي ومحاولة تفسيره والإجابة عن غموضه للوصول إلى الحقيقة وهو ما أنتج ذلك الخطاب الفلسفي الذي ناهض محاولة تفسير الغيبي مع الإمام الغزالي في رده على الفلاسفة في كتابه تهافت الفلاسفة ليأتي دور ابن رشد في كتاب تهافت التهافت وإن حاول أغلب فلاسفة الإسلام التوفيق بين الدين والفلسفة في محاولة لإخراج فكر عربي يستطيع أن يفسر الميتافيزيقي بمنظور عقلاني وحسي أحياناً حاولته فلسفة المعلم الثاني أبو نصر الفارابي مع ما جر عليه من انتقادات كبيرة ، أما المكون الثاني فهو قدرة المعجم العربي وليونته بالقدر الذي جعله مستوعباً للمادة اللغوية المقتبسة مما جعل الجهاز المفاهيمي مطواعا للعربية ونسقها ، فقد كان من الصعب على ثقافة عربية ارتكزت على الخطابة والشعر في بعدها السوسيوثقافي أن تقبل بدخيل ثقافي يجيب عن أسئلة ميتافيزيقية ويسائل ما هو غيبي (المحرك الأول عند أرسطو والمثال الأول عند أفلاطون ) أو محاورة قضية العلل الأربعة ( المادية والصورية والفاعلية والعلية ) أو القضايا الماورائية ممثلة في تفسيرنشأة الوجود من ماء أوهواء أو تراب أو نار، لأن البيئة العربية مشبعة بالموروث الثقافي المتشكل من الشعر والسرد سواء في المحصن الشفهي أو الكتابي وهي بيئة تجذرت فيها عقيدة التوحيد ، فكان من العسير جداً عليها تقبل فكر فلسفي نابع من بيئة وثنية فكان لابد لفلاسفة الإسلام من التعامل مع الدخيل الثقافي بحذر شديد عبر أخذ جذورها الإبستمولوجية والتعامل مع أبعادها الفكرية وتكييفها مع البيئة العربية وقطف ما يصلح منها ويتلاءم مع طبيعة التوجه الفلسفي العربي الذي يظل حبيس المعتقد ولا يستطيع تجاوزه وإن هو فعل ذلك فإنه سيجد العدوان الفكري والهجوم المعرفي قائما على قدم وساق مثلما حصل للغنوصيين وأتباع الأفلوطينية المحدثة ، لذلك فالفكر العربي استطاع حقيقة في ظل الزخم الكلامي المحتدم أن يتوفق في إحلال مشروع فلسفي جديد أفاد الثقافة العربية وأرسى لها دعامات جديدة افتقدتها لقرنين من الزمن يبتدئ أولها بزمن الوحي وينتهي آخرها عند القرن الثاني الهجري لما ساد هذه المرحلة من تهيئة فكرية كانت بمثابة الطريق المعبد للإنتاج الفكري والفلسفي الذي ستحفل به الثقافة العربية في مرحلة المثاقفة الفعلية لأنها ستشكل أساسا قويا لبناء المشروع الفلسفي العربي في مرحلة احتاج فيها الفكر العربي أكثر من أي وقت مضى لبعد زمن الوحي وتجذر العقيدة لمشروع فلسفي حقيقي يستطيع أن يعيد أبنية الفكر العقدي التي جاء بها الوحي إلى العقل العربي الذي كان يعيش نوعاً من التخبط والارتباك بسبب ما داخله من ثقافات جديدة بدأت تنعش فكرها العقدي وتخترق ثقافتنا العربية فلسفياً ودينياً.


★ كاتب ـ المغرب.

مقالات متعلقة

زر الذهاب إلى الأعلى